حملتْ "صفقة القرن،" الهادفةُ إلى إنهاء الصراع الفلسطينيّ - الصهيونيّ لصالح معسكر ترامب، خطوةً تتجاوز حالةَ الانكسار العربيّ في كامب ديفيد - أوسلو - وادي عربة، في اتجاه تكريس نظام الاستعمار كما جاء في وعد بلفور. وقد جرى ذلك في ظلِّ غياب المشروع العربيّ التحرّريّ، وتشرذُمِ البيت الفلسطينيّ الداخليّ، وتآمرِ النظُم العربيّة.
وقد كان للمرأة الفلسطينيّة أدوارٌ مركزيّةٌ بالغةُ الأثر في كلِّ مراحل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. فهي لم تقتصر على رعاية الأسرة، على ما في ذلك من أهمّيّة كبرى، بل واجهتْ حصارَ المخيّمات والمدن أيضًا، وعملتْ على تأمين الملابس والاحتياجات الغذائيّة الأساسيّة في الانتفاضتيْن الأولى والثانية، ووفرّت الحاضنةَ الاجتماعيّةَ للمنتفضين، وحمتهم من الاعتقال (والقتل أحيانًا)، ودعمتْهم لوجستيًّا بما يَضْمن استمرارَ عملهم المقاوم، وعزّزت المفاهيمَ الوطنيّةَ في الأسرة والمدرسة والجامعة والمجتمع الأهليّ.
غير أنّ المرأة الفلسطينيّة لم تكن "داعمًا" و"مساندًا" و"حاميًا" فحسب، بل انخرطتْ في الفعل المقاوم ضدّ العدوّ أيضًا: من خطف الطائرات، إلى العمليّات العسكريّة، فالمواجهة بالحجر، والتصدّي للسجّان في سجون الاحتلال - - هذا مع تحفّظنا عن تقسيم الفعل المقاوم إلى عسكريّ ومدنيّ، ومباشرٍ وحاضن.
انخرطتْ المرأة الفلسطينية في الفعل المقاوم ضدّ العدوّ
مع توقيع اتفاقيّات أوسلو (1993)، تغيّرتْ ملامحُ العمل الاجتماعيّ. فمؤسّساتُ المجتمع المدنيّ (الـ NGOs) أفرغت المجتمعَ الفلسطينيّ من قضاياه السياسيّة المرتبطة بالبعد الطبقيّ والقوميّ، وأبعدت التناقضَ الرئيسَ مع الاحتلال والاستعمار، وصار التركيزُ على القضايا النسويّة المجزوءة فقط. وهو ما انعكس سلبًا على دور المرأة الفلسطينيّة في البناء الوطنيّ والاجتماعيّ، فباتت جزءًا من حالة التراجع العامّ.
كما تفاقمتْ مشكلاتٌ نسويَّةٌ عميقةٌ أعادتنا إلى زمن التطرُّف والانغلاق: مثل العنف الأسريّ، وتغييبِ المرأة عن مراكز صنع القرار الرسميّ، وانتشارِ مظاهر التضييق على حريّة تنقّلها وعملها. وبعد أنْ كانت المرأةُ قائدةَ خليّةٍ عسكريّة وقائدةً ميدانيّةً، تراجع فعلُها، وتعمَّق استهدافُها. وجاء هذا الاستهدافُ جزءًا من عملٍ ممنهجٍ لتفتيت المجتمع كاملًا، وصولًا إلى مرحلة انهزامٍ شامل، تُمرَّر من خلالها صفقاتٌ تُنهي القضيّةَ الفلسطينيّةَ وتنثرها في مهبّ الريح.
كما تعاني المرأةُ، اليوم، حالةً من الاغتراب داخل الفصائل الفلسطينيّة نفسها، ومن تغييب الرؤية الواضحة لدورها الوطنيّ والاجتماعيّ فيها. وكأنّه لم يكفِ تلك الفصائلَ تراجعُ شعبيّتها، وغرقُ بعض قياداتها في الامتيازات، وتنامي مشاكلها التنظيميّة، وتناقصُ العمل التطوّعيّ فيها، وتفاقمُ صراع الأجيال فيها، وتزايدُ النشاط المكتبيّ داخل مفاصلها، فجاء تراجعُ العمل النسويّ فيها ليزيد الأزمةَ أزمةً.
هكذا، تحوّل عملُ المرأة السياسيّ إلى المزيد من النخبويّة، بفعل سيطرة مؤسّسات المجتمع المدنيّ، بتمويلها وأجنداتها الخارجيّة، واشتدّ حصارُ دور المرأة الوطنيّ.
***
في ظلّ هذه الأزمة البنيويّة السياسيّة والوطنيّة، وابتعادِ الجماهير عن الأحزاب، وخصوصًا القوميّة واليساريّة، بات ملحًّا البحثُ عن طرق الخلاص، ولا سيّما تعزيز دور المرأة الوطنيّ. إنّ بروزَ الحركات النسويّة مثل حَراك "طالعات" في الداخل الفلسطينيّ المحتلّ عام 48 أنتج صيغةً جديدةً للعمل، تَجْمع بين النسويّ والسياسيّ الوطنيّ. وهذه التجربة، التي تضع الإصبعَ على الجرح و"تقرع جدرانَ الخزّان،"[1] تطلب إلينا المراكمةَ على عملها، واستكمالَه، والتشبيكَ بين نشاط المرأة الفلسطينيّة في الداخل ونشاطها في الشتات، ووضعَ برامج واضحة وعمليّة تضمن سُبل مواجهة "صفقة القرن."
لن تخلو هذه المواجهةُ، بالتأكيد، من إيلاء الحركة الأسيرة اهتمامًا كبيرًا، خصوصًا مع ارتفاع نسبة الأسيرات الفلسطينيّات في سجون الاحتلال الصهيونيّ، ونجاحِ عمليّات "النُّطَف المهرَّبة" وقرارِ الإنجاب رغم قيد السجّان. وستشارك المرأةُ في محاربة سلطة أوسلو، وتعريتها، وفضح قمعها للمناضلين و"تنسيقها الأمنيّ" مع الاحتلال. كما أنّها ستُكمل تفعيلَ أدوات المقاطعة الشعبيّة، وتفعيلَ الأبنية الحزبيّة. فالثورة لا تكتمل إلّا بمشاركة المرأة، ولا يتشكّل الوعيُ المجتمعيُّ كاملًا إلّا من خلالها، ولن يُحسمَ الصراعُ الوطنيّ والطبقيّ بعيدًا عن إسهامها وقيادتها.
إنّ المواجهة القادمة لا بدّ من أن تضعَنا وجهًا لوجه أمام شخصيّات نسائيّة نضاليّة جديدة، يواصلن حملَ القضيّة، وحملَ مفاتيح بيوتهنّ حتى العودة والتحرير.
عمّان
[1] المصطلح هنا مستعار، بالطبع، من رواية رجال في الشمس، لغسّان كنفاني.