مترجم من سوريا.
ترجمة وتقديم: وضّاح محمود
اعتدنا تلقّي السرد الآتي من أميركا اللاتينيّة بحصره في خانة "الواقعيّة السحريّة،" متناسين أنّ السرد في هذه القارّة يتمّ بجميع الأساليب. أقدّم اليوم إلى قرّاء الآداب ترجمتي عن الإسبانيّة لقصّةٍ قصيرةٍ لكاتبٍ من بوليفيا ينحو في أسلوبه منحى "الواقعيّة،" واسمُه أوغوستو غوثمان (1903-1994).
كان غوثمان صحفيًّا وقاصًّا وروائيًّا وناقدًا أدبيًّا ومحاميًا ومؤرِّخًا وعضوًا في أكاديميّة اللغة الإسبانيّة في بوليفيا. يُعتبر من أهمّ الوجوه الأدبيّة في بلده في القرن العشرين. في هذه القصّة يروي، بأسلوب مشوِّقٍ لا يخلو من الطرافة، مغامرةَ أحد الإقطاعيّين في البحث عن كنز مخبوء، ويتناول علاقتَه بخادمه الهنديّ وبمرابعيْن يعملان في مزرعته الريفيّة، وذلك قبل أن يأتي الإصلاحُ الزراعيّ في العام 1952 ويقلب موازينَ العلاقات الاجتماعيّة.
المترجم
***
عندما أُعْلِنَ عن وصول البريد من كوتشابامبا على نفخ بوق البوتوتو[2] في شوارع القرية، كان الدون بنخامين دياث بيلا قد انتهى من تناول طبق السايسي[3] وشربِ كأسِ التشيتشا[4] المعتاد. كانت عائلتُه تُمضي في الريف عطلةَ الصيف. أمّا هو فلقد أتى معها ليبيع الذُّرة والموكو،[5] ولم يكن ينتظر شيئًا غيرَ هذا البريد ليأخذَ الجرائدَ القادمة من العاصمة ويستلمَ رسائلَه الشخصيّة .
بخطًى بطيئة، نزل من بيته إلى مكتب البريد الواقع في ساحة القرية وهو يسير على رصيف الشارع الضيّق المنحدر، فلا يجد بدًّا من الاتّكاء على عكّازه المصنوعِ من قصب التشونتا القاسي. في ردهة المكتب، كان جمعٌ غفيرٌ ينتظر توزيعَ الرسائل.
كان بنخامين رجلًا أقربَ إلى السمنة، متورّدَ الوجه، ولا يحبُّ الاختلاطَ بالناس كثيرًا، وليس لديه إلّا القليلُ من الأصدقاء مع أنّ عائلتَه كبيرة. حيّاه الحاضرون، فردّ عليهم تحيّتَهم بإيماءات مقتضبة باردة كيْلا يَدخل في أيّ حديثٍ مع أحدٍ منهم. ثم توجّه فورًا إلى شبّاك المكتب الذي تجلس فيه موظّفةٌ لطيفةٌ تلفّ شعرَها "كوكينة" فوق رأسها، وتتحدّث بعذوبة. فسلّمتْه رزمةَ رسائله من دون إبطاء.
- دون بنخامين، إليك الجرائدَ ورسالةً من المصرف العقاريّ.
- شكرًا جزيلًا يا آنسة إيلوينا.
وعندما بدأ يصعد عائدًا إلى بيته أحسّ ببعض القلق من رسالة المصرف، إذ كان قد طلب إليه التريّث ستّةَ أشهر لديْنٍ عليه، يستحقّ بعد أسبوعين.
أخذته الهواجس، لكنّه لم يستعجل فتحَ الرسالة، وفضّل أن يقرأها في البيت، مع أنّه يستطيع القراءةَ في الشارع؛ فالساعة لم تتجاوز الخامسةَ بعد، وما برح ضوءُ النهار ساطعًا. في البيت، إذ جلس على أريكةٍ عتيقةٍ مغطّاةٍ بغطاء أخضر، بجوار أشجار الليمون البهيجة التي تعطّر برائحتها المكانَ، وبينما الزرازيرُ تنقر قدميْه بحنوٍّ عند رباط الإبزيم فوق الكاحل من دون أن يزعجَها، تبيّن له أنّ هواجسَه كانت في محلّها. فالمصرف يرفض إعطاءه المهلةَ المطلوبة، ويطلب إليه بلطف أن يعيد العشرة آلاف بوليفيانو التي اقترضها لمدّة ثلاث سنوات تحت طائلة رهن المزرعة التي يمتلكها في لومالارغا.
