عندما فقد أبي الأمان
31-05-2019

 

(أحداث هذه القصّة مزيج من الواقع وخيالِ الكاتب)

***

يقف والدي على سطح بيتنا الريفيّ المطلّ على البحيرة القريبة، ويَجول بنظراته فوق الهضاب والجبالِ المحيطة بها، ثم يقول بصوتٍ واهنٍ: "ما أجملَ الحياة! وما أشقاها، وما أصعبَ فراقَها!" أضعُ كفّي على ظهره وأُربّتُّ عليه، فأسمعُه يتنفّس بعمق، ثمّ بصوتٍ مُتعبٍ يقول:

- تحتَ مياه هذه البحيرة مَلاعبُ طفولتي، ومُراهَقتي، وشبابي. هناك كبرتُ، وأصبحتُ رجلًا، ثمّ عجوزًا. هناك فتحتُ نوافذَ قلبي على محبّة الله، ورأيتُه في كلِّ ما حولي من خيرٍ وجمال: في سنابل القمح، وأزهارِ عبّاد الشّمس، وألوانِ قوس قزح. في نُسيْمات الليالي الصيفيّة، ودفءِ أشعّة الشّمس الهاربة من غيومِ شباط. هناك تَضرَّعتُ إليه. هناك صلّيتُ، وبكيتُ، وقرأتُ القرآن، وتمعّنتُ في كلماتِه ومعانيه.

يتوقّف فجأةً، ليخرج عن سياق الحديث، ويضيف بحسرة:

- وهناك، هناك أيضًا، تَركْنا قبورَ الأحبّة لتغمرَها المياه!

***

أعرفُ تلك القبورَ جيّدًا، وأتذكّر غابةَ السنديان التي كانتْ تُظلّلها، وأتذكّر المزارَ ذا المدخل الواطئِ، والقبر المغطّى بعشراتِ الطبقاتِ من الأقمشة الخضراء. وأذكر كيف كنّا في طفولتنا نجعل من "قبور الأحبّة" أحصنةً نمتطيها، ونُمعنُ في لطمِ جوانبِها بأقدامنا الصغيرة كي تُسرعَ بنا لنسابقَ الريح. وأُشفقُ اليومَ على أُمّي من الحَرَجِ الذي كُنّا نُسبّبه لها، إخوتي وأنا، جَرّاء أفعالِنا هذه، وأتذكّر هَمساتها الغاضبة، وهي تَنْهانا عن فعل ذلك، في حين كان أبي يَضحك قائلًا:

- دعيهم؛ فأرواحُ أجدادِهم سعيدةٌ بهم الآن.

ثم يقوم إلى الصلاة، ونتابع لَهوَنا مع رُفات أجدادِنا اللطفاء.

***

- لِمَنْ هذا القبر؟ سألتُ أبي يومًا بعد أنْ لحقتُ به إلى داخل المزار.

- إنّه مجرّد "تشريفة" لتكريم سيِّدِنا الخضْر عليه السّلام.

لمْ أفهم المقصود، لكنّني لمْ أسألْ أكثر. فما كان يهمّني، وأنا في ذلك العمر، هو الحرّيّة التي كنّا نَنعم بها ونحن نلعب ونضحك ونتسلّق ـــ كالسّعادين ـــ أغصانَ الأشجار. ويكمل أبي:

- شاركتُ في حفر قبورهم، وفي دفنهم، وقرأتُ الفاتحة على أرواحهم آلافَ المرّات. وعند سفح ذلك الجبل البعيد (يشير إلى حيث كانت قريةُ أمّي قبل أنْ تغمرَها المياه)، التقيتُ بأمِّكَ لأوّل مرّة. كنتُ شابًّا مُعتدًّا بنفسي، أحملُ بندقيّة الصّيد، وأجوبُ تلك المناطق بحثًا عن طيور الحجل والسمَّن والدرغل. رأيتُها منهمكةً بقطف حبّات الديس. "صباح الخير يا حلوة،" قلت، وأنا على بعد خطواتٍ منها. جفلتْ، وأطلقتْ صرخةً مكبوتةً، قبل أن تلتفت إليّ قائلةً بغضبٍ مشوبٍ بخوف: "امشِ بطريقك امشِ." فاعتذرتُ ومشيت. وبعد أسبوع ذهبتُ مع أهلي وطلبتُها من أبيها، فوافق بعد موافقتها. وحين سألتُها لاحقًا عن سرّ موافقتها الفوريّ، قالت: "عقوبةً لك، لأنّك أخفتني ذلك اليوم."

