(ندوة خاصة بمجلة الآداب، من إعداد: يسري الأمير)
شارك فيها بالترتيب الألفبائيّ: أحمد الحلّاني، أسعد ذبيان، باسل عبد الله، عربي العنداري
المحور الأول: الاسم، البدايات
*نرحّب بكم في مجلة الآداب. هذه الندوة جزءٌ من ملفّ أشمل، والهدفُ منها نوعٌ من القراءة الداخليّة لهذا الحَراك. أبدأ من التسمية. لماذا كان اسمُ هذه النشاطات المتنوّعة: الحَراك؟
أسعد: أعتقد أنّ مَن أطلق هذه التسمية كان الإعلام، الذي حار في تسمية تلك النشاطات المتنوّعة، ولا سيّما مع تعدّد المجموعات التي تدعو إليها. هذه التسمية، إذن، فُرضتْ علينا كمجموعات، لكنّها سمحتْ لكلٍّ منها بالحفاظ على استقلاليّتها، وعلى قدرتها على العمل منفردةً، مع الحفاظ على الأهداف الجامعة للمجموعات. أكنّا راضين عن هذه التسمية؟ لا.
أسعد ذبيان، ناشط في حملة "طلعت ريحتكم" |
*ما كانت اقتراحاتُكم في هذا الصدد؟
أسعد: بالنسبة إلينا كمجموعة "طلعتْ ريحتكم،" كنّا نتوقّع أن يحدث معنا ما حدث مع تحرّكاتٍ سابقة. كنّا نرى في تجربة "هيئة التنسيق النقابيّة" نموذجًا يُحتذى: فلهذه الهيئة جسمُها التنظيميّ، ورئيسُها، وممثلّوها، وهي تتّخذ قراراتِها بنفسها؛ وكنّا نحن (أفرادًا وأحزابًا...) ندعم نشاطاتِها من غير التدخّل في بنيانها التنظيميّ وآليّات اتّخاذ قراراتها. "طلعتْ ريحتكم" كانت، في البداية، هي الأخرى، مجموعةً مطلبيّةً في موضوعٍ محدّد، هو النفايات. لكنْ، مع تفاقم القمع، ظهرتْ إرهاصاتُ العام 2011، وتمثّلتْ في شعار "إسقاط النظام،" لا الاكتفاء بمحاسبة وزير الداخليّة والمطالبة باستقالة وزير البيئة.
الأمر المثاليّ بالنسبة إليّ كان كالآتي: هنالك حملة اسمُها "طلعتْ ريحتكم،" وككلّ شيء لها عيوبُها، ولكنّها تحتوي عناصرَ إيجابيّةً عديدة. من هذه العناصر، الاسم: فـ "طلعتْ ريحتكم" اسمٌ موفّقٌ وذكيّ وجذّاب في التسويق؛ يمكن أن يتناول موضوعَ النفايات، ويمكن أن يتوسّع ليطاول قضايا أخرى توحي برائحة الفساد. في بدايات التحرّكات التقينا العديدَ من المجموعات التي أعلنت استعدادَها للعمل تحت سقف "طلعتْ ريحتكم" من غير أن تطالب بالتدخّل في آليّات اتّخاذ القارارت والتخطيط للنشاطات. مجدّدًا أقول: هذا كان الأمرَ "المثاليّ" في رأينا، عوضًا من تعدّد الأقطاب والمطالب والنشاطات والإستراتيجيّات.
بعد أحداث 22 آب، أو خلالها، كنّا مِن أوائل مَن استنتجوا أنّنا لا نستطيع أن نكمل وحدنا في إدارة هذه النشاطات. فحاورتُ عربي العنداري، واتّفقتُ معه على حاجتنا إلى إطارٍ أوسعَ على أساسٍ ينطلق من أنّ البيان السياسيّ الذي قدّمناه حتّى تلك اللحظة، وطريقةَ العمل، وإدارةَ العمل، أمورٌ ناجحةٌ يمكن البناءُ عليها وتبنّيها من قِبل الجميع. ولهذا عُقدتْ أولى الاجتماعات التنسيقيّة للمجموعات المشاركة في الحَراك، وفيها طرحنا رؤيتنا بخصوص تبنّي آليّات عمل "طلعتْ ريحتكم."
لم يتمّ التوافقُ على طرحنا، لكنْ بقي يومَها اسمٌ جامعٌ هو اسم مجموعة "طلعتْ ريحتكم." وهذا لم يكن أمرًا موفّقًا يومها؛ فانفتاحُ الإطار تحت اسمٍ واحدٍ يفتح المجالَ للجميع كي يتكلّموا باسم "طلعتْ ريحتكم،" وهذا ما استمرّ حتّى التاسع والعشرين من آب.
في الثاني من أيلول، اقتحمتْ "طلعتْ ريحتكم" مبنى وزارة البيئة، واعتصمتْ داخله، وذلك في الوقت المحدّد لاجتماعٍ تنسيقيّ بين المجموعات. كان دخولُنا الوزارةَ غيرَ معلنٍ مسبّقًا، واتّخذ طابعَ السرّيّة، أوّلًا لدواعٍ أمنيّة (حتّى لا يتسرّب الخبرُ فتحتاط القوى الأمنيّة له وتفشله)، وثانيًا لأنّ مهلة الاثنتين والسبعين ساعة التي أعطيناها للحكومة كانت على وشك النفاد من دون أن يقدّمْ أحدٌ [من المجموعات] خطّةً لإجراءٍ يمكن اتّخاذُه. وفيما نحن في الوزارة، خُلق اسمٌ جديدٌ في الاجتماع المنعقد بين المجموعات، هو "ائتلاف 29 آب،" ودعا إلى مظاهرةٍ من دوننا ردًّا على نشاطنا الأحاديّ. ولا أخفي أنّ ردّة فعلنا في "طلعتْ ريحتكم" على هذا التصرّف كانت سلبيّة وغيرَ متعاونة مع هذا الائتلاف.
عربي: ما عرضه أسعد عن موضوع تسمية "الحراك" والواقع الإعلاميّ صحيح. قبل اقتحام وزارة البيئة كانت الأمورُ تأخذ منحًى إيجابيًّا باتّجاه تشكيل نوعٍ من الائتلاف تحت اسمٍ جامع. وأشير، في هذا الصدد، إلى دورٍ مهمٍّ لأسعد.
بالعودة إلى اسم "الحراك،" في العامّ لم يكن منطقيًّا أن نذوبَ جميعًا في كيانٍ واحدٍ موجود. الموضوع له علاقة بهويّة الحَراك: أهو ائتلاف؟ أمْ تحالف؟ ما هي هويّته حتّى نسمّيه؟ كنّا، من جهتنا، نسعى إلى صيغة ائتلافٍ بين مكوّنات الحراك، يَسمح للمجموعة الواحدة بإعلان مواقفها من قضيّةٍ معيّنة، وفي الوقت ذاته يكون هنالك خطابٌ جامعٌ باسم الائتلاف يحتضن النشاطاتِ المتعدّدة. وهنا أشير إلى أنّ مصلحتنا اقتضت أن نُبْرز هذا التعدّد، بين المجموعات المدنيّة والسياسيّة، وبين القديم والجديد، وغير ذلك. وأضيف أنّ شكل الائتلاف كان سيَسمح بتنظيمٍ أفضل للنشاطات، إذ يمكن حينها 1) الاتّفاقُ على الخطوات وتوزيعُ المهامّ، عوضًا من أن نضيعَ في "فردانيّةِ" كلّ مجموعة وآليّاتِ عملها؛ 2) التقاطُ أنفاسنا وعدمُ الجري خلف الشارع من غير رؤيةٍ أو خطّةٍ أو اتّفاق. 3) الظهور إعلاميًّا بشكلٍ أفضل، فلا ندّعي أنّنا نتكلّم باسم الناس جميعًا، بل باسم ائتلافٍ يكون قد اتّفق على خطابٍ ذي سقفٍ محدّدٍ في اجتماعات الائتلاف التنسيقيّة.