بدأتْ جرثومةُ القلق اللعينة تؤرِّق الدون دياث بيلا، ملّاكَ الأراضي، وتشغل بالَه الهنيّ. فابنُه الأصغر كان قد ذهب، منذ عهدٍ قريب، إلى أوروبا كي يدْرس الطبَّ في إحدى جامعات ألمانيا. وكان دياث بيلا يعرف، في سرّه، أنّه لم يلتزمْ بسداد الأقساط في مواعيدها المحدَّدة ضمن شروط الاقتراض. كما أنّه لم يتقيّدْ بردّ الفوائد. وكلُّ ذلك بسبب مصاريف ابنه رومولو؛ فلقد كلّفه كثيرًا أثناء دراسته في كوتشابامبا حيث كان يعيش حياةَ طالبٍ قادمٍ من الريف يحرص على سمعته ابنًا لعائلةٍ غنيّة، وهو الآن يكلّفُه أكثر. وكذلك لم تكن مصاريفُ العائلة قليلة: ذلك أنّه كان عليه أن يعيل زوجتَه وبناتِه العازباتِ الثلاث؛ فهنّ جميلات ولديهنّ من النزوات ما يكفي كي ينفقن المالَ باللامبالاة التي تقتضيها إغراءاتُ الحياة في المدينة الصغيرة. كانت مداخيلُه من إقطاعاته تزداد، لكنّ مصاريفَه تفوقها بشكلٍ ملحوظ، فاضطرّ إلى أن يقترض المالَ من المصرف. وكي يتخلّص من عبء الديون فلن يكون أمامه سوى أن يبيع شيئًا من أملاكه إلى الخوري. ولا شك في أنّها لن تكون كُبرى ملْكيّاته بل أصغرها، تلك المسمّاة مزرعة البيلاديروس، ويعمل فيها ستّةُ مرابعين. سيكون حلًّا مؤلمًا؛ فالأمر يتعلّق تحديدًا بالمزرعة التي ورثها عن والديْه، وهي مليئةٌ بذكريات طفولته.
أنهى دياث بيلا، وهو في السرير، قراءةَ الجرائد على ضوء مصباح الكاز الشحيح. أدرك، وهو يمرِّر يدَه على صلعته المحمرّة، أنّه لن يستطيع النوم. لم تأتِ الجرائدُ بما هو مثيرٌ أو لافتٌ للنظر، ومقالاتُها لا تزال تتحدّث عن شخص الرئيس مونتي وإنجازاتِه. أحسّ بالوحدة والتعب، وكانت نياطُ قلبه تتقطّع لإحساسه بخسارته الوشيكة لمزرعة البيلاديروس ووقوعِها في حوزة الخوري الذي كان يرغب فيها منذ زمن بعيد. دقّت ساعةُ الكنيسة وأعلنت الثامنة.
- أين أنت يا لانتشي!
انسلّ نداؤه عبر الباب المشقوق، ذي الدرفتيْن، ومضى في الممرّ المفضي إلى باب المزرعة التي تحمل اسمَ لوما لارغا، فأيقظ الخادمَ العجوزَ المقيم فيها، وقد كان متكوِّرًا على قطعتيْن من جلد الكبش بجانب العمّال المُرابعين.
- أنا هنا يا سيّدي! أجاب لانتشي وهو يقترب طائعًا من سرير سيّده.
- تعال وسامِرْني قليلًا، فالنوم لا يأتيني، أمرَه بلغة الكيتشووَا.
- حسنًا يا سيّدي.
