محامٍ وخبير فلسطيني في القانون الدولي.
في 30/1/2021، عقدت اللجنةُ التحضيريّة لمؤتمر "المسار الفلسطينيّ البديل" ندوةً قانونيّة رقميّة بعنوان: "الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ بين الأمس واليوم،" شارك فيها الباحثان أنيس فوزي قاسم وجابر سليمان. هنا كلمة قاسم. للاطّلاع على كلمة سليمان، أنقر هنا.
***
كان هناك ميثاق وطنيّ فلسطينيّ وضعتْه نخبةٌ من نساء فلسطين ورجالاتها الذين كان دمُ اللجوء ما يزال ينزف من أياديهم ووجوههم، وعقدوا اجتماعًا ضمّ ما يقارب 400 فلسطينيّ في مدينة القدس، وأقسموا على الميثاق الذي رسم لهم طريقَ الخلاص من مآسيهم.
كان ذلك في أواخر مايو/أيّار من العام 1964.
كان الميثاق القوميّ، ومن بعده الميثاقُ الوطنيّ، واضحًا. فقد أصاب في وصف الصهيونيّة، وصرّح ببطلان تصريح بلفور والانتداب والتوصيةِ بالتقسيم، وأعلن خطّةً لاسترداد الوطن المحتلّ من النهر إلى البحر، ورسم معالمَ الطريق. ونهض القائمون على منظّمة التحرير وحرّاسُ الميثاق بالمهمّة، ووُضعتْ منظّمةُ التحرير على خريطة العالم، ومعها قضيّةُ فلسطين بعد أن تضاءلتْ حتى صارت مجرّدَ قضيّة لاجئين تبحث عن فُرص التوطين.
ولكنْ بعد هزيمة العام 1967، نهضتْ منظّمةُ التحرير من تحت الرماد، وبدأت المقاومةَ الوطنيّة، ونجحتْ في تأسيس حقّ تمثيل الشعب الفلسطينيّ، واستطاعت الحصولَ على صفة "مراقب" في هيئة الأمم المتحدة اعتبارًا من العام 1974، وبات لها حقُّ الاشتراك في المؤتمرات الدوليّة التي تُعقد تحت راية هذه الهيئة. وفي العام 1975 دُعيت المنظّمةُ إلى الاشتراك في مناقشات مجلس الأمن حين كانت تُعرض عليه أيُّ مسألةٍ تتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة. ومن أهمّ الإنجازات في هذا الشأن أنّها صارت تُدعى إلى جلسات مجلس الأمن على أساس المادّة 37 من إجراءات المجلس، لا المادّة 39 (الأولى مخصّصة لدعوة الدول، بينما الثانية مخصّصة لدعوة الأفراد والمنظّمات)، وأصبحتْ عضوًا كاملًا في الجامعة العربيّة وكافّة المنظّمات المنبثقة عنها، ووقّعت العديدَ من الاتفاقيّات العربيّة والإقليميّة، وصارت لها بعثاتٌ ديبلوماسيّةٌ في أكثر من مائة بلدٍ تراوحتْ بين الحصانة الكاملة والجزئيّة.
في العام 1988 تصدّت الولاياتُ المتحدة لبعثة منظّمة التحرير لدى هيئة الأمم وطالبتْ بإغلاقها بذريعة أنّها منظّمة "إرهابيّة." فوقفت الهيئةُ بقوّةٍ في وجه الطلب الأميركيّ، ولجأتْ إلى محكمة العدل الدوليّة لاستدراج رأي حول قانونيّة هذا الطلب، فأصدرت المحكمةُ فتواها بعدم قانونيّته لأنّ اتفاقيّة المقر لعام 1947 تعطي هيئةَ الأمم الحقَّ في دعوةِ مَن تشاء ومتى تشاء.