ثمّ ضحك أبي من قلبه، كما يضحك في كلّ مرّة يروي فيها هذه الحادثة التي كانت تُضحكني أنا أيضًا. وأَعْجَبُ اليوم من خفّة الدم التي أظهرتْها والدتي حينها، وهي ابنةُ خمسة عشر ربيعًا لا غير!

يتوقّف أبي من جديد كأنّه يبحث في ذاكرته عن شيءٍ ما، ثمّ يتابع بصوتٍ ومزاجٍ مختلفيْن:

- في ذلك المكان، حلمتُ بأنّ الله سيَرزقني صبيًّا جميلًا. وفي ذلك المكان، دفنتُ حلمي بيديّ هاتيْن (توفّي أخي البكر وهو في الثالثة). كان ضيفًا لطيفًا، لكنّنا لم نُحسنْ ضيافتَه. رأيتُه في منامي ليلةَ دفنه، جالسًا وسط هالةٍ من النّور يضحك ويلوِّح لي بيديه.

كان أبي يتحدّث كأنه يلقي قصيدةَ شعر. وبعد لحظات من الصمت، سمعتُه يتمتم بآياتٍ قرآنيّة. فتركتُه لروحانيّاته، وعدتُ بذاكرتي إلى الأماكن التي تحدّث عنها.

***

لا أنسى تلك الأيام، حين بدأ العملُ في إنشاء جسم السدّ، قبل أن تتشكّلَ هذه البحيْرة وتبتلعَ الهضبةَ الكبيرةَ التي كان يتربّع فوقها المزارُ وباقي القرى والأراضي والبساتين الموزّعة على طول النهر. وأفكّر أحيانًا:

ماذا لو حصل هذا في دولة أوروبيّة؟ ماذا كان سيفعل الأهالي؟ هل كانوا سيربطون أنفسَهم بأشجارهم كي لا تُقطع، أمْ سيفترشون الأرضَ أمام الحفّارات كي لا تُجرفَ أراضيهم وبيوتُهم؟ وهل كانوا سيخرجون بمظاهراتٍ للتأثير في الرأي العامّ، وإرغامِ الدولة على إقامة السدّ في مكانٍ آخر، أو على الأقلّ لإعادة النظر في تثمين ممتلكاتهم وتعويضِهم بشكلٍ عادلٍ ممّا فقدوه، أمْ سيكتفون بالتصفيق لأصحاب الخطب الرنّانة من المسؤولين والمتنفّذين الذين أكلوا عقولَهم بمفاهيمَ أخلاقيّة ووطنيّة مثل "تغليب المصلحة العامّة على المصلحة الشخصيّة"؟

ما إنْ اكتمل المشروعُ وصارت المنطقةُ قِبلةً للسيّاح والمصطافين، حتّى ظهرتْ نوايا هؤلاء المسؤولين والمتنفّذين الحقيقيّة على هيئة مطاعمَ وفنادقَ ومشاريعَ سكنيّة، وكلِّ ما يدرّ عليهم المالُ ويسيء إلى الطبيعة والإنسان. فتلوّثت الغابةُ، ومياهُ البحيْرة، بمخلَّفات تلك المنشآت. ومثلَها تلوّثتْ عقولُ الناس بعد أن غزتْها ثقافةٌ جديدةٌ عمادُها أخلاقُ السوق والاستهلاك. فترك الكثيرون العملَ في الأرض، وباتوا أصحابَ مقاهٍ ومطاعمَ، ومستثمرين صغارًا. ومن المفارقات أنّهم باتوا يشترون خضرواتِهم من البقّاليّة عوضًا من تلك التي كانوا يزرعونها أمام بيوتهم. أمّا نحن، ولأنّ جزءًا عزيزًا من ذاكرتنا يرزح تحت تلك المياه، فترانا نتحسّر كلّما وقفنا أمام هذا الجَمال، فتختلط مشاعرُنا: بين ألمِ الذكرى، ومتعةِ النظر.  