جلس الهنديُّ على الأرض عند الباب على مسافةٍ لا بأسَ بها من السرير المعدنيّ الأصفر الذي تلمع قوائمُه وعوارضُه مثلَ الذهب. تحدّثا عن الحصاد والبذار، عن موسم الأمطار الشحيحة دائمًا، عن الصقيع الذي يضرب القمحَ وعن داءِ الفطر الذي يصيبه، عن عائدات الطاحون، عن مردود الدجاج، عن البيض والجبن الأبيض، عن علف الدواجن والماشية، وعن ضرورة التزام العمّال التزامًا دقيقًا بما يقتضيه عملُهم. كان الهنديّ رجلًا طاعنًا في السنّ ومحنّكًا؛ فلا يقارب إلّا المواضيعَ التي تهمّ ربَّ عمله لأنّه يعلم علمَ اليقين أنّ مشاكله الشخصيّة ومشاكلَ المُرابعين لا تعنيه في شيء. كان حديثُه يخرج من فمه وينساب بطراوةٍ كأنّه جدولٌ من الماء الرقراق يسيل في مجراه بسهولة. لكنّ النعاس لم يجد طريقَه إلى عينيْ دياث بيلا، وكان يغرق في صمتٍ طويلٍ متقطّعٍ، ويستمع إلى انسياب حديث لانتشي. حتى إذا انتهى الموضوع وسكت المحدِّثُ الأنيسُ، حثّه على المتابعة من جديد بأسئلة حول هذا الموضوع أو ذاك. وأخيرًا تجاسر الهنديُّ وباح على استحياءٍ بما في صدره أمام سيّده عندما سمع منه لازمتَه المكرورة:
- وماذا بعد؟ أراكَ لا تقول شيئًا.
- لقد حدّثتُكَ عن كلّ شيء يا سيدي ولم يعد لديَّ ما أقوله. ربما يشغل بالَكَ أمرٌ عظيم حتى لا تستطيع النوم. وقد يكون من المستحسَن أن تشربَ قليلا من التشيتشا. سوف أذهب وأشتري لك القليل منه إن رغبتَ يا سيّدي.
- آه يا لانتشي! أجاب دياث بيلا. تعرف أنّني لا أشرب أكثرَ من كأس أو كأسيْن مع الطعام. هناك ما يَمنع عني النّومَ. المصرف يطالبني بعشرة آلاف بيسو. وكي أدفعَها، فإنّ عليّ أن أبيع مزرعة البيلاديروس. وكلّ ذلك بسبب أولادي. إنّ روموليتو يكلّفني الكثيرَ من المال. فإنْ كنتَ لم تعد تتذكّر شيئًا كي تقوله لي، فعلى الأقل اختلقْ أيَّ شيء تسليني به يا لانتشي. لا قِبَلَ لي بالوحدة التي تشدُّ الخناقَ عليّ هذه الليلة.
- نعم يا سيّدي، إنّها عبء كبير، قال الخادم مشفقًا.
ثم تابع حديثَه في الحال بعدما تذكّر كيف استكشف المنطقةَ بعضُ الباحثين عن المناجم، وسبق أن مرّوا بلوما لارغا منذ عدّة أسابيع.
- فاتني أن أقولَ لك يا سيّدي إنّ بعضَ الباحثين عن المناجم ، منذ حوالي الشهر، مرّوا بلوما لارغا، وصعدوا إلى أعلى قمّةٍ في الجبل، حيث الكهفُ الذي نعرفه جميعًا.
- الكهف الذي تركه الآباءُ اليسوعيّون؟
- هو بذاته يا سيّدي. وعندما نزلوا قالوا انْ لا شيء ذا أهمّيّة هناك، ثم تابعوا مسيرَهم بمحاذاة أيكلي.
- إنّهم محقّون. لقد درستُ المنطقة، وليس فيها غيرُ الحجارة.
- ربّما في ذاك المنزل يا سيّدي، في الفناء الذي تسرح فيه الدجاجات، ربّما عثر المرءُ على شيء. فلقد رأيتُ أنا، مرتين، وفي وقتٍ متأخّرٍ من الليل، شعلةً تتّقد ثم تنطفئ في الأرض بلا شررٍ ولا دخان، وقد أرعبتْني. في المرّة الأولى ظننتُه شيئا من فعل العفاريت أو من عمل الشيطان...
