تُعبِّر مأساةُ الطيور المقتولة فوق مطار بيروت عن أزمةٍ أخلاقيّةٍ وإنسانيّةٍ... وسياسيّة بالدرجة الأولى. فالمعروف أنّ شركة طيران الشرق الأوسط ــــ الخطوط الجويّة اللبنانيّة، وهي شركة رسميّة لبنانيّة، كَلّفتْ قنّاصةً "محترفين" باصطياد طيور النورس التي قد تهدِّد سلامةَ الطيران المدنيّ جرّاءَ ما يُعرف بالإنكليزيّة بـ bird strikes، أي اصطدامِ الطيور بالطائرات بما يؤدّي إلى تخريب محرّكاتها من بين أمورٍ أخرى. وتذرَّع ممثّلو الدولة وشركة الطيران المذكورة بأنّ قتل الطيور أهونُ الشرّيْن، وبأنّه أشبهُ بـ"حرب استباقيّة" تشنّها الدولةُ على الطيور ــــ الأعداء.
لكنّ المشكلة هي في مكانٍ آخر تمامًا.
فالطيور المذكورة لم تأتِ إلى "مطار رفيق الحريري الدوليّ" حبًّا برفيق الحريري، ولا شغفًا بصيغةِ لبنان "الفريدة،" أو هيامًا بأكبر صحن تبّولة في العالم. الطيور جاءت، تحديدًا، حبًّا وشغفًا وهيامًا بأكبر مكبٍّ للنفايات، مكبّ الكوستابرافا، الواقع على بعد حوالى 100 متر من المطار وبضعة أمتارٍ من البحر الأبيض المتوسّط. وهذا المكبُّ، بدوره، لم يهبطْ من السماء قرب مطار الحريري حبًّا وشغفًا وهيامًا ببلد التعايش، بل لأنّ بعضَ المتنفّذين اللبنانيين، من أصحاب المصالح العقاريّة "والمتعهِّدين" الجشعين تحديدًا، اختاروا مكبّيْن للزبالة (يسهمان في التوازن الطائفيّ): واحدًا على الشريط الساحليّ الشماليّ لبيروت، في منطقة الكرنتينا؛ والثاني على الشريط الساحليّ الجنوبيّ، في منطقة الأوزاعي قرب المطار. وقد جاء هذا الحلُّ بعد حَراك مدنيّ طويل ضدّ أزمة رفع النفايات والحلول التلفيقيّة غير البيئيّة التي اقتُرحتْ. وفازت في صفقة تلزيم المكبّ بجانب المطار شركةٌ ارتبط اسمُها بمشاريع الفساد طوال الوقت، وبعمليّةٍ ملتبسةٍ على مرحلتيْن.
في بدايات الألفيّة الثانية (بعد الميلاد)، إذنْ، لم يجد حكّامُ لبنان مكانًا يرمون فيه النفاياتِ إلّا على مدخليْن من مداخل العاصمة، وتُركت المناطقُ الأخرى لكي تتدبّرَ نفاياتِها. كأنّ مسؤولينا "فوجئوا" بأنّ في لبنان شعبًا، وبأنّ هذا الشعب يُنتج ــــ ويا لَلصَّفاقة! ــــ زبالةً، وبأنّ عليهم ــــ بصفتهم حاكمين ــــ أن "ينشغلوا" عن مهامّ أسفارهم ومصالحِهم كي يبتدعوا "الحلولَ" لرعاياهم الصالحين.
لو شئنا الحقيقة، فإنّ النورسَ المسكين مؤشّرٌ على حجم التلوّث الموجود في بلادنا؛ بل كان سيساعدُنا "زبّالُ البحر" هذا، ولو قليلًا، في التخلّص من نفاياتنا المستديمة، ببساطةٍ لأنّه يقتات عليها. وعليه، فإنّ النوارس المقتولةَ هذه مؤشِّرٌ على حجم الاستسهال، والعشوائيّةِ، والرأيِ غيرِ المثقّف، و"التلوّثِ السياسيّ" لدى حكّامنا وحلفائهم من الرأسماليّين والمتعهّدين. فبدلًا من معالجة أسباب الأزمة (ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، إقفالُ مكبّ الكوستابرافا)، عمدوا إلى قتل أحدِ تمظهراتها (النوارس)، وقتلوا طيورًا أُخرى لا علاقةَ لها بسلامة الطيران المدنيّ لا من قريبٍ ولا من بعيد.