هنا لا بدّ من تسجيل حقيقة أنّ منظّمة التحرير انفردتْ، دون سائر حركات التحرر الوطنيّ، بهذا التعاطف الدوليّ، بل كانت ترتقي في سلّم الاعتراف والتأييد الدوليّيْن. إلى أن بدأ مسلسلُ التنازلات الذي دشّنتْه قيادتُها في انعقاد المجلس الوطنيّ الثاني عشر في القاهرة (يونيو/حزيران 1974)، حيث جرت الموافقةُ - عبر وسطاء وسماسرة - على ما يُسمّى البرنامج المرحليّ (برنامج النقاط العشر)، وهو برنامجٌ يوهِم بإقامة سلطة الشعب على أيّ أرضٍ ينسحب الإسرائيليّون منها. وجرى تحويلُ البند القاضي بالكفاح المسلّح طريقًا لتحرير فلسطين إلى بندٍ مؤدّاه أنّ لقيادة الثورة أن تحدِّد أساليبَ العمل لتحقيق الأهداف الوطنيّة (كفاح مسلّح وغيره من أدوات النضال). وكانت هذه هي المخالفة الأولى لـالميثاق، وربّما الإشارةَ أو الرسالةَ الأولى إلى أنّ القيادة الفلسطينيّة قابلةٌ للمساومة. وعلى الأرجح أنّ "إسرائيل" التقطتْ هذه الإشارةَ وبدأتْ في البناء عليها.
في العام 1988 عَقد المجلسُ الوطنيّ اجتماعًا في الجزائر. وفيه ارتُكبتْ أكبرُ "بهلوانيّة" في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، وأكبرُ عمليّة التفافٍ على الميثاق الوطنيّ. ذلك أنّ جميعَ القيادات الفلسطينيّة أعلنتْ آنذاك "قيامَ دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينيّة وعاصمتُها القدسُ الشريف." وعند هذا الإعلان تعانق المجتمعون، ومنهم مَن سالت دموعُه فرحًا، وكأنّ أحدًا لم يلحظْ ما ورد في ذلك الإعلان من أنّه يستند إلى "قوّة الشرعيّة الدوليّة التي تجسِّدُها قراراتُ الأمم المتحدة منذ العام 1947،" وهو ما ينطوي على قبول قرار التقسيم. كما ورد في الإعلان التزامُ "دولة فلسطين" بـ"مبادئ التعايش السلميّ" و"العملُ مع جميع الدول والشعوب من أجل تحقيق سلامٍ دائمٍ قائمٍ على العدل." وناشد الإعلانُ المجتمعَ الدوليّ مساعدتَه في "إنهاء الاحتلال الإسرائيليّ للأراضي الفلسطينيّة،" وهذا يعني القبول بالقرار 242. وعلى الرغم من المناورة في الكلمات واستخدام الصياغات الواسعة، فإنّ الوسطاءَ والسماسرة أجادوا لعبةَ الابتزاز وطلب المزيد من التنازلات. وكان ذلك بمثابة الإشارة أو الرسالة الثانية إلى الإسرائيليين.
وفي زيارة رسميّة الى باريس بتاريخ 2/5/1989، أعلن المرحوم ياسر عرفات أنّ الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ أصبح "كادوك" (caduc)، واستخدم الكلمة الفرنسيّة التي تعني أنّ الميثاق قد عفا عليه الزمن. فكأنّ عرفات كان، بذلك، "يبشِّر" بنهاية العقد الاجتماعيّ للفلسطينيّين. وكانت هذه رسالةً ثالثةً قويّةً إلى الإسرائيليين وسماسرتهم تقول "إنّنا جاهزون للتنازلات،" وإنّ القيادة أصبحتْ تتصف بـ"الواقعيّة والبراغماتيّة."