لو أنّ عقربًا لسعتْ دون دياث بيلا في السرير لَما انتفض واعتدل في جلسته مثلما انتفض للخبر السارّ الذي أخبره إيّاه خادمُه المتواضع.
- في الفناء الذي تسرح فيه الدجاجات؟ في أيّ مكانٍ بالتحديد؟ مرتيْن قلت لي؟
- في المركز، وسط الفناء، قبالة خمّ الدجاج. وكما كنتُ أقول، كانت المرّة الأولى منذ سنوات بعيدة عندما كان أبي خادمَكَ وأتيتُ معه في تلك الليلة لمؤانسته. نمنا في الممرّ عند باب المنزل، وقرابةَ منتصف الليل أفلتت البغالُ من حظيرتها حتى وصلتْ إلى الباب المفضي إلى الشارع. أعدتُها إلى الحظيرة وتأكّدتُ أنّ كلَّ شيء على ما يرام. وعندما هممتُ بالخروج عبر الممرّ، نظرتُ إلى خمّ الدجاج، فرأيتُ شعلةً انطفأتْ على الفور. هرعتُ وأنا مندهشٌ خائف، وقصصتُ على أبي ما رأيتُ، فنهرني وطلب إليّ أن أنام. وقال إنّه لا بدّ من أنّني كنتُ خدرًا كي أرى هذه الرؤية. ولم نعد بعدها إلى الحديث عن الموضوع.
- والمرّة الثانية يا لانتشي؟
- المرّة الثانية منذ حوالي ستّة أشهر. وعرفتُ حينها أنّ هذه النار علامةٌ على وجود كنزٍ مطمور.
- ليس دائمًا يا لانتشي.
- ولكنْ هكذا يقال يا سيدي.
- ما يقال ليس إلّا حماقات. وهل تعرف أكثر منّي؟ كنتَ تقول لي إنّك رأيتَ الشعلةَ مرّةً ثانية. في المكان نفسه يا لانتشي؟
- في المكان نفسه يا سيّدي، وسط الفناء، قبالة الخمّ الذي تبيت فيه الدجاجات. لكنّها لم تكن حينذاك ألسنةً طويلةً من اللهب، متوقّدةً، بل كانت ألسنةً قصيرة تترنّح كما تترنح ألسنةُ النار في المجامر وهي تنطفئ في أعياد سان خوان. إنّها نارٌ خاطفة.
- حسنًا يا لانتشي. وأنا أيضًا رأيتُ نارًا كهذه في أماكنَ أخرى. وما هو مطمور عمومًا في هذه الأمكنة ليس المال، بل كومة كبيرة من العظام. هذا ما أراه ممكنًا. والآن انصرفْ، فلقد تأخّر الوقت.
- أمرك يا سيّدي. طابت ليلتك.
تقلّب دياث بيلا بجسمه السمين قليلًا في السرير، ولم يتكرّمْ على خادمه ويردّ عليه تحيّةَ الوداع. كان واثقًا بأنّ الهنديّ أعطاه مفتاحَ كنز مخبوء. أيُّ هوًى لدى المستعمِرين القدامى! لقد كان دائمًا، شأنهم جميعًا، يبحث عن الكنز في الجدران مستعينًا بمطرقةٍ خشبيّة، لكنّ الكنز هنا في منزل أجداده مطمور في الأرض. سوف يتخلّص من الخادم لبعض الوقت، بأسرع ما يمكن. أمّا المرابعان اللذان أتيا هذا المساء ليحلّا محلَّ القديمَيْن، فسيكونان أحسنَ عامليْن مياوميْن بالمجّان للحفر عن الكنز الذي سيبدأ غدًا. فضة، ذهب، حجارة ثمينة...
أخذ النومُ يتسلّل إلى عينيْ دياث بيلا بخطًى وئيدةٍ ناعمة، فأُغمضتا بعذوبة. ثم يقال إنّ الجشع يذهب بالنوم من العيون! ونام الدون بنخامين دياث بيلا نومَ مَن لا يشغل بالَه أيُّ شيء.
