عند تجاوز الجدل الذي دار طويلًا حول المثقّف الإيجابيّ، أو الملتزم، أو الاحتجاجيّ، أو الانقلابيّ كما يسمّيه إدوارد سعيد في كتابه Representations of the Intellectual، يمكن التوصّلُ إلى توصيف هذا المثقّف كالآتي: إنّه الفرد الذي يَستخدم معرفتَه الواسعة ومهاراتِه، عن طريق الكلام والكتابة أساسًا، لشجب الظلم وانتهاكات السلطة، وللكفاح من أجل الحقيقة والعدالة والتقدّم.
يشير هذا التوصيف إلى أنّ أبرزَ صفات المثقّف هي أن يكون واسعَ المعرفة لأنّ المعرفة ذاتَها سلطة؛ وأن يكون واسعَ التجربة في عديدٍ من المجالات العامّة كي يتّخذ موقفًا فاعلًا تجاه أيّ حدث ذي تأثير عامّ؛ كما أنّه لا يتأخّر عن المشاركة الفاعلة في الكفاح ضدّ الظلم. وهذا يعني أنّ الثقافة ليست تعبيرًا مجرَّدًا، بل سلوكٌ يتوافق معه؛ ويعني أيضًا أنّ المثقّف يَفقد صفتَه هذه إذا كان سلوكُه متناقضًا مع تعبيره.
من هنا تتولّد القناعةُ الصحيحةُ التي تقول إنّ أيّ مثقّف فلسطينيّ، ما دام يتطلّع إلى تحقيق العدالة لقضيّته، لا بدّ من أن يكون ذا موقفٍ شديدِ الوضوح في معارضة الاحتلال، باعتباره أسوأ أنواع الظلم التي يمكن أن يتعرّض لها وطن. وبالتالي يتوجّب على المثقّف أن يرفضَ الخضوعَ لأيٍّ من شروط الاحتلال، أو أن يتقبّلَ أيًّا من إغراءاته، وأن يَثْبُتَ على هذا الموقف، برغم الضغوط التي يتعرّض لها، ماديّةً كانت أو معنويّةً، ومن أيّ اتّجاهٍ جاءت. وينبِّه هذا التوصيفُ أيضًا إلى أنّ على المثقّف ألّا يقفَ مكتوفَ الأيدي تجاه غياب الديمقراطيّة عن مجتمعه، وإنْ كانت وجهةُ نظره في السلطة القائمة إيجابيّةً، أو فَرضت السلطةُ "مبرِّراتٍ" لتغييب الديمقراطيّة؛ ذلك لأنّ الديمقراطيّة تعني ــــ من ضمنِ ما تعنيه ــــ أن يكون لكلّ مواطنٍ رأيٌ حرٌّ في السلطة التي تحكمه، وأن تتمّ، قبل ذلك، إتاحةُ الفرصة أمامه للمشاركة في اختيار هذه السلطة.
إنّ المثقّف الإيجابيّ في الواقع الفلسطينيّ لا يُحسَد على ما يطالَبُ به، لأنّه يتجاوز كثيرًا ما يُطالَبُ به أيُّ مثقّف في أيّ واقعٍ آخر. ولذلك فإنّ خيارَه الوحيد هو أن يكونَ في جانب المعارضة الإيجابيّة، مهما كانت مركّبة، بوصفها أوّلًا معارضةً تقف في وجه الاحتلال والقوى التي تسانده أو تتنازل له، وبوصفها ثانيًا معارضةً للسلطة القائمة وللثقافة السائدة التي غالبًا ما تستثمرها السلطة.
ربّما من أجل ذلك وُجّه الانتقادُ إلى مثقّفين كبار ارتبطوا بالسلطة الحاكمة بعض الوقت، عبر العصور، إمّا لأنّ رؤيتهم أنّ السلطة الحاكمة تتوافق مع قناعاتٍ نادوْا بها؛ أو لاعتقادهم أنّهم سيكونون قادرين على التغيير من خلال المناصب التي يتولّوْنها لدى هذه السلطة. ومع أنّ بين أصحاب هذين الخيارين مَن حقّق نجاحًا في الموقع الذي وُضع فيه لدى السلطة، فإنّ ما قام به فتح المجالَ لمن جاءوا بعده. وكان بين هؤلاء مَن ركّز همَّه على أن يستثمرَ الموقعَ لصالحه، من دون أن يتركَ أثرًا يفيدُ المجتمع؛ هذا إذا لم يبذلْ جهدًا في احتواءِ ما أُنجزَ من قبل، أو في التنازلِ عنه، رغم استمراره في استخدام الشعارات التي روّج لها سابقوه.
الخيار الأوّل، الذي مارسه الكاتبُ الفرنسيُّ الكبير أندريه مارلو مثلًا في حكومة شارل ديغول، أو الشاعرُ التشيليُّ التقدّميّ بابلو نيرودا مع سلفادور أللندي، أو عددٌ من مثقّفي مصر (الذين يمكن الاعتزازُ بهم) أيّامَ جمال عبد الناصر، لم يعد قائمًا في بلادنا العربيّة الآن. ذلك لأنّ التحوّلاتِ التي جاءت بعد رحيل عبد الناصر، على وجه التحديد، وغيابَ معظمِ ما تبنّاه عصرُه من أفكارٍ تعي أهمّيّةَ الثقافة، لم تتركْ للمثقّف العاملِ في أجهزة السلطة أيَّ دورٍ سوى أن يكون مجرّدَ تابعٍ لهذه السلطة، ومنفِّذٍ لما تطلبه منه؛ وهذا في الغالب ضدّ قناعاته أو تكوينه كمثقّف. وهذا الخيار ليس مطروحًا في فلسطين المحتلّة في كلّ حال، ولا بين الفلسطينيّين الذين يمنعهم الاحتلالُ من تحقيق إنجازاتٍ تتعارضُ مع سياسته.