***

أذكر جيّدًا عمليّاتِ الحفر، والجَرف، وتفجيرِ الصخور. وأذكر ذلك النداءَ التحذيريّ: "بارووود... اهربوووااا،" الذي كان يسبق بلحظاتٍ صوتَ كلّ انفجارٍ يتردّد صداه في وادي النهر، ويعود إلينا على دفعات، ليزرعَ الرعبَ في قلوبنا، قبل أنْ يصبح من يوميّاتنا ونعتادَه. ومن الطريف أنّ جارَنا أطلق اسمَ "بارود" على جروٍ رآه يركض مذعورًا من أصوات التفجير، متخبّطًا بين الشاحنات وآلاتِ الحفر، فحمله إلى بيته واعتنى به، ليتحوّلَ هو نفسُه بعد عدّة سنوات إلى مصدرٍ للرعب بسبب شراسته وحجمِه، الذي فاق حجمَ أيّ كلب.

***

يتابع والدي  كلامَه وهو يشير إلى منتصف البحيْرة:

- هناك استُشهد جدُّك شهاب (هو في الواقع شقيقُ جدّي). كان يَفلح الأرضَ على الثيران صبيحةَ أحد الأيّام، وإذ بدوريّةٍ فرنسيّةٍ مؤلّفةٍ من خمسة عشر جنديًّا يمتطون الجياد. كان مطلوبًا من قِبل السلطات الفرنسيّة لأنّه من رجال الشيخ صالح العلي، لكنّه عاد إلى القرية عندما سمع بوفاة والده ليساعدَ أمَّه وإخوتَه الصغار. عاد ومعه بندقيّتُه التي غنمها في إحدى المعارك، وكانت مركونةً قريبًا منه. لذا حين رأى الجنودَ مندفعين نحوه، ركض إلى حيث البندقيّة، وتحصّنَ خلف صخرةٍ عظيمة. لكنّ الجنود حاصروه وأمروه بالاستسلام، فلم يستسلم، وبقي يقاومهم حتّى انتهتْ ذخيرته ـ ويقال إنّه قتل أحدَهم وجرح آخر. وعندما تقدّموا من مكْمَنه، خرج بسرعة البرق وحاول طعن قائدهم، لكنّ طلقاتِهم كانت أسرع.

سمعتُ هذه الحكاية عدّة مرّات، وأعرفُ تلك البقعة التي استُشهد فيها جدّي شهاب. ولطالما لعبتُ وأنا صغيرٌ هناك، واختبأتُ مثلَه خلف الصخرة التي صار اسمُها "صخرة شهاب،" وأطلقتُ النارَ من فمي "طاااخ طاااخ" على أعداء وهميين كنتُ أتخيّلُهم يتساقطون أمامي كالذباب. وقد اخترتُ ذلك المكانَ تحديدًا لأزوره برفقة أوّل فتاةٍ أحببتُها، وأتباهى أمامها بقصّة جدّي البطل، ثم أقطفُ من ثغرها قُبلتي الغراميّة الأولى؛ تلك القبلةَ التي قال عنها بعد ثلاثة عقود من الزمن أحدُ أصدقائي الشعراء: "إنْ لم ينل جدُّكَ أيَّ أجرٍ، أو ثوابٍ، لاستشهاده بتلك الطريقة البطوليّة، فتلك القُبلة كافيةٌ لإدخاله الجنّةَ بلا ريب."

***

- هل تذكر النبعَ الذي كنّا نرتاحُ عنده بعد تعب النهار؟

يعود أبي ليسألني قاطعًا عليّ تأمّلاتي.

- أظنّه كان هناك، قلتُ وأنا أشير بيدي نحو مضيقٍ بين جبليْن تحتلّه المياهُ وتُخفي معالمَه بشكلٍ كلّيٍّ تقريبًا.

- قرب ذلك النبع، جلستُ للمرّة الأخيرة مع ابن خالكَ نذير. هناك ودّعتُه قبل التحاقه بسلاح البحريّة.

ثمّ أضاف بغصّة:

- ولم أرَه ثانية. آه لو كان بالإمكان زيارةُ تلك الأماكن، ولو في الحلم.