في صباح اليوم التالي، صباح الأحد، أمر بإفراغ الخمّ من الدجاجات، وتخلّص مِن كلّ ما لديه من الذُّرة والموكو بأنْ باعه بسعرٍ بخس. أمّا الخادم فذهب إلى المزرعة التي تقيم فيها زوجةُ سيّده، وقد حمّله بنخامين رسالةً يخبرها فيها أنّه سيظلّ غائبًا عدّة أيّام حتى ينتهي من إرسال حوالةٍ بريديّةٍ إلى روموليتو ويتدبّرَ أمرَ تمديد مهلة سداد ديْن المصرف. أمّا الحقيقة فهي أنّه كان عازمًا على أن يفاجئها مفاجأةً صاعقةً بكنز لانتشي.
حمل كلٌّ من المرابعيْن رفشَه ومعولَه وبدآ يحفران، تحت إشراف سيّدهما، حفرةً وسط الفناء الذي كان مخصَّصًا للدجاج. وخلال ستّ ساعات من العمل المضني توصّلا إلى حفر حفرةٍ عمقُها متران وقطرُها مترٌ ونصفُ المتر. كانت الأرض قاسيةً؛ فهي مرصوصةٌ رصًّا تماسَكَ فيه الغضارُ اليابس والحجارةُ المدوَّرةُ والحصى. لم تبدُ أيُّ علامةٍ تدلّ على كنز مطمور. أوقف دياث بيلا العملَ وقد أحسّ ببعض الإحباط. بدت آثارُ المعاول والرفوش لامعةً على الغضار الأبيض الذي تلوّن بالحمرة والزرقة، وتعاقبتْ طبقاتُه بسماكاتٍ مختلفة، من دون أن يُكتشفَ أيُّ دليل، قريبٍ أو بعيد، على أنّ أحدًا ما طمر في هذا المكان ولو علبةَ سردين. ربما زاغت أعينُهم عن تحديد المكان الحقيقيّ الذي يكمن فيه الكنز. وتحسُّبًا، قرّر دياث بيلا ألّا يُحفَرَ في العمق أكثر، ولو إنشًا واحدًا. وأمر بأن تُوسَّع الحفرة من إحدى جهتيْها حتى الممرّ، ومن الجهة الأخرى حتى باب الفناء؛ ما يعني أنّ قطْر الحفرة سيبلغ خمسةَ أمتار. عمليًّا، كان مشروعُ الحفر هذا يمثّل استقصاءً شاملًا لأرضيّة الفناء، ولا يستثني إلّا الممرَّ الضيّق. كان دياث بيلا مصمِّمًا على متابعة مشروعه. ألم يعثرْ أصحابُ بيوت أخرى قديمة مثل بيته على كنوز مطمورة فيها؟ أكل دياث بيلا صحنًا كبيرًا من التشاختشو،[6] وشرب زجاجة تشيتشا كاملة. وقبل أن ينام نادى المرابعيْن وحذّرهما بمكر:
- إيّاكما وإفشاءَ سرّ العمل الذي نقوم به. سوف يكلّفُكما ذلك غاليًا. فأنا أبحث عن جثّة ابن المرأة التي كانت كنّةَ أحد أجداد أجدادي.
ومن جديدٍ نشر الليلُ خيوطَ ظلمته السوداء وأخذ يداعب بها أحلامَ دياث بيلا المحمومةَ التي يحلم فيها بالعظمة. ظل ساهرًا في العتمة، مستلقيًا في سريره المعدنيّ البراق ذي القوائم والعوارض الصفراء، يفكّر في قصة لانتشي العجيبة التي أتته مصادفةً، وفيها الحلُّ لكلّ مشاكله. لا بدّ من أن يكون الكنزُ ثروةً عظيمةً كافيةً للخلاص من المصرف، وترميمِ بيت جدّه الإقطاعيّ القديم. ولا بدّ من أن يكون مالُه وفيرًا كي يذهب مع زوجته وبناته في رحلة عائليّة إلى بوينس أيرس، وكي يركب البحرَ ويتوجّهَ إلى أوروبا فيرى ابنَه روموليتو. بذلات فاخرة، مجوهرات وحُلِيّ، حساب مصرفيّ مفتوح، بذخ ومظاهر بورجوازيّة، لا كَبْرة لائقة وحسب بل كَبْرة يُحسد عليها. وأخذ الحلمُ الجميل يحرّره من الأفكار المقلقة ويمحو من مخيّلته صورةَ ضعف الإنسان وعبثيّة الحياة.