هذا وقد ارتكبت القيادةُ الفلسطينيّة مخالفةً كبيرةً لـالميثاق الوطني ولقرارات المجالس الوطنيّة بعدم التدخّل في الشؤون الداخليّة للدول العربيّة أو في الخلافات التي تنشأ بينها، وذلك حين تحالفتْ مع السياسة العدوانيّة للرئيس العراقيّ صدّام حسين عندما ارتكب جريمةَ العدوان على الكويت. تلك الخطيئة كلّفت الفلسطينيّين تصدّعَ الجدار العربيّ الذي كانوا يستندون اليه. وهنا سارعت الولاياتُ المتحدة إلى عقد مؤتمر دوليّ في مدريد، شاركتْ فيه الدولُ العربيّةُ قاطبةً مع "إسرائيل،" وكان ذلك مقدّمةً لعمليّات التطبيع.
في ذلك المؤتمر أُخرجتْ منظّمةُ التحرير من المعادلة، واشترك وفدٌ فلسطينيّ برئاسة المرحوم الدكتور حيدر عبد الشافي مع الوفد الأردنيّ. ثم انتقلت المفاوضاتُ إلى واشنطن، واستقلّ الوفدُ الفلسطينيّ عن الوفد الأردنيّ. إلّا أنّ سلوكَ الوفد الفلسطينيّ من دون عباءة منظّمة التحرير خلق لدى القيادة الفلسطينيّة في تونس رعبًا من انتقال الوفد إلى مرحلة أن يكون قيادةً بديلةً لمنظّمة التحرير. وكان عرفات يخشى من تجربة سعد زغلول وتأسيس حزب الوفد. وبسبب خشيته من تكرار تلك التجربة، سارع إلى قبول فتح قناة سرّيّة مع الإسرائيليّين عبر ديبلوماسيّين نرويجيّين، وبدأتْ مرحلةُ أوسلو.
حين وصلت القيادةُ الفلسطينيّة إلى نفق أوسلو، قامت - أوّلًا - بتبادل رسائل الاعتراف، التي تعهّدتْ فيها منظّمةُ التحرير (1) بحقّ الكيان الإسرائيليّ في العيش بأمنٍ وسلام؛ (2) وبأنّها تقبل قراريْ مجلس الأمن الدوليّ رقم 242 و338؛ (3) وبأنّها تلتزم بالمسار والحلّ السلميّ عبر المفاوضات للمشاكل القائمة بين الطرفين؛ (4) وبأنّها تنبذ العنفَ والارهاب؛ (5) وبأنّها تتحمّل مسؤوليّةَ عناصرها وموظّفيها ضمانًا لعدم خرق الالتزامات الواردة في الاتفاق؛ (6) وبأنّهاسوف تعدّل الميثاق الوطنيّ انسجامًا مع هذه الالتزامات.
بنظرة سريعة، يتضح أنّ ما ورد في رسائل الاعتراف يتناقض تناقضًا مباشرًا مع موادَّ أساسيّةٍ في الميثاق. فالاعتراف بـ"إسرائيل" يطهِّر الغزوةَ الصهيونيّة والإمبرياليّة، ويدعم وجودَها بدلًا من تصفيتها. كما بُرّئ بلفور وعصبةُ الأمم والأمم المتحدة من الإجحاف بحقوق الفلسطينيين. وأظهرت الرسائل أنّ الشعب الفلسطينيّ قبِل بالحلول البديلة لتحرير فلسطين، كما قبل بتفكيك الميثاق. لذا، حين قدّم إسحق رابين رسالةَ الاعتراف مع مشروع إعلان المبادئ إلى الكنيست، اختتم خطابَه بالقول: "هذا انتصارٌ للصهيونيّة!"