كنتُ صغيرًا حين وَصَلَنا خبرُ استشهاد ابن خالي نذير. وعرفنا من قائده، الذي جاء ليقدّمَ واجبَ العزاء مع مجموعةٍ من زملائه المقاتلين، أنّه خرج في مهمّةٍ حربيّةٍ أوّل أيّام حرب تشرين 1973، وأصيب زورقُه بصاروخٍ إصابةً مباشرة، فمات جميعُ من كانوا فيه. ولم يعثروا على شيءٍ من جثامينهم على الرغم من بحثهم الطويل.

يتابع أبي وهو يشير بيده بعيدًا:

- وتحت قارب الصيد الصغير ذاك، تقع الأرضُ التي كنّا نزرعها لوبياءَ وفليفلة وبندورةً وكلَّ ما يخطر في بالكَ من أنواع الخُضْروات. في تلك الأرض، لدغتْ إحدى الأفاعي الأجيرَ الذي كان يعمل عند جدّك. لدغتْه في أسفلِ كعبه. ولسماكة جلده في ذلك المكان (بسبب سيره حافيًا صيفًا شتاءً)، فقد علقتْ أنيابُ الأفعى بكعبه. ولم ينتبهْ إليها إلّا بعد أنْ ماتت لكثرةِ ما داس رأسَها. وما أشدَّ ما ضحِكنا حين رأيناه ينحني لينزعَ أنيابَها من كعبه، ثمّ يرمي بها بعيدًا ويعود إلى عمله، كأنْ لا شيءَ حصل!  

***

يتابع أبي حديثه ليخبرَني حكاياتٍ وقصصًا غريبةً ومضحكةً عن الدراويش، والمجانين، والباعةِ المتجوِّلين على البغال، وعن ذلك الغجريّ الذي مات على مشارف قريتنا، فدفنَه أهلُه هناك وتابعوا مسيرَهم، فصارت عمّتي تزورُ ذلك القبر كلّ صباح، وتضع عليه أغصانَ الحبق والريحان، وتبكي عنده لأنّه وحيد وغريب في هذه البلاد. ثمّ ينتقل إلى الحكايات المخيفة، فيحدّثني عن قطّاع الطرق، وغزواتِهم الليليّة، وكم قريةً جرى حرقُها، وسَرِقةُ محاصيلها، والاعتداءُ على سكّانها. ويعود ثانيةً إلى أخبار الفرح، والأعراسِ التي كانت تُقام في ليالي الصيف على بيادر القرى، ويُسمَع فيها صوتُ الطبل والزمر وزغاريد النساء. ولفتَني تكرارُه بعضَ الجمل مثل "كنّا نعيش بأمان،" و"كنّا سعداء،" و"كنّا بسطاء." فسألتُه عن الأمان الذي يتكلّم عنه، وكيف يكونون آمنين واللصوصُ، وقطّاعُ الطرق، في كلّ مكان؟ فقال باختصار:

- لا تخلو الحياةُ من المصاعب.

ثمّ أضاف:

- بالمناسبة، كانت قريتنا في منأًى عن كلّ ذلك.

وقبل أنْ أسأله: كيف ذلك؟  قال:

- كنّا في حماية سيّدنا الخضْر!

ولاحظَ ابتسامتي التي لم أستطعْ إخفاءها، فنظر إليّ نظرةَ عتبٍ وسألني: 

- أتعلم متى بدأتُ أشعرُ بعدم الأمان؟

وأدهشني حين تابعَ، قائلًا:

- عندما هدَمْنا بيتَنا الترابيَّ القديم، وعمّرنا مكانَه بيتًا من الإسمنت، له بابٌ قويّ، وسورٌ من الحديد.

قالها بعد تنهيدةٍ طويلة، ورأيتُ الدموعَ تترقرق في عينيه.

***

اختار أبي بنفسه مكانَ قبره. أوصى بأن يُدفنَ على تلّةٍ مقابلةٍ لقريتنا، تُشرفُ على بُحيرة السَّدّ. نفّذنا وصيّتَه، وصرتُ كلّما ذهبتُ لزيارته، أقفُ وأُمعنُ النظر في تلك المناظر وأتذكّر ذلك الحديث.