في المقابل أرى أنّ هواجسَ بعض المجموعات من هذا الاسم الموحّد قد تكون مفهومةً؛ فمن وَجد أنّ اسمَه كان "السبّاق،" وكان "جاذبًا وجامعًا" للناس، سيخشى الذوبانَ في ائتلافٍ أوسعَ باسمٍ آخر، وسيخشى أن يُجَرّ إلى مواقعَ وسقفِ مطالبَ وخطابٍ سياسيًّ لا يتبنّاها في الأساس.
على أنّني، إذ أقدّر هواجسَ بعض المجموعات من ذلك الأمر، أرى في اعتبارها نفسَها "صانعةً للتحرّكات الكبرى،" مثل مظاهرة الثاني والعشرين من آب، توهّمًا غيرَ منطقيّ. إنّ "الاسمَ المدروسَ" أو "العنوانَ الجذّابَ" [المقصود: "طلعتْ ريحتكم"] أو "قواعدَ التحشيد الواقعيّة"... ليست هي ما صَنع ذلك اليومَ المهمَّ، بل ما صنعه هو تراكُمُ النفايات وأداءُ السلطة المعيبُ في هذه القضيّة. ثمّ إنّ نهارَ 22 آب هو نتيجةٌ لتراكمِ ما قبله. بمعنًى آخر: إنّ إغلاقَ مطمر الناعمة، وانتفاضةَ بلدة "برجا" ضدّ رمي النفايات، واعتقالَ أسعد ووارف ولوسيان وحسن في 19 آب، ورفيقٍ لنا في اتّحاد الشباب الديمقراطيّ (لم ينل "حظوةَ الإعلان")، والمشادّةَ التي حصلتْ بين الناشط طارق الملّاح ووزيرِ الشؤون الاجتماعيّة رشيد درباس، وغيرَ ذلك، كانت هي الممهِّداتِ التي دفعت الناسَ إلى النزول إلى الشارع ذلك اليوم.
لقد أثبتت الأحداث أنّ الأمور لا تقاس بمعيارٍ ثابت: فأحيانًا كان السقف الـ"واقعيّ" للمطالب ممتازًا، وأحيانًا أفادنا أن يرتفعَ هذا السقف. ما أريد قولَه هو أنّ التنوّع الذي ساد الحراكَ كان غنًى له، وقد احتاج إلى إطارٍ يجمعه في ائتلاف... وهذا ما أخفقنا في تحقيقه.
أحمد: أبدأ أوّلًا بنسبة الفضل إلى مجموعة "طلعتْ ريحتكم" في تهيئة الجوّ العامّ للتحرّك ــــــ بدءًا من حملتهم الدعائيّة، وصولًا إلى النشاطات المتفرّقة التي قاموا بها في البدايات. لكنّي أشير إلى أنّ مجموعاتٍ أُخرى كانت تحضّر في الوقت نفسِه لنشاطاتٍ أيضًا، مثل مجموعتنا، "بدنا نحاسب،" التي كانت قد أنشأتْ صفحةً اسمُها "نحو جمهوريّة جديدة،" وكانت تحضّر لحراكٍ مختلفٍ في التكتيكات عن نشاطات "طلعتْ ريحتكم."
أحمد الحلّاني، ناشط في حملة "بدنا نحاسب" |
إذن، كنّا قد باشرنا في تكبير مجموعة "نحو جمهوريّة جديدة." وأذْكر هنا أنّ توقّعاتنا لم تحسبْ أنّ الحَراك سيبدأ في تمّوز، بل في في أيلول؛ والسبب أنّنا توقّعنا أنّ مأزق الحكومة وشللها سيؤدّيان إلى عجزها عن دفع رواتب الموظّفين والقوى العسكريّة في أيلول، ما يشكّل دافعًا لتململ الناس ولنزولهم إلى الشارع، فنكون مستعدّين لذلك مسبّقًا. لكنْ، مع تراكم النفايات في تمّوز، سنحت الفرصة لـ "طلعتْ ريحتكم" في التقاط اللحظة المناسبة، في حين أخطأنا في تقدير حجم هذه الأزمة واعتقدنا أنّ النفايات ستُلمّ من الطريق لا أن تُترك بهذا الشكل.
في هذا الوضع، ومع تفاقم الأزمة ونشاطات "طلعتْ ريحتكم،" كان السؤال: هل نبقى جانبًا أمْ نشارك؟ في هذا الوقت أطلقتْ صفحتُنا هاشتاغ #بدنا_نحاسب، فتمّ تداولُه بشكلٍ كبير، وكان مفاجئًا في لبنان أن يجدَ مطلبٌ غيرُ طائفيّ مثلَ هذا التجاوب. وفي الثاني والعشرين من آب مارست الدولةُ في حقّ المتظاهرين عنفًا غيرَ مسبوق، فكان ردّنا أن نصبْنا الخيامَ في الطريق. ثم أحضرت المجموعاتُ الأخرى خيامَها وشاركتنا في الاعتصام، وكان ذلك مدعاةَ ارتياحٍ لنا، ونمنا في ساحة رياض الصلح التي كانت الدولة تحاول طردَنا منها. وقد أسهم هذا القمعُ، وغيابُ وزير الداخليّة في "عطلته الراقصة" خارج البلاد، وغيابُ قائد الشرطة، وتصريحاتُ بعض السياسيين، في دفع الإعلام إلى الإحاطة بنشاطات الحراك يومها. ولهذا، امتلأتْ ساحة رياض الصلح في اليوم التالي بالناس، وحينها بدأ ظهورُنا كمجموعات ناشطة نال أعضاؤها نصيبَهم من القمع ليلًا.
في هذا اليوم قامت مجموعة "طلعتْ ريحتكم" بأمريْن اعتبرهما الناشطون الآخرون تفرّدًا منها في قيادة حَراكٍ يشارك فيه الجميعُ: الأوّل كان إعلانَها في اليوم التالي عن مظاهرة الساعة الخامسة، والثاني كان إعلانَها فضّ الاعتصام وتوزيعَ الورود على القوى الأمنيّة للدلالة على لاعنفيّة المجموعة!
مع احتشاد المظاهرة وقعتْ مصادماتٌ مع القوى الأمنيّة، ورُميت الحجارةُ في اتّجاهها، فأعلن ناشطو "طلعتْ ريحتكم" عن وجود "مندسّين" في المظاهرة، وعن انسحابهم من ساحة رياض الصلح إلى ساحة الشهداء بعيدًا عن السراي الحكوميّة ومجلس النواب...
أسعد (مقاطعًا): للإيضاح هنا، ما لم نرتحْ له ليس الصدامَ (الطبيعيّ) مع القوى الأمنيّة، بل توافُدُ مجموعاتٍ شبهِ منظّمةٍ إلى ساحة رياض الصلح، ورفعُهم شعاراتٍ طائفيّةً، فخفنا من توجيه الحراك إلى منحًى طائفيّ يقضي عليه.