ثم وقّعتْ منظّمةُ التحرير على اتفاقيّة واشنطن، المعروفة باسم أوسلو II، بالإضافة إلى اتفاقيّاتٍ أخرى. ولم يردْ في أيٍّ من هذه الوثائق أيُّ التزامٍ إسرائيليّ بالانسحاب من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، أو أيُّ تعهّدٍ باحترام اتفاقيّات جنيف وتطبيقها على السكّان والأسرى الفلسطينيّين، أو بمسؤوليّة "إسرائيل" (باعتبارها سلطةً قائمةً بالاحتلال) عن سلامة الأملاك العامّة والخاصّة. وليس في هذه الوثائق أيُّ اعترافٍ بحقّ الفلسطينيّين في إقامة دولة مستقلّةٍ وقابلةٍ للحياة، وغير ذلك من الحقوق المقرَّرة للفلسطينيّين. أمّا المسائل الأساسيّة الأخرى الواقعة في صلب النزاع، مثل حقّ عودة اللاجئين والقدس والمستوطنات، فقد اتفق الطرفان على تأجيل بحثها إلى مفاوضات الوضع النهائيّ؛ ما يعني قبولَهما بأنّها مواضيعُ متنازَعٌ عليها، وأنّ الحقّ الفلسطينيّ فيها مسألةٌ تحتاج إلى نقاش.
وما زلنا نعيش مرحلةَ أوسلو، ونشاهد تقطيعَ أوصال الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، وإقامةَ مستوطنات إسرائيليّة، ومصادرةَ المياه الفلسطينيّة والمصادرِ الطبيعيّةِ الأخرى، وإلحاقَ الاقتصاد الفلسطينيّ بالاقتصاد الإسرائيليّ، وعدمَ إشراف الفلسطينيّين على حدودهم ومعابرهم الدوليّة، وتجريفَ القدس إلى حدّ وصول المستوطنين إلى أقدس مقدَّسات المسلمين والمسيحيّين. وهكذا يبدو أنّ أمرَ إقامة دولة فلسطينيّة، كما بشّرت القيادةُ الفلسطينيّة، أصبح أمرًا مستحيلًا أو يكاد. ولا بدّ من إضافة بندٍ مهمّ، وهو أنّ أوسلو قتلت "المناعةَ" التي كانت تسيطر على الحكومات العربيّة في مقاطعتها القويّة لكلّ نشاطٍ أو إنتاجٍ إسرائيليّ؛ ومن ثمّ يجب ألّا نفاجَأ ممّا ترتكبُه حاليًّا بعضُ القيادات العربيّة الرسميّة من توقيع اتفاقيات تطبيع مع الكيان الصهيونيّ.
***
هنا لا بدّ من تسجيل ملاحظتيْن يجدر التمعّنُ فيهما.
الملاحظة الأولى تتعلّق بمقارنة اتفاقات أوسلو بالمواثيق الثلاثة التي أعلن الميثاقُ الوطنيّ بطلانَها، وهي: تصريحُ بلفور، وصكُّ الانتداب، والتوصيةً بتقسيم فلسطين. هذه المواثيق الثلاثة كانت - على ظلمها وقباحتها وانتهاكاتها - أرحمَ وأحرصَ على الفلسطينيّين وفلسطين من أيٍّ من اتفاقات أوسلو:
- ذلك أنّ تصريحَ بلفور ورد فيه نصٌّ صريحٌ وقاطعٌ بأنّ قيامَ وطن قوميّ لليهود في فلسطين لن يؤثِّر في الحقوق المدنيّة والدينيّة للجاليات غيراليهوديّة (أي العرب الفلسطينيّين المسلمين والمسيحيّين).
- ثم جاء صكُّ الانتداب وأكّد التزامَ دولة الانتداب بالمحافظة على الوحدة الإقليميّة لفلسطين، وأنّه لا يجوز لدولة الانتداب تأجيرُ الإقليم الفلسطينيّ أو تجزئتُه. وأورد الصكّ نصوصًا واضحةً على حماية القدس والمقدَّسات الإسلاميّة على نحو خاصّ. يضاف إلى ذلك أنّ الانتداب، باعتباره "عهدةً مقدّسة،" يجب أن ينتهي إلى حقّ تقرير مصير الشعب الواقع تحت الانتداب؛ وهذا مبدأٌ أكّدتْه محكمةُ العدل الدوليّة في فتواها القانونيّة الخاصّة بقضيّة الجدار.
- أمّا التوصية بتقسيم فلسطين، فاقترحتْ منحَ الفلسطينيين "دولةً" ولو على أقلّ من نصف التراب الفلسطينيّ، وضمنتْ لهم حقوقًا متساويةً مع اليهود في الدولة اليهوديّة.