الخيار الثاني، الذي جرّبه بعضُ المثقّفين في بلادنا، لا يحتاج إلى براهينَ كثيرةٍ لتأكيد تهافت الحجج التي ترافقه. فقد شهدنا كيف تَشوّه بعضُ كبار المثقّفين وصغارهم حين أصبحوا في السلطة أو تقرّبوا منها . ولم يكن هذا التحوّلُ بسبب الاحتلال وحده، وإنّما ساهمتْ مجموعة من العوامل في الوصول إليه أيضًا، وكان معظمُها عواملَ سلبيّةً تشي باستعدادٍ مسبّقٍ لدى المثقّف ذاته؛ استعدادٍ تكشّف لديه حين صار مسؤولًا. ولعلّ ذلك يسهِّل الاستنتاجَ أنّ أيَّ مثقّفٍ في بلادنا لن يجد منطقًا يبرِّر به موضوعَ ارتباطه بالسلطة، مع ادّعائه الثباتَ، في الوقت نفسه، على شيء من فعله الثقافيّ الحقيقيّ.
وهذه النتيجة تتناسخ في كلّ سلطةٍ من حولنا؛ ذلك لأنّ الثقافة، في بُعدها الأصيل، هي النقيض التاريخيّ للسياسة حين تتحوّل إلى احتكار. فالثقافة تَطرح مقولاتٍ ثابتةً، بينما تتغيّر المقولاتُ أو المواقفُ السياسيّة بتغيّر القوى والأحداث.
ولأنّه تَشَكّلَ للثقافة نوعٌ من "الهيبة المعنويّة" عبر العصور، فإنّها تخيف السياسيَّ باستمرار، وتشكّل لديه هاجسًا لا بدّ من حسمه. لذلك يبدأ عهدَه بمحاولة احتواء الثقافة، وهو يدرك أنّها تستند إلى إحساسٍ عامّ، وحقيقيّ، بكونها عاملًا أساسًا في تحديد هويّة المجتمع، وفي التأثير في هذه الهويّة على المدى البعيد. ومع ذلك، فإنّ الثقافة الجادّة لا تحظى بغير التجاهل، ومن ثمّ فإنّها لا تُغْني صاحبها معنويًّا أو ماديًّا. وعليه، فغالبًا ما يميل المثقّفُ، في زمنه الصعب، إلى واحدٍ من ثلاثة خيارات:
ــــ فإمّا أن يتحمّلَ نتائجَ ثقافته، ويبقى في خانة المثقّف الإيجابيّ الذي يتطلّع إلى المستقبل، وما يمكن أن يأتي به للمصلحة العامّة، متحمِّلًا في سبيلِ ذلك ما يتعرّضُ له من معاناة.
ــــ أو أن يبحثَ عن طريقٍ آخر، كمصدرِ رزقٍ مسانِد، يحدّ من فعله الثقافيّ، ولكنّه لا يلغيه كلّيًّا.
ــــ أو أن يقبلَ التصالحَ مع واحدةٍ أو أكثر من "السلطات" التي تحاول أن تُخرجَه عن وظيفته في مجتمعه.
زمن الأمن
السؤال الذي يواجه المتأمِّلَ في مسألة "السلطة والمثقف" في بلادنا العربيّة هو: هل حدث أنْ كانت لدينا سلطةٌ سياسيّةٌ حقيقيّةٌ يستطيع المثقّفُ أن "يتحاورَ" معها بأدواته المسالمة المعروفة؟
السلطة التي تعوّدنا أن نعرفها، بدءًا من الربع الأوّل من القرن العشرين، هي السلطة الأمنيّة؛ وهي تفرض نفسَها مرجعيّةً لكلّ السلطات. وتشير التجاربُ العربيّة إلى أنّ هذه السلطة تكون، عادةً، ممثّلةً بشخصٍ واحدٍ، يملك بين يديه كلَّ خيوط الربط والحلّ، وإنْ تجمَّعتْ إلى جانبه بطانةٌ من النفاق والفساد، تصوِّر له الواقعَ في غير صورته، لأنّ ذلك يجلب لها المنافعَ، أو لأنّها لا تجرؤ على تقديم الواقع كما هو خوفًا من البطش.
أمام هذه الصورة لا يبدو غريبًا أن نتذكّرَ أنّ شاعرًا كبيرًا، مثل محمد مهدي الجواهري، قدّم لحاكمٍ فردٍ وصيّةً "ناجعةً" للتعامل مع شركاءَ له سابقين في ثورةٍ عربيّة، حاولوا التمرّدَ على فرديّته أو ظلمه: "فضيّقِ الحبْلَ واشددْ من خناقِهمُ/ فربّما كان في إرخائهِ ضررُ!"