عربي: قرار العودة ــــــــــ لا الانسحاب ـــــــــــ إلى ساحة الشهداء لم يكن محصورًا بمجموعة "طلعتْ ريحتكم" بل شاركها فيه آخرون (وأنا منهم). إذ لم تكن لدينا خطّةٌ لاقتحام السرايا الحكوميّة، بل كان هدفُنا الحقيقيّ هو المجلس النيابيّ. لكنّنا كنّا ضدّ تسمية "المندسّين،" ولا سيّما أنّ المندسّين الأوائل في المظاهرة كانوا من القوى الأمنيّة وأجهزةِ الاستخبارات المختلفة. التعابير التي استخدمها بعضُ ناشطي "طلعتْ ريحتكم" ـــــــ لا أسعد تحديدًا ــــــــ أظهرتْ وكأنّ ثلاثمائة شخص مدفوعٍ لهم قد جاؤوا للتخريب؛ وهذا ليس دقيقًا. هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى لا أستطيع أن أكون انتقائيًّا في اختيار الناس، وأن أضْمن أنّ جميعَ المقهورين المشاركين في مظاهرة أو نشاط سيكونون على "مقاييسي." بعضُ هؤلاء الشبّان "المندسّين،" بعد أن هدأت الأحوال، ورحل مَن كان يحرّكُهم، استطعنا استيعابَهم، بل أمضينا معهم واحدة من أجمل السهرات!
أحمد: هذا صحيح. وحين سمعناهم في آخر الليل شكُوا لنا معاناتَهم، من فقرٍ وبطالةٍ وغيرِ ذلك. كانوا شبّانًا طحنتْهم الحياة، ولقد نزلوا إلى الحَراك لأنّهم يعانون، ولأنّ ساحة الحراك قريبةٌ من الأحياء التي يعيشون فيها، ولأنّهم لم يعد لديهم ما يخسرونه.
بقينا في الساحة نمارس نشاطاتِنا اليوميّة، من مسيراتٍ واعتصاماتٍ ومؤتمراتٍ صحفيّة، حتّى نهار 29 آب، حين اتّضح لنا جميعًا أنّ الأمر أكبرُ من قدرة مجموعةٍ واحدةٍ على إدارته وتنظيمه، وذلك مع توافد حشود الناس إلى الساحات. كنّا ندرك يومها أنّ أحدًا منّا لم "يُنزِل" الناسَ إلى الطريق، بل الناس هم الذين نزلوا بهمومهم؛ ولذا رأينا معنا مَن يطالِب بقانون الجنسيّة، وعودة الكهرباء، والقضاء على البطالة...
باسل: أعتقد أنّ تسمية "الحَراك" جاءت من نشاطاتٍ سابقة منذ سنوات، وأقصد نشاطات "إسقاط النظام الطائفيّ" سنة 2011، وبعد ذلك، في سنوات 2012-2014، مع "الحَراك المدنيّ للمحاسبة." كانت هذه الحَراكات تكرّس مفهومَ "الحَراك المدنيّ." وفي سنة 2015 بدأت النشاطاتُ الصغيرة الأولى مع "طلعتْ ريحتكم." في هذا الوقت تداعيْنا في "الحَراك المدنيّ للمحاسبة" لدراسة الموقف واتّخاذ الخطوات المناسبة. وكانت أوّل دعوةٍ للاجتماع في مركز "تيار المجتمع المدنيّ" يوم 24/7/2015، وذلك قبل أيّ نشاطاتٍ فعليّة، وكان الغرض تدارُس الوضع ورسم خططٍ للتحرّك، وقرّرنا المشاركة في نشاطٍ تحضّر له "طلعتْ ريحتكم." مساء يوم 25/7/2015، تمّت خطواتٌ أولى، أعتبرُها شرارةَ الحَراك، بحضورنا وحضور "الحركة البيئيّة" و"طلعتْ ريحتكم،" وبمشاركةٍ مميّزةٍ من "النادي العلمانيّ في الجامعة الأميركيّة في بيروت."
إذًا، النشاط الفعليّ المؤثّر الأوّل كان بدعوةٍ من "الحَراك المدنيّ للمحاسبة،" الذي عقد مؤتمرًا صحفيًّا يوم 27/7/2015 للدعوة إلى تحرّكٍ صباح اليوم التالي (بالتزامن مع انعقاد مجلس الوزراء). وقد شاركتْ في هذا المؤتمر الصحفيّ الحركةُ البيئيّة، وحملةُ إقفال مطمر الناعمة، ومجموعة "طلعتْ ريحتكم." ومع تأجيل اجتماع مجلس الوزراء في اليوم التالي، جرى تنظيمُ مسيرة في شوارع بيروت، لكنّها خرجتْ عن مسار مُنظّميها وامتدّت إلى شارع الحمرا حيث وقعتْ مواجهة مع الوزير رشيد درباس. ثم كبرتْ كرةُ الثلج بعد ذلك، وتوالت الاعتصاماتُ اليوميّة.
هنا أحبّ أن أفصّل رأيي في الجمهور الذي يشارك في الحَراك. إنّه ثلاثةُ أقسام: الأوّل هو مجموعة الناشطين المعروفين، وهم المبادرون، ولا يتعدّوْن الثلاثمائة شخص. القسم الثاني هو بضعةُ آلافٍ من العَلمانيين اللاطائفيين، وهم الحلقة الأكبر من الناشطين، ويدعمون الحَراكَ دومًا. أمّا القسم الثالث فهم الحلقة الكبرى، عامّةُ الناس. في الحَراك الأخير كان العديدُ من الناشطين يأملون في تحرّك القسم الثالث، واستقطابِهم للنزول إلى الشارع. وأعتقدُ أنّ جزءًا من الاختلاف بين المجموعات كان في التوجّه إلى الجمهور: فبعضُها استهدف القسمَ الثاني وحده، وبعضُها راهن على القسم الثالث.
أعتبر أنّ "طلعتْ ريحتكم" كانت تأمل في مشاركةِ عامّةِ الناس. لكنّ بعض المجموعات الأخرى لم تستهدفْ إلّا المتحرّرين من أفكارهم المسبّقة، أطائفيّةً كانت أمْ حزبيّة، وهذا في رأيي لا يغيّر في الأمر شيئًا ولا يوسّع دائرة المشاركين في الحراك.
وبالعودة إلى انطلاق الحراك، فبعد الاجتماعات التنسيقيّة، ولا سيّما اجتماع 23/8/2015 قرب ساحة رياض الصلح، والذي ضمّ عشرَ مجموعات، منها خمسُ مجموعات ضمن "الحَراك المدنيّ للمحاسبة،" جرى الاتّفاقُ على اسم حملةٍ يمكن أن يضمّ المجموعات المختلفة تحته. ونحن دعمنا، كـ "تيار مجتمع مدني،" اسم "طلعتْ ريحتكم" لأنّنا اعتبرناه اسمًا جاذبًا يمكن أن يحتمل الجميعَ تحت لوائه، وعلى أساس أن يكون الجميع جزءًا من هذا الحراك ومشاركًا في قراراته وخططه وفي تنفيذها. من هنا فإنّنا نفرّق بين مجموعة "طلعتْ ريحتكم"، التي نتعاون وننسّق معها ولها تنظيمُها الخاصّ، وبين حملة "طلعتْ ريحتكم" التي اعتبرنا أنفسَنا، في شهر آب، جزءًا منها، واعتبرناها الإطارَ الجامعَ للمجموعات الناشطة، وتوقّفنا عن تنظيم نشاطات تحت اسم "الحَراك المدنيّ للمحاسبة" لصالح توحيد الجهود في إطارها.
أحمد: جزء أساسيّ من تحفّظاتنا يومها كان نابعًا من الأسلوب الشخصيّ لبعض أعضاء "طلعتْ ريحتكم" في الحوار واتّخاذِ القرارات وفرضِ الاعتراضات. لم تكن تحفّظاتُنا نابعةً من موقف مبدئيّ ضدّ التنسيق.