وبالمقارنة، لم يرِدْ في أيٍّ من اتفاقات أوسلو نصٌّ يحمي الحقوقَ المدنيّةَ والدينيّةَ للفلسطينيّين، كما نصّ تصريحُ بلفور، ناهيكم بالحقوق السياسيّة. ومقابلَ التزام دولة الانتداب بعدم تجزئة الإقليم الفلسطينيّ، قبلت القيادةُ الفلسطينيّة في اتفاق أوسلو بتجزئة المجزَّأ (بموجب قرار التقسيم وما جرى احتلالُه قبل العام 1967) إلى مناطق "أ" و"ب" و"ج." ومقابل نصّ صكّ الانتداب على حماية المقدَّسات الإسلاميّة، وافقت القيادةُ الفلسطينيّة على تقسيم الحرم الإبراهيميّ في الخليل، ونشاهد الآن عمليًّا تكرارًا للتجربة في القدس. واذ طَرحت التوصيةُ بالتقسيم في العام 1947 "دولةً عربيّة،" فإنّ مثلَ هذا النصّ لم يرِدْ في أيّ من اتفاقيّات أوسلو.
الملاحظة الثانية هي أنه حين ناقشت حكومةُ الحرب البريطانيّة صكَّ إعلان بلفور، لم يشترك الفلسطينيّون أو العرب في تلك المناقشات، ومع ذلك جاء النصُّ واضحًا على حماية الحقوق المدنيّة والدينيّة للفلسطينيّين. ولم يشترك الفلسطينيّون في صياغة صكّ الانتداب مع عصبة الأمم، ولم يكن للعرب وجودٌ ملموسٌ في تلك الفترة، ومع ذلك جاء الصكّ ببعض الحمايات للفلسطينيّين ومقدَّساتهم. أمّا التوصية بالتقسيم فقد جاءت حين كان الاشتراكُ الفلسطينيّ والعربيّ مرعوبًا ومتردّدًا، ولم يحمل وجودُهم أيَّ وزن، ومع ذلك جاءت التوصية بـ "دولة" للفلسطينيين ولو على أقلّ من نصف أرضهم.
أمّا حين جاءت أوسلو، فقد تولّى الفلسطينيّون الأمرَ بأنفسهم، وهم الذين فاوضوا بأنفسهم، ومع ذلك سجّلوا فشلًا ذريعًا في عدم الحصول على أيّ حقّ، ولو كان متواضعًا، لشعبهم. كان الآخرون أكثرَ حرصًا - ولو نسبيًّا - على الفلسطينيين وفلسطين ممّا كانت عليه القيادةُ الفلسطينية؛ وهذا أمرٌ مثيرٌ للاستهجان والتساؤل والإحباط.
***
من هنا نصل، بعد هذا الاستعراض، إلى السؤال: أين نحن ذاهبون؟ وكيف نعيد صياغةَ المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ؟
بدايةً، لا بدّ من الاتفاق على أسسٍ يقوم عليها المشروعُ الوطنيّ. أوّلُها القناعة بأنّ الصهيونيّة حركةٌ استعماريّة استيطانيّة عنصريّة خطرة على الوجود البشريّ، وأنّ خطورتَها لا تكمن في نظام الأبارتهايد الذي تقوم عليه فحسب، بل في إنّها غيرُ قابلة للتفاوض والتنازل والمصالحة أيضًا. وهذا ما جسّدتْه في القانون الذي صدر سنة 2018 وأعلن أنّ حقَّ تقرير المصير في فلسطين هو "للشعب اليهوديّ" حصرًا. اللافت للنظر أنّ المستشرقين الفلسطينيين أخفقوا في ملاحظة فشل كلّ محاولةٍ لحمل الصهيونيّة على المصالحة والمسالمة مع الفلسطينيّين -- وذلك بدايةً من أحاد هاعام (مؤسِّس الصهيونيّة الثقافيّة)، إلى يهودا ماجنز (أوّل رئيس للجامعة العبريّة)، إلى ناحوم غولدمان (رئيس المنظّمة الصهيونيّة العالميّة)، وآخرين نُبِذوا بسبب مساعيهم. ولقد تعامل أصحابُ القرار في الكيان الصهيونيّ مع المبادرات العربيّة بخفّة، بما في ذلك المبادرة العربيّة الصادرة عن قمّة بيروت في العام 2002. بل لا بدّ من أن نذكّر بأنّ الكيان لم يلتزمْ إعلانَ المبادئ (1993) ولم يتعايشْ معه، مع أنّه صناعة إسرائيليّة كاملة.