هل يمكن أن يبقى المثقّفُ على موقفٍ، تفرضه عليه مسؤوليّتُه كمثقّف، إذا تعامل مع سلطةٍ مطلقة، وإنْ تخفّت وراء حزبٍ يعلن برامجَ صاخبةً، أو ارتبطتْ بقوًى تدّعي تمثيلَ الناس؟ وهل يستطيع أن يعارض السلطةَ القامعة بحرّيّة، أو أن يحاول إصلاحَ شيءٍ ممّا تفسده، وهي التي تملك من الإمكانيّات ما يؤهِّلها لأن تفسدَه هو ذاته؟
سلطاتُنا الحاكمة تملك وسائلَ وأساليبَ، يمكن أن توجِّهَ المناسب منها، في الوقت المناسب، للتأثير في المثقّف، وتطويعه، بالإغراء أو بالقمع.
والقمع هو أوّلُ ما يرِد إلى ذهن السلطة الأمنيّة. لكنّ هذا العصر لم يعد متمسّكًا بوسائله القديمة لأسبابٍ عديدة، أبرزُها اثنان: الأوّل، هو أنّ وسائل الاتّصال الحديثة تحوّلُ ترهيبَ المثقّف إلى قضيّة عامّة تتعلّق بحرّيّة التعبير، وهو ما يَصعب أن تحتمل السلطةُ نتائجَها (رغم وجود كثير من الاستثناءات الوقحة). والثاني، هو أنّ تجربة السلطة الأمنيّة أكّدت أنّ الترهيب لا يكون ناجعًا، في معظم الحالات، لأنّ المثقّف الإيجابيّ، بموقفه الفكريّ الثابت، غالبًا ما يكون مستعدًّا مقدّمًا لدفع الثمن.
لكنّ ظاهرة الترهيب لا تختفي كلّيًّا، وإنّما تتّخذ أشكالًا مختلفةً عمّا هو معروف أو مباشر: مثل منع المثقّف من العمل أو السفر، أو الحدّ من قدرته على ممارسة حياةٍ طبيعيّةٍ بكلّ الطرق، وإنْ كان ذلك لا يثني المثقّفَ الإيجابيَّ عن موقفه. أمّا السلطة غير العسكريّة، فقد تلجأ إلى "سلطة المجتمع" لمعاقبةِ مَن يعاندها بحجّةِ أنّها لا تسمح بـ"خدش قيم المجتمع أو معتقداته"!
لكنّ أسلوبَ الإغراء يمكن أن يكون أسرع؛ بل إنّ الخضوعَ للإغراء قد يصبح أمرًا عاديًّا في أزمنة الهزيمة الشاملة وغيابِ الأفق، خصوصًا أنّه يمنح المثقّفَ الضعيفَ بعضَ الفرص كي يوهم نفسَه والآخرين بأنّه يقوم بما يقوم به "خدمةً للوطن." وهذا بالضبط ما يحدث بين العديد من المثقّفين الفلسطينيّين والعرب الذين يُبْدون انتماءً ما إلى قضيّة فلسطين، فيتخفّوْن وراء سمعتهم النضاليّة القديمة، حقيقيّةً كانت أو مدّعاةً، حتّى وهم يقومون بممارساتٍ لا تليق بالثقافة الوطنيّة.
إنّ حقيقة هذا النمط كثيرًا ما تظهر في فلتات اللسان، خصوصًا في الدفاع عن المواقف. وقد لوحظ ذلك في موقف بعض المحسوبين على الثقافة الفلسطينيّة من ظهور أمين معلوف على قناةٍ إسرائيليّةٍ يمينيّة؛ فدفاعُهم كشف ظهورَهم السابقَ هم أيضًا، أو كشف مواقفَهم السابقةَ المماثلة لموقف معلوف، وكانوا يبرّرون ذلك بأنّ علاقاتِهم لا تكون إلّا مع "اليسار" الإسرائيليّ الذي "يتفهّم المطالبَ العربيّةَ العادلة." لكنّهم عندما أدركوا أنّ ظهورَهم السابق كان من عوامل تشجيع معلوف على الفعل نفسه، لم يجدوا ما يبرّرون به ظهورَه، وإنْ لم يُقْدموا على إدانته حتّى لا ينسحب الموقفُ عليهم. وهم لم يجدوا سبيلًا إلى مواجهة موجة إدانة معلوف سوى اللفّ والدوران حول الموضوع، والاستعانةِ بأسماء لا تنفع شواهدَ بسبب بعدها في المكان والزمان على السواء.
كما أنّ حقيقتهم تظهر في الفرْق الشاسع بين الآراء الشفويّة التي يطْلقونها حيال بعض النشاطات الثقافيّة الفلسطينيّة أو نتاجات بعض المثقفين الفلسطينيين، وبين ما يكتبونه لاحقًا عن هذه النشاطات والنتاجات البائسة. وتظهر أيضًا في التناقض الحادّ بين معرفتهم الدقيقة ببعض المؤسّسات التي تسيء إلى الثقافة الفلسطينيّة (وقد لا تجد عيبًا في ممارسة التطبيع)، وبين عدم تردّدِهم في التعامل معها والاستفادة ممّا تقدّمه لهم من خدمات!
