لم أكن أعرف أنّ زيارتي الأخيرة للجامعة، من أجل تصديق شهادة التخرّج قبل السفر، ستعيدني سنواتٍ إلى الوراء. فما إنْ أخذتُ مكاني من الحافلة حتّى راح شريطٌ طويلٌ من الذكريات يمرُّ سريعًا كأنّ يدًا تديرُه رغمًا عنّي.
لطالما زرتُ الجامعة بعد تخرّجي للتجوّل في ممرّاتها، ولتشمّم الهواءِ المعربشِ على جدرانها، علَّ بعضَ تنفّسنا باقٍ هناك. وكنتُ أجول بنظري على مدرّجات الجامعة، أو على المقاعد في الحدائق أو الكافتيريا؛ فربّما رأيتُ وجهًا مألوفًا، زميلًا، موظّفًا، أو حتّى أحد الأُذّان.
لا أدري لماذا طغت الذكريات عليَّ الآن، ربّما لأنّ شعورًا داخليًّا أخبرني أنّ هذه المرّة قد تكون الأخيرةَ التي أزورُ فيها اللاذقيّة وجامعتَها، وأنّني قد لا أرجع إلى البلاد إلّا بعد نهاية الحرب فيها... هذا إنْ عشتُ لأرى نهايتَها. أو ربّما يعود السببُ إلى المدّة التي استغرقتْها الحافلة لتعبرَ الحواجزَ العسكريّة الكثيرةالمنتشرة، الثابتة والطيّارة.
حين بلغتُ مدخلَ الجامعة، أوقفني عناصرُ الحاجز على بابها وطلبوا بطاقتي الجامعيّة. بقيتُ ربعَ ساعةٍ أشرح لهم هدفي من الزيارة. سمحوا لي أخيرًا بالدخول، فجلستُ على مقعدٍ أنتظر وصولَ الموظّف.
فجأةً أطلّ رجلٌ، كان آخرَ مَنْ توقّعتُ رؤيته. إنّه الآذِن، وقد تغيَّرتْ ملامحُه كثيرًا حتّى لم أكد أعرفه: غطّى الشيبُ رأسَه، وازدادت سماكةُ نظّارتيه اللتيْن كنّا نقول إنّه ورثهما عن جدّه، وازدادت انحناءةُ ظهره. توقّف قليلًا. نظر نحو نافذةٍ، ثمّ نحوي. ربّما تذكّرني، وعرف أنّني كنتُ ممّن يسمّونه "الرجل الحامل المفاتيح." أشاح ببصره عنّي، ثمّ مشى.
تذكّرتُه وتذكّرتُ حياتَه الرتيبة. كنّا نراقبه كيفما توجّه؛ فقد كان ثِقلُ المفاتيح التي يحملها وصوتُ رنينها لافتيْن. في كلّ صباح، يجيء إلى القاعة، يفتح الأبوابَ بأحد مفاتيحه الكثيرة، ثم يفتح النوافذَ ليُخْرج الهواءَ الفاسدَ الذي تبقّى من اجتماع الأمس. بعد ذلك ينظّف أرضَ القاعة، والمدرّجَ الكبير، ويزيل آثارَ بصاق "الرفاق" عنها. ثمّ يمسح الغبار عن الطاولات، ويلمّع مقابضَ الأبواب والمايكروفونات. يغسل يديْه. ينتظر قليلًا، ثم يُخرج من جيبه قطعةَ خبز. يمضغها بينما يجول بنظره في القاعة. ينظر إلى الأبواب برضًى؛ لا أحد غيره يمكنه إغلاقُها: أوَليس هو حاملَ المفاتيح؟
عندما كان "الرفاق" يهجمون على القاعة بعد انتهاء المحاضرات ويغلقون الأبوابَ ليحتجزونا تمهيدًا لحضور واحدٍ من الـ "رفاق"الآخرين، ذوي الياقاتِ العالية، لكي نستمعَ إليه، كان اهتمامُنا ينصبّ على الرجلِ الحاملِ المفاتيحَ؛ فهو ليس ككلّ الرجال في القاعة:
لن يترشّح للانتخابات، ولن يمارسَ حقّه الانتخابيّ، ولن يسأله أحدٌ إنْ كان سيترشّح، ولن يسأله أحدٌ مَن سينتخب، إذ ليست لصوته أهمّيّة. هو ليس سوى "حامل مفاتيح" القاعة، يَفتح أبوابَها ليَدخل إلى القاعة رجالٌ أنيقون وسيّداتٌ جميلات. هو لا يعرفهم ولا يريد أن يعرفهم. لا يجلس، ولا يستمع إلى الكلمات والخطب؛ وإنْ سمعها فقد لا يفهم معانيها، وقد يمتعض في سرّه، لكنْ هل لامتعاضه أهمّيّة؟ فهو ليس سوى "حاملِ المفاتيح." كان الوحيدَ الذي لا يصفّق عند ذكر القائد المفدّى، من دون أن يَحفل البوليسُ به؛ وهل سيَحْفل البوليسُ بحامل المفاتيح إنْ لم يصفّقْ؟ لا يملّ من الاجتماعات الطويلة، وكيف يملّ وهو لا يستمع؟ فليُطيلوا ما شاؤوا؛ ففي النهاية لن يمنعوه من إغلاق أبواب القاعة، وهل لأحدٍ غيره أن يغلقَها؟ إنّه الوحيد الذي يمكنه فعل ذلك، أليس هو "حاملَ المفاتيح؟"
أذكر الآن الحادثةَ تمامًا. كان ذلك بعد أشهرٍ من دخول الأميركيين بغدادَ واحتلالِ العراق. جاء إلى القاعة، صباحًا، مبتهجًا. فتح النوافذَ كالعادة. نفض الغبارَ. مسح كلَّ ما يستطيع مسحه. انتظر قليلًا ليتجدّد هواؤها، ثم أغلقها وذهب. كنّا نتجمهر أمام القاعة بانتظار الشاعر القادم بعد ساعات، ننتظر أن يأتي "حاملُ المفاتيح" كي يفتح البابَ فندخل. فجأةً انشقّ الحشدُ فاسحًا الطريقَ للرجل. وكيف لا يفعلون وهو "حاملُ المفاتيح"؟ حين دخلنا، ودخل بعدنا الشاعر، بحثتُ وصديقي عنه. كان يقف بين الجمهور على المنصّة، قريبًا من الشاعر، ينظر كعادته إلى الأرض، ثم إلى النوافذ العالية، كمن يفكّر. أيستمع، يا ترى، إلى القصائد؛ أمْ أنّه، كعادته، لا يستمع، ولا يريد أن يستمع؟
فجأةً، وحين قال الشاعرُ بصوته المتعب:
"فلأكنْ ما تريد لي الخيلُ في الغزوات:
فإمّا أميرًا
وإمّا أسيرًا
وإمّا الردى!"
صفَّق الرجل.
صفّق كما لم يفعلْ من قبل! نظرتُ إلى صديقي الذي نظر إليَّ بدوره متعجّبًا. الرجل "الحامل المفاتيح" يستمع، إذن، ويَفهم ما يريد، وقد صفّقَ.
سوريا