***
المحور الثاني: الإنجازات والإخفاقات
*هل من إنجازاتٍ لهذا الحَراك؟
أسعد: أعتقد أنّ إنجازَه الأوّل هو إخراجُنا من دائرة الإحباط واليأسِ واللامعنى، وإدخالُنا في دائرة الإحساس بالفاعليّة المدنيّة. الإنجاز الثاني هو دخولُ الحراك في أساس تقويم الخطاب السياسيّ في البلد، بل هو طغى على نقاشاتٍ أخرى كانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة أو التمديدِ للمجلس النيابيّ. أمّا الإنجاز الثالث فهو القدرة على حشد عشرات الآلاف من الناس من دون رشًى أو إنفاقٍ ماليّ، ومن دون تحريضٍ طائفيّ أو استقطابٍ سياسيّ، كما هو موجود في البلد؛ فالناس نزلتْ لغرضٍ مطلبيّ عامّ، لا فئويٍّ محدّد. الإنجاز الرابع هو وقفُ عجلة الصفقات التي كانت تُحضَّر في البلد: فعوضًا من شركة "سوكلين" واحدة كان الفضاءُ مفتوحًا أمام قيام أكثر من شركة مماثلة؛ وعوضًا من المطمر الواحد كنّا سنجد عشراتِ المطامر التي لا تراعي أدنى الشروط الصحيّة والبيئيّة؛ وكان كلُّ زعيم يحضّر "أزلامَه" للاستفادة من مزراب الفساد. وهنا لا أُنكر أنّ الخلافات السياسيّة ــــــ النفعيّة بين السياسيّين قد ساعدتنا في تحقيق هذا الإنجاز.
من الإنجازات أيضًا إغلاقُ مطمر الناعمة، وتأكيدُ هذا الإغلاق. وقد كان من أهدافنا الضغطُ لإجبار الوزراء المختصّين على الاستقالة، لكنّ تركيب البلد ــــــ والمصادفة هي التي جعلتْ رئيسَ الحكومة ووزيرَي الداخليّة والبيئة من التيّار السياسيّ/ الطائفيّ نفسِه ــــــ حال دون تحقيقنا هذا المطلب نظرًا إلى حملة التسييس التي قوبلنا بها.
باسل: أزيد على إنجازات الحَراك خطابَه الواضحَ خارج اصطفاف 14 و8 آذار، وعدمَ ارتهانه لزعاماتٍ سياسيّةٍ داخليّة، أو لسياسات دولٍ خارجيّة، برغم اتّهام بعض الساسة له بذلك ــــــ لكنْ هذا ما عهدناه من هؤلاء في مواجهة التحرّكات الشبابيّة غير الطائفيّة. وأضيف إلى إنجازاته اقتحامَ الوجوه الشبابيّة الجديدة عالمَ السياسة والإعلام، فأوصلتْ صوتًا مختلفًا إلى الناس.
أسعد: معك حقّ، وقد شاهد الناسُ أبناءَ العشرين عامًا أخبرَ وأكثرَ درايةً بالمواضيع التي يطرحونها من السياسيّين المخضرمين.
*لكنّكم في "طلعتْ ريحتكم" ناضلتم لتحديد أهداف مرحليّة قابلة للتحقّق، وذلك لم يتمّ.
أسعد: كنّا مِن الداعين إلى الموافقة المشروطة (وأشدّد على المشروطة) على خطّة الحكومة في 9 أيلول، وإلى التفاوض مع الحكومة على آليّة تنفيذها وعلى مراقبة هذا التنفيذ، وإلى فتح مطمر الناعمة لسبعة أيّام كما طلبت الخطّة. كان من واجبنا أن نلاقي الحكومة في منتصف الطريق، وأن نتفاوضَ معها لانتزاع مكسبٍ منها. وفي اجتماع التنسيق مع المجموعات طالبتُ بذلك. كان في إمكاننا تقديمُ سلّة شروط، وقد اختلفنا في ما بيننا على طاولة التنسيق: فهنالك مَن رفض لأسباب مبدئيّة، معتبرًا أنّ إعادة فتح المطمر، ولو لمدّة محدّدة، انكسارٌ للإنجاز الأساسيّ؛ وهناك مَن رفض لأسباب سياسيّة، معتبرًا أنّه لن يقبل بأقلّ من هزيمة الدولة في هذه المعركة.
عربي العنداري، ناشط في الحراك المدنيّ، عضو في "اتّحاد الشباب الديمقراطيّ" |
عربي: مرّ أنّ المجموعات لم تصل إلى مواقفَ موحّدة في قضايا معيّنة. لكني أرى أنّ الخلاف كان ضمن المجموعة الواحدة، بما فيها مجموعة "طلعتْ ريحتكم" (فبعضُ أعضائها لم يكونوا في وارد التفاوض مع الحكومة تحت أيّة تسمية). شخصيًّا كنتُ أحضّ مجموعتي على الحنكة في التفاوض، إذا اضطُررنا إليه؛ لكنْ كان علينا أن نقدّم لأصحاب المطالب ما يقْنعهم أولًا! فكيف أقنع المطالبين بإغلاق مطمر الناعمة بفتحه، وهو إنجازُهم الوحيد، كرمى لعينيْ أكرم شهيّب [وزير الزراعة المكلّف بموضوع النفايات بدلًا من وزير البيئة]؟
أعترفُ بوقوع أخطاء، وبوقوعنا جميعًا أحيانًا تحت سطوة التصعيد. لكنّي لا أستطيع، بعد كلّ ما فضحناه من فساد الدولة والقوى السياسيّة المنضوية تحت لوائها، أن أستدير وأقولَ للناس: "ها أنا ذاهب لأفاوض هؤلاء الفاسدين!". لو فعلتُ ذلك فسأتلاعب بصدقيّتي أولًا، وبتمثيلي ثانيًا. فمن أنا لأفاوض عن الناس جميعًا؟ هل انتخبني الناس؟ مَن أنا لأطالب أهالي الناعمة بفتح المطمر الذي دمّر البيئةَ عندهم؟
من ناحية ثانية كان سهلًا أن نخطئ وأن نقع في الفخّ. والسبب أنّنا لم ننتظم في آليّةٍ واحدةٍ تجيد اتّخاذَ قرارٍ جماعيّ. الائتلاف هو الذي يفاوض، لكنْ ليس للحراك مثلُ هذه القدرة أو الصفة.
أحمد: من الإنجازات أيضًا تعزُّزُ مفهوم "الرقابة الشعبيّة" لدى الناس، حتى صارت آلاتُ تصويرهم جاهزةً لدى رؤية أيّ مخالفةٍ أو نشاز. كذلك جرت إعادةُ تسليط الأضواء على مفاهيم أجهزة الرقابة، بعد أن كادت تغيب عن الأذهان تعابيرُ مثل "ديوان المحاسبة" و"التفتيش المركزيّ" و"مجلس الخدمة المدنيّة" التي لم يكن الناس يعرفون أنّها من أجهزة الرقابة على عمل موظّفي الدولة.
كذلك نلاحظ تطوّرَ الخطاب في مواجهة الدولة، وإمعانَه في العلميّة والتخصّص من غير الدخول في تفاصيل غير مفيدة (كانتماء الوزير السياسيّ). مع الحَراك بات الكلامُ عن الدولة كأداء، وعلى أساس ملفّاتٍ مدروسة، كملفّ البيئة المرتبط بالنفايات، حيث قدّم الحَراكُ خطابًا مميّزًا، وعرض بدائلَ علميّةً متطوّرةً بعيدًا عن منطق تقسيم الحصص الذي تعمل وفقه قوى الدولة السياسيّة.