ولأنّ قضيّة فلسطين ما زالت مقدّسةً عربيًّا، وإنْ فتر الاهتمامُ بها، فإنّ أيّ حديثٍ عنها، يَصْدر عن مثقّفٍ فلسطينيّ، إنّما يَحْمل معه معيارَ تصديقه في الخارج العربيّ، الذي يَحمل معظمُ أفراده "عقدةً تسمّى فلسطين." وهذه الرؤية ليست صائبةً؛ ذلك لأنّ كلّ قضيّة، مهما بلغتْ قدسيّتُها، سوف تجد مَن يفرِّطون بها لمصالحَ ذاتيّةٍ أو مؤقتّة. وبسبب ذلك كتب المثقّفُ الفلسطينيُّ كثيرًا عن "السماسرة" الذين فرّطوا بالأرض قديمًا، وعن "العملاء" الذين نشطوا لصالح الاحتلال، وعن "العصافير" الذين عملوا في السجون لمساعدة الاحتلال في الحصول على اعترافات الصامدين أمام التعذيب، وعن "المطبّعين" في زماننا هذا.
سلطة واستجابة
لا شكّ في أنّ الموقف الحقيقيّ لمعظم المثقّفين الفلسطينيّين يبقى نقيضًا لاستمرار الاحتلال. لكنّنا لا نستطيع إلّا أن نلاحظ أنّ طرق التحايل الخادعة كانت سبيلَ الاحتلال، في بداية حواره مع السياسيّ الفلسطينيّ، حين أبدى رغبتَه في تحقيق "السلام"؛ وهو ما أنتج اتّفاقيّاتِ أوسلو، والعودةَ غيرَ المنجزة إلى الوطن. ولا نستطيع إلّا أن نلحظَ أنّ هذه الطرق أغرت بعضَ المثقّفين بالاقتراب من الاحتلال، فباتت نخبةٌ منهم تفْخر بعلاقاتها مع ممثّليه.
لقد شهد الوسطُ الثقافيّ، في زمنٍ ما، شيئًا من الحماسة لبناء علاقاتٍ مع المحتلّ. وكانت حججٌ كثيرةٌ تتردّد حول قدرة هذه العلاقات على "تغيير الثقافة السائدة لديه" من خلال الحوارات الثقافيّة المتنوّعة. وبلغ التصوّرُ لدى بعض السينمائيّين الفلسطينيّين أنْ توهّموا قدرتَهم على تغيير اتّجاهات المجتمع الإسرائيليّ، الاحتلاليّ الاستيطانيّ منذ جذوره الأولى، من خلال فيلمٍ ضعيفٍ، مدّتُه لا تزيد عن خمس دقائق، يُعرض لمرّةٍ واحدة، في إحدى قاعات تل أبيب الصغيرة! لكنّ الأخطر هو تصوّرُ بعض الأدباء الفلسطينيّين أنّ العلاقة مع الاحتلال ستوصِلُهم إلى الجوائز الدوليّة، بسببِ ما يكتبونه من أدب. وهناك في الواقع مَن روّج لنفسه بأنّه من المرشّحين الرئيسين لجوائزَ عالميّة، منها جائزةُ نوبل، قبل أن يحصل عليها بوب ديلان!
كان الانفتاحُ على العلاقات مع الإسرائيليين واسعًا، وربّما مُقْنعًا، لبعض المشتغلين بالثقافة، في فترةٍ سبقت الاجتياحَ الإسرائيليَّ سنة 2002 للمدن التي اعتبرتْها الاتّفاقياتُ الموقَّعةُ مع الاحتلال تحت "السيطرة الكاملة" للسلطة الفلسطينيّة. وقد ساهم هذا الاجتياحُ في انحسار شيءٍ من موجة "حسن النيّة" تجاه الإسرائيليين، وفي تقلّص ظاهرة التعلّق بالمثقّف الإسرائيليّ "الصديق" طوقَ نجاةٍ. لكنّه لم ينهِ أيًّا منهما. ثم جاءت حكومةُ اليمين، المستمرّة ــــ تقريبًا ــــ منذ ذلك الحين، لتقلّلَ من حجمِ ما تبقّى من تلك الموجة. لكنّ بعض الأصوات المحسوبة على الثقافة الفلسطينيّة ما تزال تعلن قدرتَها على الفعل، تغطيةً لرغبتها في الحصول على المكاسب.
غير مباشر
وما دام الإغراءُ، إلى جانب عواملَ أخرى، قادرًا على تغيير المثقّف الفلسطينيّ، أو تغييبه عن الفعل الذي يُفترض أن يكون مقدَّرًا له، فقد يكون موقفُه الضعيفُ الأثر هو السببَ الأهمّ في أنّ الاحتلال لا يطارده، ولا يبدي قسوةً تجاهه، كما يفعل مع غيره.
هذا لا يعني أنّ الاحتلال لا يعمد إلى الضغط على المثقّف الفلسطينيّ، كما كان يفعل قبل وجود السلطة الفلسطينيّة، حين تعرّض معظمُ المثقّفين للاضطهاد والاعتقال والإبعاد. وإنّما يعني أنّه يلجأ إلى طرق غير مباشرة لهذا الضغط، يمكن إعادةُ وضعها تحت عنوان "الإغراء،" مادّيًّا كان أو معنويًّا، وإنْ كان بعضه وهميًّا.
ومع أنّ بعض الإغراء كان مباشرًا في البداية، وكان عنوانه الواضح هو الاستضافة المتكرّرة في أجهزة إعلام الاحتلال، والتحاور علنًا مع ممثّلي الاحتلال، والدعوات التي توجّه لحضور الفعاليّات الثقافيّة لدى الاحتلال، وخصوصا في القدس؛ إلّا أنّ الاحتلال غيّر أسلوبه، بعد أن أصبح إعلانُه محرِجًا، ليأتي عن طريق طرفٍ ثالث، من الأطراف التي تدرك أنّ في توسيع العلاقات بين المثقّف الفلسطينيّ والإسرائيلي مزيدًا من الحماية للوجود الإسرائيليّ.