بعد سنوات، حصل الكثيرُ من التغيّرات، آخرُها هذه الحربُ التي تخوضها بلادُنا اليوم، فأفقدتْنا توازنَنا، وجعلتنا نعيد النظرَ في الكثير من أفكارنا وقناعاتِنا ومبادئنا وأحكامِنا. ولهذا، كنتُ في أمسّ الحاجة إلى مكانٍ آمنٍ ومريحٍ ألوذ به، بعيدًا عن كلّ ذلك الصخب والعنف. فصرتُ أذهب إلى القرية في نهاية كلّ أسبوع وأنامُ هناك، لأستيقظ فجرًا، وأشرب قهوتي على شرفة بيتنا، وأراقب شروقَ الشّمس، قبل أن أعودَ إلى عملي في المدينة، فأضيعَ من جديدٍ بين همومي ومشاكل الناس.

***

في أحد تلك الأيّام، استيقظتُ كعادتي فجرًا. وبعد تناولي فنجانَ قهوتي المعتاد، خرجتُ أتمشّى، فقادتني خطواتي إلى ضفاف بحيرة السّدّ. كان منسوبُ المياه قد انخفض بشكل كبير بسبب شحّ الأمطار خلال العاميْن الماضييْن. تذكّرتُ أمنيةَ أبي في أن يزور تلك الأماكن ولو في الأحلام، وقررتُ أن أنوبَ عنه في تحقيقها.

خلعتُ ملابسي ورميتُ بنفسي إلى الماء عاريًا. كانت المياه باردةً، لكنّني لم أهتمّ. بدأتُ أسبح من دون توقّف، إلى أنْ بلغتُ وسطَ البحيرة، حيث يُفترض وجودُ المقبرة والمَزار. أخذتُ نفَسًا عميقًا وغطستُ. كانت المياه صافيةً بطريقةٍ مذهلة، فاستطعتُ رؤيةَ القبور، وتمييزَ تفاصيل المكان الذي أحفظُه عن ظهرِ قلب. لم يكن يفصلني عن الأرض تحتي سوى متريْن أو ثلاثة أمتار. عدتُ إلى السطح. أخذت نفَسًا عميقًا آخر، وغطستُ من جديد.

***

يا الله ! هذا قبرُ جدّي شهاب، وإلى جواره قبرُ جدّي الآخر. هناك قبرُ امرأة عمّي. وإلى يمينها قبرُ أخي الصغير. يليه القبرُ الرمزيّ لابن خالي الشهيد. كان قلبي يخفق بشدّة، وأنفاسي تتقطّع وأنا تحت الماء. فصرتُ أخرجُ لأتزوّدَ بالهواء كلَّ عدّة ثوانٍ، ثمّ أغوص من جديد. حرصتُ على عدم لمس أيّ شيء كي لا أُعكّرَ الماء، فأفقدَ القدرةَ على الرؤية بسبب الطمي المتراكم فوق كلّ الأشياء.

سبحتُ ناحيةَ المَزار، فوجدتُه على حاله، باستثناء فتحةٍ صغيرةٍ في زاويته اليمنى جرّاء انهيار قسمٍ من السقف. رأيتُ بابَ المزار مفتوحًا. نظرتُ إلى الداخل وشعرتُ بالرهبة، لكنّ رغبتي في الدخول كانت أقوى من الخوف.

أمسكتُ بكلتا يديّ جانبَي المدخل، ودفعتُ نفسي نحو الداخل بقوة. كان الظلامُ شديدًا، ولولا حزمةُ النور المتسرِّبة من تلك الفتحة في السقف لما رأيت شيئًا. ها هي الأقمشة لا تزال تغطّي القبرَ كما رأيتُها آخر مرّة. ابتسمتُ رغمًا عنّي، وأنا أتذكّر كيف كنّا نتسابق في طفولتنا لسرقة النقود التي كان يتركها الزوّار، وكيف كنّا نقرأ الفاتحة بوجوهٍ خاشعة كي تصبحَ سرقتُنا حلالًا، كما "أفتى" أكبرُنا.