وأخيرًا، أشير إلى وصول أصداء الحَراك إلى الجسم القضائيّ. وضمن المجالس الخاصّة بدأ يُسمع تململُ بعض القضاة من الوضع الحاليّ، ومن ذوبان هيبة القضاء، وفقدانِ الثقة به نظرًا إلى وقوفه المتكرّر في خدمة المآرب السياسيّة.
باسل: أفاض الزملاءُ في تعداد الإيجابيّات، ولن أزيد. لكنّني أودّ التوقّفَ عند الحائط الذي رُفع في ساحة رياض الصلح لحماية السرايا الحكوميّة؛ فهذا الحائط انتُزع بعد اثنتيْ عشرة ساعةً لا أكثر! لقد كان واضحًا للجميع ضعفُ هذه السلطة، وقِصرُ نظرها، وتخبّطُها. وعلى عكس الحَراكات السابقة، وصل الناسُ هذه المرّة إلى الثقة بالنفس وعدمِ الخوف عند توجيه اتّهاماتهم إلى أيٍّ من المشاركين في السلطة. وربّما كان ذلك من أبرز إنجازات الحراك.
*لعلّ من أسباب وصول الحراك إلى هذا الحال من الكمون أو الخمود هو أنّ المجموعات لم تتفق على صيغةٍ تساعدها على المواجهة وتوزيع الأدوار. هل كان يمكن أن تتأطّر هذه المجموعات في ائتلافٍ واحدٍ برؤيةٍ وخطّةٍ موحّدتين؟
عربي: قناعتي أنّ ذلك كان ممكنًا، لكنّه يحتاج إلى ثلاثة عناصر: الثقة، والتواضع، والنضج في العمل. والعنصر الثالث مهمّ لأنّه يجنّبنا الخضوعَ للضغوط، ولاسيّما ضغطُ الإعلام وضغطُ الناس؛ فللمجموعات مواقعُ على مراكز التواصل الاجتماعي (فيسبوك بشكل خاصّ)، تضمّ آلافَ الناس بين مشجّعٍ وشاجبٍ وساخر. ولا ننْكر أنّنا في كثير من الأحيان رضخنا لهذه الضغوط، وغيّرنا رأينا بما يتناسب والمزاجَ العامَّ.
*ربّما هي المرّة الأولى التي نسمع فيها نقدًا لوسائل التواصل الاجتماعيّ في الحراكات الشعبيّة!
عربي: لا أُنكر إيجابيّات هذه الوسائل، لكنّني أسلّط الضوءَ هنا على سلبيّاتها التي نهملها عادةً. وهنا لا تنسَوا أنّ أكثر الأصوات تأثيرًا هي الأصواتُ الاعتراضيّة؛ أمّا مَن هم معك فيكتفون بكبسة "لايك" (يعجبني) وينتهي الأمر! وهنا نعود إلى فكرة غياب التنظيم في عملنا، وانطلاقِنا دومًا من اللحظة الآنيّة؛ وهذا ما يجعل عملنا محكومًا بردود الفعل، لا بالتخطيط المسبّق، ويجعلنا محمومين في التحضير لنشاطٍ سريعٍ آخر.
وأخيرًا، كان يمكن تخطّي كلّ الصعوبات وإنشاء ائتلاف جامع لو أنّ القناعة بمثل هذا الائتلاف وأهمّيّته كانت في المستوى ذاته عند الجميع.
*هل كانت المشكلة في "طلعتْ ريحتكم" التي بدت الأبعدَ عن التسييس وعن الفكر اليساريّ؟
عربي: الأمر لم يكن محصورًا في مجموعة بعينها. في مراحلَ كثيرة كنتُ أقربَ إلى أسعد ذبيان [في "طلعتْ ريحتكم"] من الكثير من الرفاق اليساريين. وفي تقويمي أنّ كلّ الجالسين حول هذه الطاولة اليوم هم من اليساريين. لكنّكم تعرفون أنّ "اليسار" درجات: من الاشتراكيّ إلى الشيوعيّ، ومن التروتسكيّ إلى اللينينيّ، وغيرِ ذلك. في كلّ الأحوال فإنّ معظم القضايا التي اختلفنا حولها لم تكن قضايا إيديولوجيّة، بل أبسط من ذلك بكثير: كخلافنا حول النزول إلى ساحة رياض الصلح أو إلى ساحة النجمة مثلًا!
*ما كانت نسبةُ العامل الذاتيّ في هذه الخلافات؟ أهو صراع "الإيغوات"؟
عربي: نسبة العامل الذاتيّ هي أكبرُ النِّسَب! لكنّني أتحفّظ عن موضوع الـ "إيغو." فمفهوم "العامل الذاتيّ" قد يرتبط بالفرد، ولكنّه قد يرتبط أيضًا بمصلحة المجموعة (كما تقدّرها هي) أو بعصبيّتها؛ وهو على علاقة بالثقة بالآخر.
ثم إنّ الخلافات تنتج أيضًا من التفاصيل التكتيكيّة، لا من الخلافات الفكريّة الإيديولوجيّة، أو من العامل الذاتيّ وحده. التفاصيل كانت تخلق تشنّجاتٍ عند المجموعات، التي تشعر أنّها تُجرّ إلى مواقفَ ونشاطاتٍ لا تستطيع تحمّلها. فرميُ الحجارة على الشرطة، مثلًا، كان بالنسبة إلى بعض المجموعات خطًّا أحمرَ لا يمكن القبولُ به؛ وفي المقابل اختلف بعضُنا مع مجموعاتٍ كان حدُّها الأقصى توزيعَ الورود على عناصر الدرك!
أسعد: بالنسبة إلى فكرة الائتلاف، فقد كانت هناك وجهتا نظر، لكنّ ما غلب هو القناعة التامّة بضرورة التنسيق الذي سعينا إليه. هنا أشدّد على أنّ الأسلوب الذي نتبنّاه في مجموعة "طلعتْ ريحتكم" مختلفٌ عن أساليب بعض المجموعات السابقة. فنحن نتبنّى أسلوبَ المواجهة اللاعنفيّة إزاء عنف السلطة عبر نشاطاتٍ لاعنفيّةٍ، ولكنْ موجعة، تؤمّن تعاطفَ الناس. كما أنّنا لا نرى أنّ الشكل الأوحدَ للنشاطات هو التظاهرات. بالنسبة إلينا، الأجدى هو مراكمةُ ضرباتٍ صغيرةٍ مختلفة تسمح للناس بالتعرف إلينا، وتعطينا القدرةَ على الحشد لاحقًا. وأضيف هنا تمرّسَنا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ، إذ تمكنّا من عرض قضايانا على هذه الوسائل متحرّرين من الوسيط الإعلاميّ التقليديّ، التابعِ للسلطة بطريقةٍ أو بأخرى؛ ومن هنا، كنّا نعمل يومين من أجل إنتاج فيلم بدقيقة واحدة، يشاهده أربعمئة ألف، ينزل منهم عشرةُ آلاف للمشاركة في نشاط ندعو إليه.
