عَرض المركز الثقافيّ اللبنانيّ وجمعيّة جلجامش في مونتريال، بمناسبة عيد العمّال العالميّ، فيلمَ المخرجة الشابّة ماري جرمانوس سابا، شعورٌ أقوى من الحبّ. فتسنّتْ لي، ولآخرين من الجالية العربيّة، مشاهدتُه والمساهمةُ في نقاش بعض المواضيع التي يطرحها.

كان العرض مناسبةً مفعمةً بالحنين إلى أيّامٍ جميلةٍ عرفتْها الحركةُ العمّاليّة اللبنانيّة، والقوى اليساريّةُ عمومًا، في أوائل السبعينيّات من القرن الماضي. وأثار فينا شجونَ التفكير في مآل حركة مطلبيّة عمّاليّة كانت صاعدةً وواعدةً، قبل أن تصطدم بلهيب الحرب الأهليّة الكبرى، فتستكين وتخمد، ثمّ تُذبح عندما انتهت الحرب، وما زالت تعاني آثارَ تلك الجراح حتى الآن.

تجدر الإشارة إلى أنّ الفيلم لا يمكن اعتبارُه عملًا تأريخيًّا لإضراب عمّال غندور (1972)، أو لإضراب مزارعي التبغ في جنوب لبنان (1973)، أو للحركة العمّاليّة اللبنانيّة عمومًا. ولكنْ  يمكننا اعتبارُه فيلمًا تسجيليًّا يستند إلى إفاداتٍ حيّةٍ من نساءٍ ورجالٍ شاركوا في هذين الإضرابيْن. وهو يتضمّن أيضًا موادّ أرشيفيّة، وتقارير صحفيّة، ومشاهدَ خاصّةً بالإضرابيْن كانت المخرجةُ قد حصلتْ عليها من أفلامٍ لمارون بغدادي وكريستيان غازي، ومن وثائقيٍّ أنتجه الحزبُ الشيوعيّ اللبنانيّ عن عمّال التبغ ومزارعيه في جنوب لبنان (مئة وجه ليوم واحد). وهو بذلك قدّم مادّةً غنيّةً لمن يريد دراسةَ اليسار وإخفاقاتِه في لبنان.
جاء فيلمُ سابا حصيلةً لعملٍ بحثيّ دؤوب، استحضَر لحظاتٍ من تاريخ فئة اجتماعيّة منسيّة، مُركّزًا على الإضراب وسيلةً لاعنفيّةً لجأ اليها عمّالٌ ومزراعون لتحقيق مطالبهم المعيشيّة في لحظة معيّنة، قبل أن تعلو قرقعةُ السلاح. فهل يعزِّز الفيلم، بذلك، الاستنتاجَ أنّ الحرب لم تكن خيارَ عمّال لبنان ومزراعيه الأوحد، وإنّما الخيارَ الأنسب للسلطة الحاكمة وللفئة الاجتماعيّة التي تُمثّلها؟

السائد في تأريخ الحرب الأهليّة في لبنان هو التشديد على العامل الخارجيّ في تفجيرها. وقلَّةٌ هي الدراسات التي أشارت إلى عجز النظام اللبنانيّ عن معالجة الأزمات الاجتماعيّة المتفاقمة، بحيث بدت الحربُ بالنسبة إليه ضرورةً لا مناصَ منها. ولئن لم يطرح الفيلمُ هذه الإشكاليّة بشكل مباشر، فإنّه ترك للمشاهدين فرصةَ التحليق بخيالهم في قراءة مضامينه كيفما شاءوا.

***

_{جاء فيلمُ سابا حصيلةً لعملٍ بحثيّ دؤوب، استحضَر لحظاتٍ من تاريخ فئة اجتماعيّة منسيّة}

لا يَصعب أن يقعَ في حبّ هذا الفيلم مُشاهدٌ يهتمّ ــــ شأني ــــ بتاريخ الحركة العمّاليّة اللبنانيّة، دراسةً وتدريسًا، وخصوصًا دور العاملات فيها. ويعود ذلك إلى جرأة الفيلم في إثارة قضايا تتعلّق بصميم تلك الحركة، وإلى دعوته (ولو بصورةٍ غير مباشرة) إلى إعادة تقويمها على نحوٍ نقديّ بنّاء لا يهدف إلى التقليل من نضالاتها وآمالها في التغيير الديمقراطيّ .