استدرتُ ونظرتُ خلف الباب، فرأيتُ ما توقّعتُ وجودَه: الحجرةَ الأسطوانيّةَ الكبيرة التي كان يدحرجها الناسُ فوق ظهورهم المُتعبة، وأرجلِهم المتصلّبة، لكونها "تُشفي من كلّ علّة" كما قال لي يومًا خادمُ المَزار. كنت أعلم أنّ هذه الفرصة لن تُتاحَ لي ثانيةً. لذا كنتُ أبقى تحت الماء أطولَ فترةٍ ممكنة في كلّ غطسة، لأضيفَ إلى ذاكرتي ذاكرةً أخرى.

***

بعد نصف ساعة من الغطس، والسباحة، واسترجاعِ الذكريات، ومغالبةِ الدمع، ومقاومةِ الغصّة، سمعتُ جلبةً، وانتبهتُ إلى بعض السيّارات، وإلى "بلدوزر" ضخم يحفر الطريقَ قريبًا من مدخل القرية. ثم رأيتُ جنديًّا بسلاحه الكامل، يتفحّص ثيابي ويفتّشها. وعندما سمعني أصرخ بأعلى صوتي لأنبّهَه إلى وجودي، نظر نحوي مليًّا ثمّ رفع بندقيّته وأطلق رصاصةً في الهواء.

سبحتُ في اتجاهه وأنا أراقب الحركة فوق الطريق، لأكتشفَ أنّ ثمّة دبّابةً قد تموضعتْ في أوّل القريّة حيث كان يحفر البلدوزر. وصلتُ إلى مكانٍ أستطيع الوقوفَ فيه، والجنديُّ لم يبرحْ مكانَه. كان الماء يغمرني حتى سرّتي. وما إنْ صرتُ بذلك القرب منه حتّى انفجر صارخًا:

- ماذا تفعل هنا؟

لم أعرف بمَ أجيبُه! أأقول إنّني كنتُ أزور مقامَ الخضْر عليه السلام؟ أمْ كنتُ أضع الزهورَ فوق قبر جدّي؟ أمْ ماذا؟! في تلك اللحظة، انتبهتُ إلى أنّه يحمل في يده هويّتي الشخصيّة. لاحظ أنّني أنظر إليها، فسألني:

- أهذه لك؟

- نعم، قلت، وأنا أتقدّم نحوه، لتظهرَ عورتي من تحت الماء.

شعرتُ أنه سيطلق عليّ الرصاص بسبب ارتباكه ووضعيّةِ الدفاع عن النفس التي اتَّخذها. لكنّه تمالك نفسَه حين وجدني "ربّي كما خلقتَني،" فأدار وجهَه جانبًا، تاركًا لي المجالَ لأرتدي ملابسي. وبينما كنتُ أفعل ذلك، سألني من جديد ماذا كنت أفعل هنا في هذا الوقت. أخبرتُه أنّني في قريتي، وأنّ بيتي يقع على بعد أمتارٍ من مكان وقوفه، وأنّ تلك الدبّابة تتموضع في بستان البرتقال خاصّتي، وأنّه شخصيًّا يقف الآن على أرض جدّي الشهيد شهاب!

عند سماعه هذه الكلمات، تغيّرتْ ملامحُ وجهه، وبانت عليه الحيرة. لكنّه بعد قليل من التفكير أعاد إليّ هويّتي وطلب منّي مغادرةَ المكان. وقبل أن أذهب، سألتُه:

- ماذا تفعل هذه الدبّابة هنا؟

- إنّها لحمايتكم، قال، وكأنّه يوبّخني.

فشكرتُه، وتابعتُ طريقي وأنا أتذكّر الأمانَ الذي حدّثني عنه والدي، عندما استبدلوا ببيتهم الترابيِّ القديم بيتًا آخرَ حديثًا، له بابٌ قويٌّ، وسورٌ من الحديد.

اللاذقيّة

 

عصام حسن

رسّام كاريكاتير، وكاتب من اللاذقيّة، سوريا. أقام العديد من المعرض في سوريا وشارك في معارض خارجها، له مؤلّفات عديدة، منها: ما قلّ ودلّ وهيك وهيك  (رسوم كاريكاتيريّة)، غيمة الشعر الوردية، وأكره اللون الأحمر (نصوص ورسومات للأطفال)،الحرب ومربّى الفريز،  وحدثينا يا شهرزاد، وعن الحب وفأر الطحين (نصوص وحكايات مختلفة).