مر يومُ الأحد وهما يحفران. ثم مر الإثنين، فالثلاثاء، فالأربعاء، فالخميس، فالجمعة: عشر ساعات من الحفر اليوميّ كان يقدِّم إلى المرابعَيْن خلالها، وكلَّ يوم، أربعَ كراتٍ من ورق الكوكا، يدفع ثمنَها بسخاء، فيعطي كلَّ مُرابع ليبرتيْن يوميًّا. نجمتْ عن الحفرة تلّةٌ كبيرةٌ من التراب غطّت قسمًا من حظيرة الخيول، وبذا صارت تجويفًا عظيمًا عمقُه خمسةُ أمتار، بدا في قاعه ماءُ نبعٍ بعيد الغور يلمع كما تلمع مرآةٌ تعكس زرقةَ السماء الصافية.
هذا ما توصّلوا إليه مساءَ يوم الجمعة.
- كفى، كفى! فلنتوقّفْ هنا، صاح دياث بيلا خائبَ الأمل. هذا الهنديّ الأخرق سيوضح لي الأمرَ غدًا.
في الليل هطل المطرُ خفيفًا ناعمًا من دون توقّف، فرفع منسوبَ الماء في التجويف نصفَ متر على الأقلّ. وفي اليوم التالي، يوم السبت، التقى الخادمُ سيّدَه دياث بيلا في البيت القديم، وحلّ له عقدةَ اللغز حلًّا قد لا يكون مؤثِّرًا لكنّه حاسمٌ وصريح.
- كيف حدث ذلك يا لانتشي؟ فبعدما عملنا كلَّ هذه الأيام وحفرنا عميقًا في المكان الذي رأيتَ فيه ألسنةَ النار، لم نعثرْ قطّ على أيّ شيء؟ أو ربّما لحماقتك الخالصة دللْتني إلى مكان خاطئ؟ فنحن لم نعثر في هذا المكان ولو على حذاء قديم.
- آه يا سيّدي! صاح لانتشي متعجّبًا وهو حزين. في الليلة التي سامرتُكَ فيها كي تنام، لم يبقَ لديَّ ما أرويه لك، فطلبتَ إليَّ أن أختلقَ أيَّ شيء كي أسلّيك، فاختلقتُ ما اختلقتُ من دون سوء نيّة. ثمّ إنّك لم تقل لي إنّك ستحفر في الفناء، فظننتُ أنّكَ لم تُقِم لحكايتي وزنًا. وأذكر أيضًا أنّك قلتَ لي إنّ ألسنةَ اللهب هذه لا تدلُّ على وجود كنز، بل على كومة من العظام. حتى على عظامٍ لم تعثرْ يا سيّدي؟
- كفَّ عن مساءلتي أيّها الهنديّ الدجّال. غدًا صباحًا ستبدأ العملَ وحدك، من دون عونٍ من أحد، وستغطّي الحفرةَ التي جعلتَني أحفرُها بغير فائدة.
- بكلّ سرور وطيبة خاطر يا سيّدي. أرجو أن تغفرَ لي يا سيّدي الحنون...
وذات مرّة وهما معًا - يا لحنوّ السيّد على عبده! - ابتسما بكلّ سرورٍ لضوء المغيب الشاحب في ذلك اليوم الصيفيّ الغائم، بينما كان الحلمُ اللجوجُ بالكنز المخبوء يتبدّد في الهواء.
[1]* https://ciudadseva.com/texto/el-tapado/
[2] بوقٌ مصنوعٌ من قرن الثور.
[3] طبقُ طعام كريوليّ بوليفيّ: يخنة اللحم مع الفلفل الحارّ.
[4] مشروب كحوليّ خاصّ بقبائل كيتشووا.
[5] كُريات من الذُّرة المدقوقة، تُنقع ثم تُجفّف في الشمس. تُستخدم في تحضير مشروب التشيتشا الكحوليّ.
[6] طبق كريولي تختصّ به مدينةُ كوتشابامبا، ويتكوّن من النشاء والبطاطا والبصل والبندورة.
مترجم من سوريا.