وإذا كان الحديثُ عن "المنظّمات غير الحكوميّة" ممكنًا هنا، وخصوصًا تلك التي تموّلها جهاتٌ خارجيّة معروفةٌ بدعمها للاحتلال، مثل بعض المؤسّسات الأمريكيّة الشهيرة، أو تلك التي كانت تتفاءل بإحلال السلام، فإنّ ما يُفترض أن يكون عنوانًا لذلك هو موضوع المال الذي يشكّل أكبرَ السلطات الضاغطة على المثقّف حين يكون ضعيفًا في انتمائه إلى قضيّته، معنيًّا بمكاسبه الشخصيّة.
ولا يمكن القفزُ بالطبع عن حقيقة أنّ المال المحلّيّ، في أيّ مكان، مرتبط هو أيضًا بالسلطة، في معظم الأحوال. وما ترضَ عنه السلطة يرضَ عنه أصحابُ الأموال، لأنّ حاجتهم إلى تغذية أموالهم تقتضي أن يرتبطوا بالسلطة. ويمكن أن نلاحظ أنّ المؤسّسات الماليّة الفلسطينيّة القادرة على دعم الثقافة لا تفطن إلّا للمناسبات الاستعراضّية المؤقّتة أو الطارئة، ولا تنظر بشكلٍ جدّيّ إلى المردود الثقافيّ على المجتمع بقدْر ما تنظر إلى ما تقدّمه التظاهرةُ العابرةُ من دعايةٍ لها. وهي بذلك تنحو إلى تجاهل مؤسّسات ثقافيّة تهدف إلى بناء ثقافة جادّة وفاعلة تتطلّع نحو المستقبل. وهكذا لم تظهرْ لدينا جهةٌ ماليّةٌ محلّيّةٌ تتبنّى إقامةَ مسرح وطنيّ مثلًا، أو مكتبةٍ وطنيّة، أو دار نشر وطنيّة. وكأنّ المال لا يَدعم إلّا ما يتّفق ورؤيتَه التي تكاد تنحصر في تراكم الكسب.
من الطبيعيّ أن يحتاج المثقّفُ إلى مصدر رزق، خصوصًا حين يكون فلسطينيًّا تحت الاحتلال، أو فُرض عليه التشرّد، فيُضطرّ إلى التنازل عن شيء ممّا يؤمن به. لكنْ حين يتنازل المثقّفُ عن شيء من إيمانه، فإنّه يسلّم "طرفَ الحبل،" معلنًا الاستعدادَ للتنازل الكلّيّ، مهما حاول أن يحتفظَ بشذراتٍ لفظيّةٍ من قناعة قديمة؛ ذلك لأنّ الإيمان بقضيّة ما، إيمانًا حقيقيًّا، لا يمكن أن يكون قابلًا للتجزئة.
مسارات
في هذا الإطار نستطيع أن نتذكّر ما يفعله المالُ العربيُّ الآن من تحويلٍ في مسارات الثقافة والمثقّفين. ويكفي أن ننظرَ إلى العدد الكبير من المثقّفين، العرب عمومًا، والفلسطينيّين خصوصًا، الذين جذبتْهم صحفٌ لا تُخفي مصادرَ تمويلها، ولا توجّهاتِها المخطَّطةَ بشكلٍ مسبّق. وإذا كان عرّابوها، وهم في الغالب فلسطينيّون، يوهمون المثقّفين أوّلَ الأمر بأنّهم يملكون الحرّيّةَ كي يكتبوا بحرّيّة، فإنّ ذلك سرعان ما يتغيّر، لأنّ تطبيعَهم يحدث بقوّةٍ كي ينسجموا مع الأهداف التي تأسّست الصحفُ من أجل تحقيقها، بعد أن يكونوا قد اعتادوا المالَ الذي يُبذل لهم. والصحف من هذا النوع، بما تملكه من سلطة المال، لا يعنيها إخفاءُ توجّهاتها؛ الأمرُ الذي يُلزم مَن يرتبط بها بتجنّب الخروج عن هذه التوجّهات. ولعلّ التغيّر في إدارات بعض الصحف العربيّة المعروفة، تبعًا لتغيّر مموّليها، وما ينجم عن ذلك من إخراجٍ لمن لا ينسجمُ من كتّابها مع التوجّهات الجديدة، مؤشّرٌ على ما يفعله المالُ المسيَّسُ بالواقع الثقافيّ.