في ما خصّ اتّهامَنا بأنّنا غيرُ مسيّسين، فالعكس هو الصحيح، والصحيح هو أنّنا نفكّر في السياسة بطريقة مختلفة. فنحن مثلًا نعرف أنّ قضيّة النفايات هي قضيّة سياسيّة بامتياز، لكنّ مواجهة النظام من هذه الزاوية [ايْ زاوية تقاعسه في قضية النفايات] تعرّيه وتكشف ما فيه من فسادٍ وسرقة. كذلك كنّا ضدّ تعدّد المطالب؛ فقد جرّبنا ذلك في "حملة إسقاط النظام الطائفيّ" في العام 2011، لا بل جُرّب ذلك منذ العام 1974 حين كانت التظاهراتُ تبدأ بالمطالبة بتوحيد الجامعة اللبنانيّة وتنتهي بعد ساعة بشعارات تحرير فلسطين! إنّ تعدّد المطالب بهذه الطريقة يعني أنّنا ضائعون لا نعرف ما نطالب به. وكان أمامنا مثالٌ آخر عمّا نخشاه، وهو مآلُ الحركة الوطنيّة اللبنانيّة إبّان الحرب؛ فقد بدأتْ حركةً وطنيّةً عَلمانيّة، وانتهت أداةً عند الإسلام السياسيّ في مواجهة المسيحية السياسيّة. في القياس هنا كنّا حريصين على ألّا نكون أداةً عند 8 آذار أو 14 آذار؛ وكنّا حريصين أيضًا على ألّا نكون أداةً عند اليسار كي يبني مشروعَه على حسابنا ــــــ وأذْكرُ اليسار هنا لأنّه كان موجودًا في الحَراك، لكنّنا لن نقبل أن نكون أداةً لأيّ طرف كان.
*بحسب ما ذكرتَ سابقًا تمْكن رؤيةُ الأمر على الشكل الآتي: العبْ بذكاء تحت مظلّة "طلعتْ ريحتكم"!
أسعد: ليس ذلك دقيقًا. لقد قدّمنا للجميع اسمًا ["طلعتْ ريحتكم"] صار له وزنُه في الرأي العامّ، وهو اسمٌ نظيف، بلا ارتباطاتٍ سابقةٍ مؤْذية. وقدّمنا أيضًا جمهورًا متعطّشًا للتحرّك. ودعوْنا الجميعَ إلى المشاركة في القرار ضمن شروطٍ تضمن نجاح هذا الحَراك، وقد عرضناها سابقًا، والغرضُ منها هو ألّا تتكرّر تجربةُ "حملة إسقاط النظام الطائفيّ" وتجاربُ أخرى سابقة.
بالعودة إلى موضوع انعدام الثقة، فقد كانت ثقةُ المجموعات الأخرى بنا مهزوزةً، فأنتجتْ مجموعتُنالاثقةً مقابلة. وتفاقم الوضع، فصرتَ تجد فردًا يتحدّث باسم الحَراك ويضع على موقعه الشخصيّ "خطّة الحراك"! ردود الفعل جعلتنا نظلم الائتلافَ الذي كان البعضُ يسعى إليه. فبالنسبة إلينا كان الائتلاف بين أطراف ثلاثة: 1) طرف أسميناه اليسار. وهذا، بالرغم من تعدّد اتّجاهاته، اعتبرناه مؤمنًا بالثورة وبتعدّد الشعارات الثوريّة المسقَطة من السبعينيّات، أكثرَ من إيمانه بالعمل النضاليّ. 2) طرف شكّله المجتمعُ المدنيّ، المتنوّع أيضًا، وكنّا نعتبر أنّه لا يريد أيّ شكل من المواجهة. 3) وكنّا نرى أنفسنا طرفًا في الوسط، ضابطًا للإيقاع. وربّما تكوّنتْ لدينا هذه الشوفينيّة التي تشعرون بها: نحن سنسير وعليكم أن تتبعونا!
*هل ربطتم أحدًا من الحَراك بـ 14 آذار؟
أسعد: لم نربط مجموعات، بل ربطنا أشخاصًا. وكنّا نشعر أنّ بعض الأفراد في "بدنا نحاسب" أقربُ إلى 8 آذار، فيما هناك أفرادٌ آخرون أقربُ ربّما إلى 14 آذار...
*لكن هل ربطتم مجموعة ما بـ 14 آذار؟
أسعد: نحن، وآخرون، كنّا حاسمين في عدم الميْل إلى أيّ من الطرفين، والناس الذين نزلوا إلى الشارع هم مَن فرضوا علينا شعار "كلّن يعني كلّن" قبل أن نقولها نحن.
نحن أيضًا سعينا إلى أن تكون الخطواتُ العمليّة على الأرض غيرَ "محسوبة" على طرفٍ سياسيّ معيّن. وكنّا، كلّما رأينا الدفّة تميل لتخدم مشروع فريقٍ ضدّ فريق سياسيّ آخر، نعمل على إيجاد "روابط" بين الفِرق المختلفة سياسيًّا، لأنّها، كلّها، متواطئة في الملفّات المعيشيّة وفي التغطية على الفساد. وقد قدّمنا عدّة ملاحظات إلى بقيّة المجموعات حول خياراتها في العمل والتصرّف، خصوصًا في بداية الحَراك عندما حُيّد وزيرا المال والكهرباء ــــــــ المحسوبان سياسيًّا على 8 آذار ــــــــ من قِبل بعض المجموعات؛ وقد أفضى نقاشنا مع هذه المجموعات إلى تحرّكها ضدّ هذين الوزيريْن أيضًا!
باسل عبد الله، ناشط في "تيّار المجتمع المدنيّ" |
باسل: من السلبيّات التي أحاطت بالحَراك النضجُ القاصر، الذي أدّى بنا إلى البقاء مفكّكين. وأعتقد أنّ عربي العنداري كان أكثرَ مَن حثّنا على التغاضي عن الحزازات، وعلى التوحّد. هذا النضج القاصر أدّى إلى تثبيط الروح، ودفع بالمجموعات إلى اعتماد الكيْديّة. من جهةٍ أخرى كانت هنالك خشيةٌ مبطّنةٌ عند البعض من أن تتولّى قيادةَ هذا الحَراك شخصيّاتٌ معروفة. وهناك الإيغو الخاصّة (الذاتيّة المفرطة) ومعاندتُها لأيّ محاولةِ توحيد؛ وقد أدّى ظهورُ مجموعة "بدنا نحاسب" إلى التخفيف من إيغو "طلعتْ ريحتكم،" فدخلنا مرحلة "توازن الإيغويات"!
أعتقد أنّنا لم نكمل التفكيرَ في تطوير عمل الحَراك بما يتعدّى مسألة النفايات، والانتقال إلى الخطوة الكبرى، ألا وهي: بلورةُ ائتلافٍ أو تجمّعٍ سياسيّ مواجهٍ لقوى الواقع الحاليّ، ويكون ذا خطابٍ خاصّ. وأنا أرى أنّنا كنّا قادرين على ذلك، بالاستناد إلى تراكمات نشاطاتنا السابقة، منذ العام 2011، وما زلنا قادرين على الوصول إلى ذلك في المستقبل، لكنّ ذلك يحتاج إلى تنازل المجموعات لصالح العمل التشاركيّ.
أحمد: نحن في حملة "بدنا نحاسب" لم نكن نرى ضرورةً لقيام ائتلافٍ أو ما شابه. لم تقْنعنا الإجاباتُ في التمييز بين "الحراك" و"الائتلاف." لكنْ، في الوقت نفسه، كنّا دائمًا مع وحدة المجموعات ضمن استقلاليّة كلّ مجموعة، أيْ: وحدةِ المجموعات في العناوين العريضة والتحرّكات المركزيّة، مع احتفاظ كلٍّ منها بحرّيّة القيام بنشاطاتها الفرديّة. (بالمناسبة، لو كنتُ في ائتلاف، وأردتُ تنفيذَ أمرٍ رفضه الائتلافُ، فما الذي يمنعني من الخروج منه وتنفيذِ ما يحلو لي؟!)