أمّا ثاني الأساسيّات فهو القناعة بأنّ البحث عن "حلّ الدولتين" أصبح مدعاةً للرثاء لكونه يقف على حدود المستحيل. فقد مزّق جدارُ الفصل العنصريّ الوحدةَ الجغرافيّة لِما يسمّى "الضفّة الغربيّة،" وجاءت المستوطناتُ تقطِّع أوصالَها تقطيعًا يَحُول دون أيّ تواصلٍ جغرافيّ. إنّ وجود حوالي 700,000مستوطن في الضفّة الغربيّة، بما في ذلك القدسُ الشرقيّة، يؤكّد عدمَ جدوى البحث في هذا "البديل،" ولا سيّما أنّ الجيش الإسرائيليّ يقوم على حمايتهم وتسليحهم، وأصبحوا قوةً لا يُستهان بها، إلى درجة أنّهم أصبحوا - بحسب تعبير أكاديميّين إسرائيليّين - "أسيادَ البلاد." إنّ السلوك الإسرائيليّ في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 67 يدلّل، بما لا يقبل الشكّ، على أنّ "إسرائيل" لا تعترف بأيّ حدود -- منذ التوصية بتقسيم فلسطين سنة 1947، إلى احتلالها في العام 1949 حوالى %22 من أراضي الدولة الفلسطينية المقترحة، إلى وصولها إلى حدود الرابع من حزيران 1967، إلى تشريع "قانون القوميّة" في العام 2018. وإذا كان هذا السلوكُ الإسرائيليّ واضحًا، ووقر ذلك في ذهن القيادات الفلسطينيّة إلى حدّ القناعة، فيجب التوقّف عن ترداد مقولة "دولة فلسطينيّة على حدود الرابع من حزيران" بعد أن شَطبتْ "إسرائيل" كلَّ الحدود. يجب أن يتركّز النضالُ على التحرير، لا على إقامة "الدولة."
أمّا ثالث هذه الاسس فهو الاعتصامُ بمبدأ أنّ قضيّة فلسطين هي قضيّة عربيّة. ولولا الاحتضانُ العربيّ الرسميّ (على هزاله)، والشعبيّ (على زخمه وثباته)، لما تمكّن الفلسطينيّون من الثبات على موقفهم وتمسّكهم بحقوقهم من دون كلل أو خوف طوال هذه العقود من التشريد. إنّ عمليّات التطبيع التي نشاهدها الآن بين قيادات بعض الدول العربيّة و"إسرائيل" يجب ألّا تفزعَنا؛ فهي من مظاهر الإمبرياليّة الأميركيّة وخضوع هذه القيادات لها لا غير.
وأمّا رابعُ الأسس، وربّما أهمُّها، فهو بناء القوى الذاتيّة للشعب الفلسطينيّ في مختلف أماكن وجوده، لاسيّما قطاعُ المرأة، وعلى أسسٍ ديمقراطيّة. ويجب التوقّف عن استجداء المعونة والمساعدة، والعمل بدلاً من ذلك على بناء المؤسّسات الفلسطينية لإعادة تأهيل الفلسطينيّ الذي حوصِر وضلّ الطريقَ عبر المساومات والمشاريع التي لا تنتهي. ولا يكفي الحديثُ عن "الثوابت الوطنيّة" من دون خلق (أو إعادة خلق) إنسان فلسطينيّ قادر على حمايتها وجعلها عقيدةً وطنيّة.
