أتينا في زمن الخيام والزينكو، حين كان التذكُّرُ أوّلَ مقاومةٍ للنسيان. حينها، كان أجدادُنا يَجلسون ويتحدّثون عن فلسطين والنكبة والتاريخ. ومنهم، انتقلت الذاكرةُ من جيلٍ إلى جيل، واختلط الواقعُ فيها بالخيال. فاستحضرنا حياةً لا نعرفُها ــ ــ أمكنةً وأشخاصًا وقيَمًا وشواهدَ وثمارًا لا تشبه بطعمها أيَّ شيءٍ نذوقُه اليوم.
ذاكرتنا، التي تقارن بين القَبْل والبَعد، تختزن تاريخًا مَحكيًّا عن بطولات الرجال الأوائل: هبّة 1929، وثورة 1936، وحرب 1948، ومعركة شباب القرية ضدّ قافلة الغُزاة على طريق جدّين، وانتقام اليهود من القرية يوم النكبة.
تأسّس المخيّمُ الفلسطينيّ على الذاكرة الأولى، ألا وهي ذاكرةُ الجليل الفلسطينيّ. فحَملتْ حاراتُه أسماءَ القرى التي جاءوا منها، إلى جانب العادات والتقاليد واللهجات ذاتِها. وانتقلتْ روايةُ النكبة بين الأجيال: من جيلٍ عاش الذاكرةَ الأولى، إلى جيلٍ عاشت فيه هذه الذاكرة، فإلى جيلٍ ثالثٍ يَحمل معه البُعدَ المجازيَّ المضاف إلى المكان.
شهد الجيلُ الثاني من النكبة الاختفاءَ التدريجيَّ للقنباز والحطّة والعقال والشال المطرّز وثوب الكنافا، إيذانًا بغياب جيل "البلاد الأولى" من المشهد المُخيّميّ. وتنقّل الجيلُ الثاني من ذاكرة الحنين إلى الماضي، إلى مرارةِ الواقع، واقع اللجوء. وأسهمتْ حالةُ المدّ الوطنيّ والثقافيّ في إعطاء معنًى جديدٍ للترابط بين الوطن الحقيقيّ والوطنِ المتخيَّل، وفي إضفاء شعورٍ مرتبطٍ بالماضي والمستقبل على الهويّة الوطنيّة. كان الاستذكارُ هنا فعلًا آليًّا. ولم يُدركْ صاحبُه الخيطَ الرقيقَ بين الوطنيّة التي تحفظ الهويّة، وبين الوطنيّة المُنغلقة التي تستولد العزلةَ وتؤسِّس لذاكرة الغيتو.
مع الجيل الثالث غدا المكانُ الأول، في جزءٍ كبيرٍ منه، من صنع الخيال، ما أكسبه معنًى مضافًا.
***
لم تتوقّف يومًا عمليّاتُ استهداف الذاكرة الوطنيّة، وتصويرِها ذاكرةً "ميؤوسًا منها" لا بدّ من تحاشيها. وفي سبيل ذلك تَخضع هذه الذاكرةُ لإعادة تدويرٍ مستمدّةٍ من "لجوءاتٍ" مكرَّرة، فتتحوّل "ذاكرةُ الشتات" إلى "شتات الذاكرة."
هكذا تحوّل المخيّمُ في الشتات إلى فلسطين موقّتةٍ، ونمَت فيه ذاكرةٌ تغذّت من كثافةِ اللجوء ومضاعفةِ الحرمان، وبات "المنفى الأمُّ" في الذاكرة يستحوذ على مكانة "الوطن الأمّ."
كما تراجعت الحكايةُ المرويّة، وحلّت مكانَها الحكايةُ المَعيشة. هكذا أنتج المكانُ "الموقّت" ذاكرتَه الحصريّة، فتكوّنتْ ذاكرةٌ جماعيّةٌ "عموديّة،" تتواصل عبر الأجيال. وأوجبتْ عليها الظروفُ المكانيّةُ أن ترتبط بمساحاتٍ جغرافيّة مختلفة، فشكّلتْ بالتالي ذاكراتٍ جديدة.
اتّخذ المخيّم في معظم الأحيان وطنًا بديلًا على صورة الوطن الأصليّ. في لبنان أثناء معارك مخيّم نهر البارد، مثلًا، سمعتُ شابًّا يستهلّ خطابَه بالقول: "نحن البارديين عائدون للمخيّم!" وفي سوريا أيضًا، تردّد شعار: "بالدم بالروح نفديك يا يرموك."
***
نحن اليوم أمام جيلٍ لا يقيِّد فلسطينَ في جغرافيا وهميّةٍ، أنتجتْها سياسةُ تسويةٍ مهزومة، بل نحن أمام جيلٍ يَعتبر فلسطينَ "فكرةً" يحلم فيها ويحتاج إلى تجسيدها. ولذلك فإنّه يستعين بشتاته الجديد من أجل إعادة الاعتبار إلى ذاكرته، ومن أجل استعادةِ نفسه كإنسانٍ فلسطينيّ. وبذلك يجدِّد اللاجئ، صاحبُ الوطن، صورتَه في ذاكرة الآخرين، بطريقةٍ لا تتوسّل شفقتَهم، بل تستدعي إعجابَهم، من خلال استهاض ذاكرةٍ يصنعها الفعلُ النضاليُّ الدؤوب.
"المقاومة شكل من أشكال الذاكرة في مقابل النسيان؛ وعلى هذا تصبح الثقافةُ على قدْر كبير من الأهميّة." هكذا تحدّث إدوارد سعيد عن الثقافة: إنّها مقاومةً محصَّنةٌ بالذاكرة التي تقاوِم النسيان. فالثقافة المقاومة لا تستند إلى التنوّع المعرفيّ فحسب، بل تعمل أيضًا على خلق علاقةٍ جدليّةٍ بين ذاكرتين: أصيلةٍ، وجديدةٍ تُبنى على أساس الذاكرة القديمة.
***
النكبة ليست ذكرى، بل ذاكرةٌ مستمرّةٌ حقيقيّة تواجه ذاكرةً تعمل على تزييف التاريخ. فإذ يلفّق العدوُّ "تاريخًا قديمًا" لكيانه المزيّف، ويستخدم ذاكرة "المحرقة" (الهولوكوست) لإسقاط ذاكرة النكبة، تنتصب الذاكرةُ الوطنيّةُ قوةً "ناعمةً" في الصراع من أجل حقّ العودة والتحرير واستعادة فلسطين.
***
ختامًا، لم يكن عبثًا إطلاقُ اسم "لجنة الذكريات"على إحدى اللجان التي تأسّستْ بعد تدمير مخيّم نهر البارد. فهذه اللجنة، التي عملتْ بين مرحلة إزالة الدمار ومرحلة الشروع في البناء، سَمحتْ لأصحاب البيوت قبل جرفها بالبحث عن بقايا المقتنيات، التي كانت لبعضها دلالةٌ رمزيّة: كأوراق طابو الأرض، أو بطاقات هويّة، أو مفاتيح بيوتٍ حملوها من فلسطين، فضلًا عن أدوات نحاسيّة، وصورٍ شخصيّةٍ قديمة. هكذا اختلطتْ ذكرياتُ البلد الأول بذكريات "البلد المنفى" فنتجتْ ذاكرةٌ "مخيّميّة" من أخصب الذاكرات.
نهر البارد