أمّا لماذا لم تستطع هذه المجموعاتُ أن تَفرض شيئًا من وحدة الحالِ في ما بينها، فله أسبابٌ. منها أنّ بعض الوجوه القديمة حملتْ خلافاتِها السابقةَ إلى الحَراك الجديد. ومنها أنّ الإعلام فاقم مشكلةَ ضعف الثقة بين الأفراد والمجموعات؛ ففي المراحل الأولى انقسم الإعلامُ في نسبته الحَراكَ إلى 8 أو 14 آذار، وصدّق الكثيرُ من الناس هذا (لكنّ عامل الثقة هذا تحسّن لاحقًا وصار للمجموعات ما يشبه الحالَ الواحدة). ومنها قضيّةُ الـ"أنا" المتضخّمة عند البعض.
وأخيرًا، فإنّ المجموعات لم تكن متّفقةً على ما تعتبره مجموعتُنا الوسيلةَ الرئيسةَ لخلق فجوةٍ في السلطة السياسيّة من أجل تغييرها، وأعني: المطالبة بقانون انتخابٍ نسبيّ خارج القيد الطائفيّ، وبلبنان دائرةً انتخابيّةً واحدة. ففي خطاب بعض المجموعات ذُكر مرّةً "قانون الستّين" السيّئ، ليعود بعدها الكلامُ على "قانون انتخابيّ عادل" ــــــ وهو مصطلحٌ مطّاطٌ يمكن أن نُدرج تحته كلَّ شيء!
أسعد: تعقيبًا على ما ذكره أحمد، أعترفُ أنّنا لم نكن "ممتنّين،" في البدايات على الأقلّ، من مشاركة "بدنا نحاسب" في النشاطات؛ فتارةً ترى بعضَ أعضائها يصرّحون لوسائل الإعلام بما لم نتّفق عليه ("كلّن مش يعني كلّن")، وطورًا يقومون مع آخرين بنشاطاتٍ لا علاقة لنا بها ولكنّنا نتحمّل وزرَها مع ذلك (مثل نشاط "الزيتونة باي" الذي قامت به مجموعة "جايي التغيير"). وأمّا قانون "الانتخاب النسبيّ خارج القيد الطائفيّ" فلا أظنّ أنّ "طلعتْ ريحتكم" تعترض عليه؛ المشكلة أنّ الناس عامّةً هم الذين لا يستسيغونه، والناسُ هم بوصلتنا.
أحمد: هذه الأخطاء كانت فرديّة وغيرَ مخطّط لها. وبالنسبة إلى نشاط "الزيتونة باي" فقد كان جيّدًا في أهدافه، لكنّ التنفيذ جاء سيّئًا جدًّا.
عربي: عندي تعليقات كثيرة، وأبدأها بالإشارة إلى أنّ المجموعتين الأكثر تأثيرًا، وأقصد "طلعتْ ريحتكم" و"بدنا نحاسب،" لم تقتنعا ــــــــ كلّ منهما لأسبابٍ خاصّة بها ــــــــ بفكرة "الائتلاف، واليوم نسمع ذلك صراحة. وأشيرُ هنا إلى استفادة الطرفيْن من لعبة الإعلام، وحرصِهما على الإطلالات الإعلاميّة بأيّ غرض، ما شجّعهما على المزيد من التفرّد في الخطوات.
لكنّني أرى أنّ هنالك تطورًّا طاول طريقةَ العمل. فبالعودة إلى "حراك إسقاط النظام الطائفيّ" في العام 2011، فقد كنّا أفرادًا بلا أيّ توجّه إلى التنظيم والتأطير، وكانت الاجتماعاتُ تضمّ مائة شخص أحيانًا، والكلّ يتحدّث فلا نسمع أحدًا ولا نصل إلى نتيجة، وأجزم أنّ "فوبيا" التنظيم أو المجموعات كانت مسيطرة. أمّا الحَراك الحاليّ فقد بدأ أساسًا بالتنظيم: فانتظم الأفرادُ السابقون في مجموعات؛ ومَن لم يجد نفسه في هذه المجموعة التحق بأخرى.
التطوّر الآخر الملحوظ هو رفعُ عناوين متدرّجة وقابلة للتطبيق. خذ شعار "طلعتْ ريحتكم" نفسه مثلًا: فقد جاء بصيغة بالجمع، لا "طلعتْ ريحتك يا وزير البيئة" (أو غيره). المقصود أن المجموعة رفعتْ شعارًا مختصًّا بمطلبٍ واحدٍ هو معالجة مشكلة النفايات، لكنّها ربطته عبر اسم المجموعة بحالةٍ رمزيّةٍ أكبر. وهذا إيجابيّ في رأيي، لأنّ هذا الربط بين شعار تقنيّ تفصيليّ ومشكلةٍ أكبر وأكثر تعقيدًا صار بديهيًّا عند الجميع.
***
المحور الثالث: الحَراك إلى أين؟
*الحَراك اليوم ليس في أفضل أحواله. السؤال: هذا الحَراك إلى أين؟
باسل: أرى أنّه يجب البدء بالتفكير في المستقبل البعيد لأنّ الحَراك المدنيّ، في رأيي، قد أدّى دوره. نعم، ما زال هناك مطلبٌ متعلّقٌ بالنفايات، ويجب أن يُتابع. الحراك انتهى في مرحلته الحاليّة، وعلينا الآن أن نتواصل في المراحل القادمة كمجموعاتٍ قدرُها أن تتلاقى. كما أنّ علينا أن نستفيد من أخطائنا مرّةً جديدةً، كما استفدنا من أخطاء حراك "إسقاط النظام الطائفيّ" في العام 2011، ونفكّر في بناء إطار كبير يُشكل حالة مدنيّة ــــــ سياسيّة جامعة خارج اصطفافيْ 8 و14 آذار؛ حالةً مدنيّةً سياسيّةً جديدةً تنطلق من اجتماعات قد تبدأ منذ الآن، فتبني على ما يَجمع بيننا، على تنوّعنا، وتتكتّل خارج سياسات الطبقة الحاكمة (سياسة الأشخاص والمصالح) لتحمل همومَ الناس وحقوقَهم من خلال ما نسمّيه "سياسة القضايا،" وتكون جاهزةً للتعامل مع أيّ حدث مقبلٍ والتفاعل معه برؤية واضحة وتنظيم فعّال.
وفي حال وجود قانون انتخابيّ مشترك قائم على النسبيّة، فقد تترشّح مجموعةٌ من شبابنا لإيصال أصواتٍ جديدةٍ إلى الندوة النيابيّة تتفاعل مع مطالب الناس.
نحن، في "تيّار المجتمع المدنيّ،" لدينا فكرةٌ تتبلور شيئًا فشيئًا، وهي تنطلق من مَحاور العمل التي أطلقها في توصياته مؤتمرُ العَلمانيين في العام 2006. واليوم، مع رحيل المطران غريغوار حدّاد، نتداول فكرةَ مؤتمرٍ ثانٍ للعلمانيين، تحت إطارٍ مدنيّ تكريميّ له، تُشارك فيه قوًى لاطائفيّة وعَلمانيّة خارج اصطفافَيْ 14 و8 آذار، ويمكن أن يخرج بما يبني للخطوة البعيدة.
أمّا في ما خصّ التكتيكات الآنيّة، فنحن نلتقي المجموعات الأخرى، ونتابع خطواتِها، ونشارك فيها، وهذا ما قمنا به أساسًا منذ بداية هذا الحراك، ونعمل على أن تبقى في إطار جامع يفضي إلى نتائج.
عربي: للمستقبل اتّجهان في رأيي، غير المشاريع الخاصّة بكلّ مجموعة. الاتّجاه الأوّل هو بناءُ مشروع ائتلاف، أو تحالف، بين مجموعات شبابيّة وتيّارات المجتمع المدنيّ ومجموعات سياسيّة أو نقابيّة إلخ. أمّا الاتّجاه الثاني فهو إعادة ضخّ الروح في هذا الحراك ــــــ وهنا أنا لستُ متفائلًا، لكنّ القيادة الجديدة لـ "اتّحاد الشباب الديمقراطيّ" ربّما تكون أقلَّ معاناةً منّي، ومن ثمّ أكثرَ تفاؤلًا واستعدادًا للمتابعة.