الأنكى أنّ حكّامَنا "الحضاريّين" ما فتئوا يتباهوْن بالتزامهم بالقوانين الدوليّة والمعاييرِ العالميّة، في حين أنّهم انتهكوا ــــ جَهارًا نَهارًا ــــ اتفاقيّةً دوليّةً لحماية الطيور المائيّة سبق أن وقّع عليها لبنان في العام 2002. والأبشع أنهم يجبروننا، نحن الشعبَ اللبنانيَّ، على أن نكون شركاءَ في هذه الجريمة وهذا الانتهاك، حين يأخذون جزءًا من أموالنا من أجل مكافأة هؤلاء القنّاصة، من دون أن يستأذنونا.
ولكنْ لماذا نُستأذَن في أيّ أمرٍ أصلًا، من النفايات إلى الكهرباء إلى قانونِ الانتخاب إلى تشريعِ الاغتصاب...، وقد سلّمنا حياتَنا بأسْرها إليهم وإلى "رعاةِ" مذاهبِنا وطوائفِنا، الذين نعيد انتخابَهم دورةً بعد دورة؟
في 2009/1/15 سقطتْ طائرةٌ مدنيّةٌ أميركيّةٌ في نهر هَدْسون في نيويورك بسبب "اصطدامٍ طيْريّ" (لم يَنجمْ عن الحادثة أيّةُ ضحايا بشريّة). ومنذ ذلك الوقت قُتل عشراتُ آلافِ الطيور فوق مطارات نيويورك الثلاثة بيد قنّاصةٍ وصيّادين أميركيّين. إلى هنا يبدو "الحلّان" الأميركيُّ واللبنانيُّ متشابهيْن. لكنْ ما قد لا يَعرفه أصحابُ المجزرة اللبنانيّة الجديدة، أو ما قد طمسوه عن الرأي العامّ اللبنانيّ، أنّ الاصطداماتِ الطيريّة فوق المطارات النيويوركيّة زادت خلال السنوات اللاحقة (من 158 قبل حادثة العام 2009 إلى 299)، علمًا أنّ مطارَ كينيدي يقع قريبًا من شاطئ البحر شأنَ مطار رفيق الحريري.(1) وما لا يعرفه أصحابُ المجزرة اللبنانيّة الجديدة، أو طمسوه عن الرأي العامّ اللبنانيّ، هو أنّ عددًا كبيرًا من الخبراء والناشطين الأميركيين حثّوا دولتَهم على إيجاد حلولٍ أُخرى لتأمين سلامة الطيران المدنيّ غير قتلِ الطيور. تُرى، هل فكّر "المسؤولون" اللبنانيّون في طريقةٍ أفضل من القتل، كإبعاد الطيور مثلًا عن طريق "إطلاق الصقورِ المدرَّبة... بالاستناد الى تجربة المطارات في كندا والولايات المتّحدة" على ما اقترح الزميل بسّام القنطار؟ هل فكّروا في "إعادة النظر بالمناقصات المبتورة" التي أجرتها الجهةُ التعاقديّة، أيْ "مجلسُ الإنماء والاعمار"؟(2)
حكّامُنا هم الذين خلقوا المشكلةَ في المقام الأوّل، ثمّ أجّلوا الحلولَ، ثمّ نفّذوا حكمَ الإعدام بالجهةِ الخطأ غسلًا لعارهم ولانعدامِ مسؤوليّتهم الاجتماعيّة، وبعد ذلك وقفوا على جثث الطيور الجميلة رافعين شارةَ النصر.
بيروت