وإذا استقرّت قناعةُ النخب الفلسطينيّة على ذلك، فإنّ الخطوةَ الأولى لإعادة النظر في المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ هو التخلّصُ من جميع اتفاقات أوسلو، وتصفيةُ تركتها، والخروجُ من هذا المسار مهما كلّف الثمن. لقد أَغلقتْ هذه الاتفاقاتُ الأفقَ أمام تطوّر النضال الفلسطينيّ، وتحوّلتْ أجهزةُ منظّمة التحرير - بسببها - إلى مجرّد أجهزةٍ أمنيّةٍ في خدمة الاحتلال الإسرائيليّ، وتحوّل كوادرُها إلى متقاعدين يذهبون في آخر الشهر إلى مؤسّسة الضمان الاجتماعيّ (التي هي الحكومةُ الفلسطينيّة) لقبض رواتبهم. لقد أصبحت الثورة "مقاولًا من الباطن" للاحتلال!
ولا بدّ بعد ذلك، أو مترافقًا معه، من فتح النقاش، المعمّق وعلى أسس ديمقراطيّة وطليقة من أيّ قيود، حول البدائل المتاحة لطرح حل لهذا النزاع الدمويّ -- ابتداءً بالعودة إلى الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ، وإعادة طرح التحرير الكامل، وتفكيك نظام الأبارتهايد، وإقامة الدولة الديمقراطيّة العلمانيّة.
إنّ إعادة صياغة ميثاق وطنيّ ديمقراطيّ جديد يقتضي رسمَ ثوابت لأيّ مفاوضاتٍ سياسيّة تجري مع العدوّ الرئيس أو مع الوسطاء ذوي النوايا الحسنة والسيّئة على حدٍّ سواء. إنّ تجربة مفاوضات أوسلو يجب أن تكون ماثلةً في ذهن الفلسطينيّين على الدوام. إن الخليّة السرّيّة التي قادت المفاوضات لم تكن مؤهَّلةً لقيادتها، ولمعالجة مسألة معقّدة كالمسألة الفلسطينيّة، وقد طغت على سلوك هذه الخليّة "السذاجةُ" و"حسنُ النيّة." وهذه الخليّة جاءت من خارج الأراضي المحتلّة، ولذلك كانت همومُها مختلفة جوهريًّا عن هموم فلسطينيّي الداخل: ففي حين كانت همومُ المرحوم الدكتور حيدر عبد الشافي والعناصر الرئيسة في وفده المفاوض تُركّز على وقف الاستيطان، كانت همومُ الخليّة السرّيّة تتركّز على اقتناص اعترافٍ إسرائيليّ بمنظّمة التحرير ممثِّلًا شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطينيّ. والحال أنّ أيّ مفاوضات تجري من دون تمثيل كافة مناطق الوجود الفلسطينيّ سوف تصاب بالعوار.
ختامًا، فإنّ إعادةَ تأسيس عقد اجتماعيّ جديد يحتاج إلى عملية تثقيفٍ وتنويرٍ وانتقادٍ ذاتيّ وديمقراطيّ لكلّ ما جرى، سواء داخل فلسطين أو خارجها. ولا بدّ من فتح نقاش واسع تشترك فيه كافّةُ الأطياف للوصول إلى قواسم مشتركة. وأرى أنّ النقاش سوف يتركّز على الاتفاق على البديل أكثر من أيّ بندٍ آخر.
وربّما كان من الملائم التأكيد أنّ إعادة صياغة المشروع الجديد يجب أن يبدأ بالتمسّك بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة ممثلًا شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطينيّ، وهذه لن يعاد بناؤها إلّا بعد تطهير القضيّة من رجس اتفاقيّات أوسلو ومن السلوك الأبويّ المشين للقيادة الفلسطينيّة.
عمّان
محامٍ وخبير فلسطيني في القانون الدولي.