لإعادة تنشيط هذا الحراك هناك مسألتان يجب التنبّهُ إليهما، موضوعيّةٌ وذاتيّة. على الجانب الموضوعيّ ما زالت حكومتُنا تتخبّط وترتكب المعاصي، وعجزتْ عن إنتاج حلّ للنفايات؛ وهذا ما يمكن أن يعيد استفزازَ الناس، على الرغم من "تأقلم" بعضهم مع النفايات في الشوارع. أمّا السبب الذاتيّ فيجب أن نجد له علاجًا؛ فالمجموعتان الأكثر تأثيرًا في هذا الحراك، وكانتا عنصرًا رئيسًا في نجاح بعض محطّاته، هما ذاتُهما السببُ الأوّلُ لضمور الحراك، وأقصد بالطبع مجموعتَي "طلعتْ ريحتكم" و"بدنا نحاسب." فما ذكرناه من مشاكل الـ"أنا" وانعدام الثقة وانعدام التنظيم كانت أكثرَ بروزًا عندهما. ومثلما كان تفرّدُهما في السابق ضروريًّا لهما كمجموعتين كي تحافظا على "انفلاشهما الإعلاميّ،" فإنّني أرى أنّ الائتلاف الآن بات حاجةً ضروريّةً لهما للبقاء! فقبلًا كان اسمُهما يَلْمع ولو على حساب الحَراك الجامع؛ أمّا الآن فكلتاهما على قناعةٍ بأنّ موت الحَراك يعني اندثارَهما. لذا فإنّهما، إذا أرادتا البقاء، ملزمتان بالعمل على إحياء الحَراك. لكنّ ذلك لم يُترجم للأسف حتّى الآن.
أسعد: هنالك اتّجاه عند "طلعتْ ريحتكم" لإعادة تنشيط الحَراك، لكنْ ليس بغرض إنقاذها من الموت! تفكيرُنا ليس دائمَ الهجْس بالنزول إلى الشارع، بل العمل بطريقةٍ ذكيّة. هكذا، مثلًا، فضحْنا زيفَ إحدى الشركات التي قُبل عرضُها في موضوع ترحيل النفايات. ونجهّز حاليًّا حافلةً تتنقّل بين المناطق لإظهار وجود حلول بيئيّة سليمة لمشكلة النفايات. ونستطيع أن نكمل بالزخم ذاته، ولا ينقصنا النفسُ الطويل.
نحن نحرص على بقاء الحَراك كي يبقى مروحةً واسعة. ويمكن أن ترى حرصَنا في موقفنا من نشاطاتٍ لم نُشاوَرْ فيها؛ فنحن مثلًا لم نبلّغْ عن دعوة "بدنا نحاسب" إلى تظاهرة مؤخّرًا لكنّنا شاركنا فيها.
في آخر شهر كانون الأوّل أجرينا في "طلعتْ ريحتكم" تقويمًا ذاتيًّا شاملًا، وأعدنا توزيعَ المهامّ على الأفراد، وأنشأنا لجانًا، وعيّنّا مسؤولين عنها حتّى يصارَ لاحقًا إلى انتخابات ضمن كلّ لجنة. كما أنّنا قوّمنا الحضورَ الإعلاميّ لكلّ فردٍ فينا، وأبعدنا الأشخاصَ الذين قد يكون حضورُهم الإعلاميُّ إشكاليًّا، وعهدنا إليهم بنشاطات أخرى يتولّوْنها، ونعمل على تدريب لجنة الإعلام تقنيًّا. كذلك بحثنا في الموضوع الماليّ، وسبلِ زيادة دعمنا من قِبل الأفراد، مع الحرص على نشر التقارير الماليّة دوريًّا. وقد اتّخذنا قرارًا بأن تكون نشاطاتُ هذه السنة لاعنفيّة تمامًا، وحضّرنا العديدَ منها، وستكون مميّزةً بنوعها ووقعها المرح على الناس، متجنّبين أيّ نشاط يؤدي إلى صدام مع القوى الأمنيّة...
عربي (مقاطعًا): الشارع يفرض التكتيكات يا أسعد. الواقع يفرض منكَ ألّا تخذلَ الناس. في أحد الأيّام كنتَ على المذياع تنادي الشبابَ لكي يتقدّموا أكثر، برغم الضرب الأمنيّ الحاصل.
أسعد: لكننا لم نطلب من أحدٍ أن يرمي الحجارة! في كلّ الأحوال سنكمل أسلوبنا اللاعنفيّ، ونتمنّى أن نعمل مع "بدنا نحاسب" لأنّهم ناشطون وعلى الأرض، وهذا ينطبق على أيّ مجموعةٍ ناشطةٍ أخرى. سنعمل مع الجميع لتحقيق مكاسب للناس، ولا سيّما في القضيّة التي نزلنا إلى الشارع من أجلها، أيْ موضوع النفايات. والناس لن تنشدّ إليك من دون أن تحقّق مكاسبَ ملموسة.
الأمر الإيجابيّ أنّ "بدنا نحاسب" لاقتنا في موضوع عدم تشتيت المطالب؛ فهي تركّز على قضيّة النفايات وتؤجّل ملفّاتٍ أخرى. كما أنّها تبنّت مثلنا أسلوبَ اللاعنف، وهذا أمر ممتاز نستطيع أن نبني عليه. وهي اقتنعتْ أيضًا بموضوع إجراء تقويم ذاتيّ على الصعد كافّةً، ولا سيّما الصعيد الإعلاميّ.
أحمد: أشعر أنّ باسل وعربيّ متشائمان، على عكس أسعد. بالنسبة إليّ لا أرى أنّ الحراك قد انتهى! حراك "إسقاط النظام الطائفيّ" سنة 2011 كان ردّةَ فعلٍ على الربيع العربيّ؛ ومع المشكلة الأولى، المتمثّلة في الوضع في سوريا، انتهى ذلك الحَراكُ سريعًا. أما حَراكُنا اليوم فليس ردّة فعلٍ على أمر خارجيّ، بل وليدُ حاجةٍ داخليّة.
ذكرتُ سابقًا أنّ مجموعة "من أجل جمهوريّة جديدة" كانت تحضّر لإطلاق نشاطات احتجاجيّة في أيلول الماضي انطلاقًا من تقديرنا أنّ الدولة ستعجز عن دفع أجور الموظّفين والقوى الأمنيّة. لكنْ طرأتْ مشكلة النفايات قبل ذلك، فأطلقنا اسم "بدنا نحاسب" ولاقى استحسانًا من الناس، فقرّرنا تحويله إلى حملة. كان طموحُنا أن نَخلق اصطفافًا ثالثًا بعيدًا عن مكوّنَي النظام الأساسييْن، فجاء الحراك ليشكّل هذا الاصطفاف. ولا يحقّ لهذا الاصطفاف الثالث أن "يقرّر" الانسحاب، ولو اضطررنا إلى أن نكون نحن وحدنا هذا الاصطفاف! وإعرابُ مجموعات أخرى، وخصوصًا "طلعتْ ريحتكم،" عن استعدادها لإكمال العمل، يعني أنّ هذا الاصطفاف مستمرّ.
الحراك باقٍ ولو بمجموعةٍ واحدة. المستقبل القريب ينبئ بأزماتٍ كثيرةٍ يستطيع الحَراكُ الاستفادة منها، وأن يتدحرج ككرة ثلج، مستفيدًا من تراكم تجربته.
بيروت