كذلك حاول الفيلم، في قسمه الأخير، أن يفسح المجالَ لبعض المناضلين والمناضلات الذين أدّوْا أدوارًا قياديّةً في إضراب معمل غندور من أجل مراجعة عملهم وتوقّعاتهم وأهدافهم خلال ذلك الإضراب، إسهامًا في إطلاق نقاش حول مرحلة مهمّة كان لعمّال لبنان ولمنتجيه ولليسار دورٌ مهمّ فيها. فعلى الرغم من محاولاتٍ مشكورةٍ لكتابة تاريخ تلك المرحلة، فإنّ معظمها يستند إلى السرد، أو إلى جمعِ المعلومات بلا تحليل، أو إلى إفاداتِ المساهمين في صنع تلك الأحداث. وهنا يكمن أحدُ الجوانب المهمّة من فيلم سابا: فهو يستند إلى شهادات بعض المناضلين الذين لا يزالون يحترمون تجربتَهم في تلك المرحلة، ويعتزّون بها، ولكنّهم يُبدون استعدادًا لنقدها ولنقد أنفسهم أيضًا؛ ومن هؤلاء: نادين عاقوري، التي حملتْ اسمَ "وردة،" تيمّنًا بوردة بطرس إبراهيم، عاملةِ التبغ التي استُشهدتْ سنة 1946  خلال الإضراب المشهور ضدّ السلطة اللبنانيّة وامتياز احتكار التبغ.[1] فلقد عبّرتْ عاقوري عن وعي فكريّ عميق في مقاربة تجربتها الشخصيّة، وتجربةِ "منظّمة العمل الشيوعيّ" التي انتمت إليها في حينه، ودورِ الأخيرة في قيادة إضراب معمل غندور، وهو إضرابٌ انتهى إلى فشل ذريع تمثَّلَ في إقفال المعمل نهائيًّا وصرفِ العمّال والعاملات أجمعين.

لكنْ بدلًا من الوقوف موقفًا نقديًّا من أسباب فشل الإضراب، أخذ بعضُ المشاركين في الفيلم، ممّن تبوّأوا مراكزَ قياديّةً في حينه، في الدفاع عمّا قاموا به في سياق التحضير للإضراب وخلاله. بل ذهب أحدُهم، ممّن نكنّ له احترامًا خاصًّا نظرًا إلى دوره النضاليّ والاكاديميّ، إلى إنّ ماركس هو الذي أخطأ (الدقيقة 1:30:59 من الفيلم) لا منظّمة العمل الشيوعيّ التي طرحتْ نفسَها بديلًا من الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ ("الإصلاحيّ" بحسب وصفها له آنذاك).[2]

لكنْ، هل كان ماركس هو الذي قاد إلإضراب؟ وهل ماركس هو المسؤول عن عدم تقدير القيادة "الثوريّة" لمسار الإضراب ومعرفةِ اللحظة التي كان ينبغي فيها التراجعُ عن تحقيق المطالب، أو جزءٍ منها، حتى لا يُقفل المعملُ أبوابَه ويَصرفَ عمّالَه وعاملاتِه، كما جرى في الواقع؟ وهل كان ماركس هو المسؤول عن عنادٍ لا ينفع سوى في الظهور في مظهر "الثوريّ" الذي لا يساوِم؟ ومن قال إنّ المساومة في المفاوضات بين العمّال وأرباب العمل معدومةٌ في قاموس تاريخ الحركات العمّاليّة؟
أمّا عن الهويّة الحزبيّة للشهيدة فاطمة خواجة، فيزعم القائدُ اليساريّ عينُه، الرفيق أحمد ديراني، أنّ خواجة لم تكن تعمل أصلًا في معمل غندور، بل كانت "تنشر الغسيل" (!) عندما أصابتها رصاصةٌ طائشةٌ أثناء قمع الشرطة المضربين والمضربات:

"فاطمة لم تكن تتجاوز سنّ الـ16 أو 17 سنةً، ولا تزال تلميذةً في الصف الثالث، أيْ ما دون الشهادة المتوسّطة. لم تكن فاطمة لا نقابيّةً ولا حزبيّة، ولا تعرف شيئًا. كانت والدتها قد طلبتْ منها نشرَ الغسيل ’وما تطلعيش لبرّا‘. [لكنّها] ركضتْ إلى الخارج بسبب الضجّة والعجقة، فأصابتها رصاصاتٌ قاتلة. الخلاصة هنا أنّنا أمام موتٍ بالصدفة لطفلةٍ مسكينةٍ وبريئة، ابنة عائلة فقيرة من بلدة عيترون [!]"