وما يؤسف له أنّ الملاحظة السابقة قد توصل إلى تقريرٍ محزن: أنّ أكثر المثقّفين حماسًا للمواقف المتقدّمة، لفظيًّا، هم أقربُهم إلى التنازل عن هذه المواقف عندما يتوفّر الإغراء. ولعلّ كثيرين سمعوا بتجارب تُقْنعهم بأنّ المثقّف، حين يخون قناعتَه، يكون أسوأ من غيره، وأكثرَ تشبّثًا بانتهازيّةٍ عمياء أيضًا، لأنّه يحاول على الدوام تبريرَ ما يفعل. ولا شكّ في أنّ مَن يتأمّل التحوّلات التي طرأتْ على بعض المثقّفين في فلسطين، ممّن انتموْا إلى بعض الفصائل في زمن انتعاشها، لن تُعْوزَه الأمثلة. وعادةً ما يتفتّق ذهنُ الاحتلال، ومَن يدعمونه، عن وسائلَ غير ظاهرة لتقديم الدعم للمثقّف الذي يبدي ضعفًا تجاه ذلك. ولعلّ أبرزَ ما يمكن أن يلاحَظ، لدى المثقّف الفلسطينيّ في هذا المجال، تهافتُه على ثلاثة سبلٍ يوفّرها له هذا الضعفُ حين ينكشف:
أولًا: الإغراءُ بالسفر، خصوصًا لتمثيل فلسطين في المؤتمرات "المشتركة"، التي يتمثّل فيها الاحتلالُ، وعلى رأسها تلك اللقاءاتُ الخاصةُ بـ"التعايش." ومهما كانت هذه المؤتمراتُ (التي تركِّز على الشباب في الغالب) واضحةَ الافتعال، فإنّها توفِّر بيئةً خاصّةً تجمع المثقّفَ الفلسطينيّ بمن يجايلونه من مثقّفي الاحتلال، وتستطيع التأثيرَ في نسبةٍ غير بسيطة ممن يعايشونها. وحتى لو ظلّ المثقّفُ بعيدًا عن اعتبار وجود الاحتلال أمرًا طبيعيًّا، فإنّ تأثير تلك البيئة الخاصّة قد يكتفي بدايةً بأن يقْنعَه بالدفاع عن "المشاركة" ذاتها، باعتبارها نوعًا من "المواجهة الفكريّة النضاليّة،" التي سيكون لها ما بعدها. مثلُ هذا "السَّفَر" التطبيعيّ مستمرّ منذ أوسلو؛ وهو قد ينحسر بعض الوقت، بسبب ظرفٍ ما، ولكنّه يعود وينتعش، ويجد مَن ينتظرونه.
وإلى جانب المؤتمرات، هناك فعّاليّاتٌ مختلفة، تتّخذ كثيرًا من العناوين والمناسبات، وتتنقّل بين المدن الغربيّة، وقد تعلن عن أهدافٍ بعيدةٍ عن هدفها الحقيقيّ، الذي لا يكون إلّا بناءَ جسر تطبيعيّ بين الفلسطينيّ ومَن يحتلّ أرضه. وبالرغم من فضح أهداف عددٍ من المبادرات المشبوهة، فإنّ جديدًا منها يظهر باستمرار، وهو يجد مَن يلهث وراءه، ويدافع عنه بقوة. ولعلّ نظرةً سريعةً إلى أولئك الذين تبقى شهوتُهم مفتوحةً لحضور المناسبات المفتعلة تستطيع أن توحي بقدرة هذه على المساهمة في توجيه الإنتاج الثقافي الفلسطينيّ نحو ما هو "جماليٌّ بحت" أو "شخصيٌّ بحت" يُبعده عن قضيّته المركزيّة؛ هذا إذا لم يكن التوجيه مباشرًا نحو التعايش أو التطبيع.
ثانيًا: الإغراء بـ"العالميّة." وهي طريقةٌ توهِم مَن تُقدّم إليهم بأنّهم مبدعون كبار، يدخلون هذا البابَ بكلّ سهولةٍ من خلال عرض أعمالهم في الغرب، عن طريق الترجمة ومعارضِ الفنّ ومهرجاناتِ السينما والمسرح، وغير ذلك من التظاهرات المخطَّطة. وغالبًا ما تكون هذه السبلُ مشتركةً، وكثيرًا ما تحمل عناوينَ مهمّةً، مثل المشروع الأمريكيّ (الذي أجهضتْه الكاتبةُ الفلسطينيّة حزامة حبايب، وعاونتْها بحماسة واضحة الكاتبة المرحومة الدكتورة رضوى عاشور)، وكان ظاهره نشر قصصٍ مترجمةٍ لكاتبات من آسيا وإفريقيا، قبل أن يُكتشف أنّه يهدف أساسًا إلى حشر كاتباتٍ إسرائيليّاتٍ فيه باعتبارهنّ جزءًا من السياق العامّ لهذه المنطقة.
إنّ موضوع الوصول إلى العالميّة يغري الشبابَ الصغير الذي يظنّ أنّه "اكتشفَ" ما لم يكتشفْه أحدٌ من قبله، بمجرّد أن يبدأ [الإنتاجَ]، وذلك قبل أن تخفَّ حماستُه مع العمر ويصبحَ قادرًا على نقد ذاته. كما أنّه يغري صغارًا من نوع آخر، يستمتعون بتضخيم ذواتهم، من دون أن يكونَ لديهم ما يستحقّ ذلك؛ وهؤلاء قلّةٌ ممّن يختارون القبولَ بما لا يجوز لمثقّفٍ فلسطينيّ تحت الاحتلال أن يقْبلَ به.