ويتابع ديراني تشكيكَه في رواية الفيلم، فيقول إنّ الشهيدة خواجة لم تكن يومًا عضوًا في الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، وذلك خلافًا لتأكيد القياديّة في الحزب، ماري الدبس، التي شاركتْ في الفيلم. ويُلمّح ديراني إلى أنّ الحزب الشيوعيّ عمد إلى اقتناص مناسبة استشهاد خواجة من أجل تنسيبها إلى صفوفه. بل هو ينتقص من كلام الدبس لكونها (بحسب رأيه) لم تكن على  علاقةٍ بالإضراب المذكور:

"كلام ماري الدبس عارٍ من الصحّة تمامًا، وأيضًا كلام ليندا مطر بأنّها كانت ’تعرف فاطمة وتلتقيها مع غيرها من العاملات في العمل‘. وأستطيع أن أجزم، كوني شاهدَ عيان، بأنّ هذه الطفلة البريئة لم تكن قطْعًا عاملةً في معمل غندور. وأضيف بأنّ السيدة ماري الدبس لم تكن، في تلك الفترة، تتابع تحرّكَ عمّال الغندور، بل كان يتابعه رفاقٌ آخرون من الحزب، بعد أن انطلق، وليس من بدايته..."[3]

والحقّ أنّ هذه "المشكلة" (لو وافقنا على وصفها بالمشكلة) لا تؤثّر سلبًا في أهداف الفيلم الأساسيّة، كما سبق الذكر. وكان المرء يتوقّع من قادةٍ "ثوريّين" أن يكونوا قد تخلّصوا من النظرة الدونيّة إلى المرأة، خصوصًا حين تحتلّ موقعًا شبيهًا بموقع الرجل. كما كان المرء يتوقّع من الحزب الثوريّ أن يَصْهرَ الأعضاءَ، ذكورًا وإناثًا، عمّالًا وفلّاحين ومثقّفين ثوريين، في بوتقةٍ واحدةٍ متراصّة، تزيل الفوارقَ الجندريّةَ والطبقيّة (ولو تدريجًا). وهذا المأزق بين الفكر والواقع عبّرتْ عنه في الفيلم المناضلة وردة (نادين عاقوري) عندما وصفتْ كيف كان يُطلب إلى الرفيقات المُدرَّبات على استعمال السلاح وفنونِ القتال أن يقتصر دورُهنّ على إعداد السندويشات والأعمال المطبخيّة، بينما كان الرفاقُ "الأشاوس" يتبخترون حاملين كلاشنيكوفاتهم ذهابًا وإيابًا!

فأن تكون الشهيدة فاطمة خواجة مناضلةً بولشفيّة أو لا  تكون، فذلك لا يُغْني النقاشَ الذي يثيره الفيلم. بل يمكن اعتبارُ التشكيك في هويّتها الحزبيّة مجرّدَ "قنبلةٍ دخانيّة" لإخفاء النقطة الجوهريّة في الفيلم، ألا وهي: دورُ النساء ليس فقط في العمل والانتاج، بل في النشاط االحزبيّ أيضًا، والعمل السياسيّ عمومًا. فالفيلم يعطي المناضلة وردة (نادين عاقوري) وقتًا كافيًا لتقويم تجربتها النضاليّة، الأمرُ الذي مكّنها من إشهار مكامن الأخطاء في فكر اليسار وممارساته في تلك المرحلة. هذا إضافةً إلى الكشف عن سيادة المفاهيم الذكوريّة في النظرة إلى دور المرأة في العمل السياسيّ أو المعمل (وهو ما لم يختفِ حتى اللحظة مع الأسف الشديد، بدليل تركيز الرفيق ديراني "نقدَه" للفيلم على المناضلتيْن ماري الدبس وليندا مطر).

أمّا بصدد اتهام الرفيق ديراني الفيلمَ بـ"افتعال" التركيز على فاطمة خواجة و"بلشفتها،" فإنّ القارئ ليَعْجَبُ كيف فات الرفيقَ إجراءُ تقويم مماثل لأعضاء اللجنة العمّاليّة التي قادت الإضرابَ المذكور، وبعضُهم (لا كلُّهم طبعًا) بات أقربَ الى الليبراليّة الفكريّة، والتصرّفات الاستهلاكيّة، من تاريخه اليساريّ السابق.

ما أودّ قوله في النهاية أنّ "الإسقاطات" التي اتُّهِمتْ بها المخرجة الفذّة سابا لا تعدو كونَها محاولةً صادقةً لفهم مرحلة مهمّة من تاريخنا السياسيّ، وللتعلّم منها. وسؤالي الاخير إلى الرفيق أحمد ديراني: ألم يكن فهمُكم للماركسيّة بمثابة إسقاطاتٍ و"مسبَّقات" على إضراب معمل غندور؟

جامعة ماغيل (مونريال)