وقد انتشرتْ في فلسطين ظاهرةٌ تسمح لبعض المحسوبين على الثقافة بأن يتبجّحوا بأنّهم يحظوْن بترجمة شيء من نتاجهم إلى اللغات الغربيّة، وأنّ انتشارَهم هناك كبيرٌ، ولذلك لا يهمّهم كثيرًا أن ينتشروا داخل وطنهم، الذي يعرفون أنّهم غير معروفين فيه، أو أنّ إنتاجهم مليء بالعثرات، أو أنه لا يحظى بالثقة من الجمهور أو النقد. وقد بلغ الأمر في هذا المجال حدّ أن يَطْبع أحدُ المنتسبين إلى الشعر الفلسطينيّ ديوانًا بعدّة لغات أجنبيّة، تُشارك النصَّ العربيَّ، لا على حسابه الشخصيّ، وإنّما على حساب وزارة الثقافة الفلسطينيّة!
وحين يرتبط هذا الإغراءُ بالاحتلال، فإنّ "الإشاعة" الثقافيّة التي تربط الجوائزَ العالميّةَ بمدى اقتراب الكتّاب من الاحتلال قد أنتجتْ مفعولَها الواضح في المثقّف العربيّ عمومًا، والفلسطينيّ ضمنًا. وتستطيع ذاكرتُنا أن تستعيد بعضَ الأسماء العربيّة، وبعضَ أسماء المثقّفين الفلسطينيّين، الذين تقرّبوا من الاحتلال أو مقولاتِه لهذا الهدف، الذي يُثبت كلَّ عام أنه ما يزال بعيدًا.
ثالثا: الإغراء بالجوائز. في هذا النوع من الإغراء يَبرز مصدران: الأوّل هو الذي يخجل من عجزه عن تقديمِ ما يَخدم القضيّة الفلسطينيّة، فيحاول أن "يسدّ النقص" بأن يقدّم جوائزَ إلى المثقّفين الفلسطينيّين. وهذا النوع غالبًا ما يكون محصورًا في الجانب العربيّ من الجوائز، إذ يلاحَظ أنّ كثيرًا منها سياسيّ يوزَّع على الأقاليم؛ ولذلك فإنّ من أولويات هذه الجوائز أن يرد اسمُ "فلسطين."
أما المصدر الثاني فأهدافُه مرتبطة بطبيعة تدخّله في المنطقة، وهو يختار للتكريم ما يتوافق مع هذه الأهداف. والذي يتابع ما تنشره وسائلُ الاتصال عن جوائزَ تنهال على فلسطين باسم "الثقافة" قد يتصوّر أنّ بلادنا عادت إلى عصرها الذهبيّ في إنتاج الكتّاب والفنّانين والشعراء الكبار؛ في حين يشعر كلُّ منْصفٍ بأنّ الثقافة الفلسطينيّة تفتقر إلى الجديد، وما تزال تستند إلى كثيرٍ من الأسماء التي رحلتْ، وإلى قليلٍ من الأسماء الباقية التي غالبًا ما تقفز عنها الجوائز ــــ بما فيها الفلسطينيّة.
المكان ــــ السياق
السياق العامّ للمكان الذي يوجد فيه المثقّفُ ذو تأثيرٍ حاسمٍ في بناء علاقاتٍ ثقافيّة أو إنسانيّة جديدة أوّلَ الأمر، ثمّ في أيّ تحوّلٍ يحدث في موقف المثقّف بعد ذلك. ولعلّ أصعبَ انتقالٍ للمثقّف هو الذي يحمله من جوّ ثقافي نقديّ يتمتّع بمستوًى من الحرية، إلى جوّ ضاغطٍ لا يقبل النقدَ؛ فيلجأ إذّاك إلى تجميد نفسه عن الفعل، أو إلى تعديلها. وقد يصل تأثيرُ الانتقال إلى درجة تهديد حياته، وغالبًا إلى الإصابة بأمراض القلب؛ وهو ما تعرّض له بالفعل بعضُ المثقّفين الذين هُجّروا من الخليج، أوائلَ تسعينيّات القرن الماضي.
ولقد أثبت تغييرُ المكان قدرته على تحويل بعض المثقّفين العرب إلى نقيضِ ما كانوا عليه في أمكنةٍ سابقة. ولعلّ مَن تابع انتقالاتِ الثورة الفلسطينيّة في الأمكنة، وما أصاب المثقّفين الذين ارتبطوا بها من تحوّلاتٍ بعد كلّ انتقال، يدرك أهمّيّةَ البيئة التي يعمل فيها المثقّف. بل بلغ تأثيرُ التغيّر في البيئة أحيانًا أنّه نقل المثقّفَ إلى العداء المطلق لما آمن به سنواتٍ طويلة؛ أو أحاله إلى انتهازيّ خالص، يلتصق بالسلطة السياسيّة / الأمنيّة ليحظى بشيء من عطاياها.
الثبات المكانيّ ليس متوفّرا للمثقّف الفلسطينيّ منذ النكبة. فهناك تنوّعٌ في البيئات الثقافيّة التي يُضطرّ إلى معايشتها في الشتات من دون أن يكون بالضرورة متوافقًا معها. وهناك البيئة الفلسطينيّة ذاتُها، التي تتوزّع في مكانين، بينهما خلافاتٌ في الفعل الثقافيّ: فالمثقّف في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة له موقفٌ من الاحتلال قد لا يتوافق بشكلٍ كلّيّ مع المثقّف الفلسطينيّ في فلسطين 1948. وفي كل الأحوال فإنّ المثقّف الفلسطينيّ الملتزم يرى أنّ الاحتلال يَستخدم الثقافةَ أداةً لتغطية الانتهاكات التي يقوم بها ضدّ القانون الدوليّ، ولـ"تبييض" ممارساته. وهو يحاول التسلّلَ إلى الثقافة الفلسطينيّة بطرقٍ ذكيّة، من بينها الدعمُ المباشر أو غيرُ المباشر لها. ولأنّ الثقافة لا تنفصل عن العالم الدنيوي، كما توضح لجانُ المقاطعة الثقافيّة المنتشرة في العالم، فإنّ هذا المثقّف يرى أنّ الذين يشاركون في فعّاليّات الاحتلال يساهمون في تبرئته من جرائمه، عن طريق خلق انطباعٍ زائف بأنهم يتعاونون مع بلد "طبيعيّ" مثل غيره من البلدان. ولعلّ أبرز ما يؤكّد استخدامَ "إسرائيل" للثقافة على سبيل الدعاية لها هو أنّ وزارةَ خارجيّتها هي التي تغطّي تكاليفَ الفعاليّات الثقافية، وتتعامل مع كتّابها وفنّانيها باعتبارهم "مزوّدي خدمات" من واجبهم أن يساهموا في تعزيز السياسات التي تنتهجها ــــ ومن ضمن ذلك أن يتحوّلوا إلى "أوراق تين" تغطّي بطشَ الاحتلال وعنصريّتَه وتنكُّرَه للمساواة، حتّى بالنسبة إلى مَن يحملون المواطَنة الإسرائيليّة من الفلسطينيّين.
إنّ الضغوط التي مورستْ، وما زالت، على الثقافة الفلسطينيّة، واستجابةَ بعض المثقّفين لذلك، جرّدتْها من بعض جدّيتها، وأخرجتْها من حالتها الثوريّة إلى حالةٍ من الاسترخاء والعزلة والتعلّق بالأوهام. أضف إلى ذلك ضعفَ مصادر التلقّي الثقافيّ لدى نسبةٍ عاليةٍ من الشباب، بسبب تدنّي نسبة القراءة من ناحية، والإدمانِ على وسائل الاتّصال الحديثة التي لا تقدّم إلّا "الوجباتِ السريعةَ" وغيرَ الموثوقة من المعرفة من ناحيةٍ ثانية؛ فضلًا عن سنوات طويلة من الاحتلال وضعَت المجتمعَ الفلسطينيّ في عزلة ثقافيّة لم يُسمح خلالها للثقافة الوطنيّة بأن تتواصل مع ما كان يستجدّ في الثقافة العربيّة أو العالميّة. كلّ ذلك سوف يرينا لماذا أصبحت الرؤية الضيّقة من علامات الثقافة الفلسطينيّة حتّى الآن، ولماذا انصبّ كثير من الجهد من أجل الوصول إلى "شهرة اللقطات القصيرة" العابرة في الزمن. وهذا الواقع الثقافيّ المختلّ يتيح لمن يستغلّون الثقافة، ومن يسحبونها نحو التفاهة والتسطيح والادّعاء والاستعراض الشكليّ وعدم الالتزام بأية قضيّة، بأن يحتلّوا معظمَ مساحة المشهد.
وعليه، لم يعد غريبًا ــــ مثلًا ــــ أن تمحض مؤسّسةٌ ثقافيّةٌ ما ثقتَها لمن يخُونون الثقافةَ ويجيّرونها لمصالحهم الخاصّة؛ أو أن تمنح مؤسّسةٌ أخرى جوائزَها لمن لا يستحقّونها. كما لم يعد غريبًا أن تتبنّى بعضُ دُور النشر الفلسطينيّة كتبًا منحرفةً في مواقفها من مقاومة الاحتلال، أو كتبًا تعارض التقدّم الاجتماعيّ، أو أخرى تضحّي بسلامة لغتها زاعمةً أنّ ذلك لا يُبطل الإبداع.
ما سبقت الإشارةُ إليه، وغيره من أمثاله، هو الذي يَسُود المشهدَ الثقافيّ الفلسطينيّ الحاليّ، ويسيطر على المؤسّسات الفلسطينيّة القادرة على الإنتاج الثقافيّ، ويحظى بالدعم الرسميّ كاملًا. وهو الذي يمثّل الثقافةَ الفلسطينيّة، ويسيء إليها كثيرًا، في التظاهرات الثقافيّة التي تتمّ بإشراف رسميّ، في الداخل وفي الخارج.
لكنّ الثقافة العربيّة في فلسطين أثبتتْ، عبر تاريخها الذي تعرّض إلى كثير من محاولات المحو وإحلال ثقافات أخرى بديلة، أنّها قادرة على الصمود والمقاومة، وأنّها تبقى أكبر من أيّة محاولة للانتقاص منها؛ أجاءت من خلال الاحتلال والعدوان، أمْ من خلال أبناءٍ لا يظنّون بها خيرًا. والمشهد السلبيّ السائد الآن في الثقافة الفلسطينيّة، والذي يستمدّ دعمَه من انحسار روح المقاومة في المجتمع الفلسطينيّ خصوصًا، والمحيط العربيّ بوجه عامّ، لا يمكنه أن يهزمَ تلك الثقافة. ونحن نلمح فيها شراراتٍ تُشعل كفاءاتٍ لا تهتمّ بالشهرة لذاتها، ولا بالمال أو بالجوائز، ولا تخاف من الاحتلال، ولا من أيّة ضغوطٍ تعوّق مسيرتها.
فلسطين