عندما التقينا صافحني بحرارة قائلًا: "أنا سعيد." قلت: "أنا أيضًا." ردَّ ضاحكًا: "أقصد اسمي سعيد، وهو اسمي الحقيقي." ابتسمتُ ونظرتُ إليه مليًّا. لم تكن تبدو عليه أيٌّ من أمارات السعادة، حتّى إنّك عندما تراه تشفق عليه. كان يُسمي نفسه على الفيسبوك: "الوحيد" وكان يضع صورةَ نورس يحلّق فوق موج البحر في سماءٍ غائمةٍ لا طيورَ فيها. لا أعلم كيف حصل على رقم جوّالي، لكنّه اتصل بي وأصرّ على لقائي، وها هو يقف أمامي يسألني بلطف: "هل تقبل دعوتي إلى فنجان قهوة؟" وافقتُ، وذهبنا إلى المقهى القريب. هناك تبيّن أنَّ لسعيد معارفَ كثيرين، صبايا وشبابًا وكهولًا. حتى صاحب المقهى والنادل والمحاسب، جميعُهم قبّلوه واحتضنوه ومرَّروا الدعابات اللطيفة معه وضحك معهم وربّت على أكتافهم وداعبوا شعرَه المسترسل وأثنوْا عليه. لكنّ ذلك كلّه جرى بشيء من الحزن لم يخفَ عليّ.
جلسنا نشرب القهوة ونتحدث عن الشعر والموسيقى والأدب والرياضة وأشياءَ أخرى. وعرفتُ أنّه يحبّ محمود درويش والمتنبّي. وفاجأني أنّه يعرف فيكتور جارا، وما زال يستمع إلى إديث بياف وجو داسان وشارل أزنا فور! ومن العرب يعشق أمّ كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز. أمّا في الرواية فـ وليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر هي المفضّلة لديه، بالإضافة إلى أعمال باولو كويلو وأمين معلوف. كذلك يشتري الصحف يوميًّا، وضحك عندما قال: "يكفي أنّها توضع فوق الطاولة عند تناول الطعام وتفيد في مسح الزجاج." وعندما سألتُه عن التلفاز، أضحكني حين قال ساخرًا: "لا أحبّه، فهو لا يوضع على الطاولة عند الطعام، ولا يمكن أن نمسح به زجاجَ البيت."
يشجّع سعيد فريق برشلونة عالميًّا، و"الكرامة" محليًّا، والمنتخبَ الوطنيّ رغم كل الخيبات التي عاشها ويَخشى أن يعيشها لاحقًا بسببه وإنْ لم يفقدْ بعدُ أملَه فيه. وحين سألتُه عن وضعه الاجتماعيّ صمت برهةً، وهو يحدّق في لوحة غوستاف كليمت "القبلة" المعلّقة قبالتنا على الجدار، ثم تناول رشفةً من فنجان قهوته، وقال بصوت متهدّج كأنّه يؤدّي دورًا مسرحيًّا: "أنا يا عزيزي أرملٌ حزين." خفق قلبي عندي سماعي كلماته، وتمنّيتُ لو أضمّه إلى صدري وأربّتُ على رأسه، لكنّني اكتفيتُ بأن وضعتُ يدي فوق يده وضغطتُ عليها بلطف، فارتبك وتلعثم وهو يقول: "توفّيتْ زوجتي قبل شهرين، وخلّفتْ لي من الحزن ما يكفي سكّانَ هذه المدينة، وتركتْ ظرفًا لم أتجرّأ على فتحه حتى اليوم. وقد اتصلتُ بك رغم أنّني لا أعرفكَ لتكون قربي عندما أفتحه." وتابع كأنّه قرأ السؤالَ في عينيّ: "حصلتُ على رقم جوّالك من صديقة، وأريدك أن تعرف أنّها كانت تقرأ كتاباتك يومًا بيوم، وتقول إنّنا نشبه شخصيّاتك التي تكتب عنها، وإنّك لا بدّ من أنّك كنتَ تتلصّص على حياتنا حتى كتبتَ ما كتبتَ. لذلك أنت الوحيد الذي خطر في بالي حين رأيتُ هذا الظرف." اغرورقتْ عيناي بالدموع وقلت: "يا صديقي، بي من الحزن ما بي، وها أنت تضيف إليه المزيد." ابتسم بخجل وناولني الظرفَ بيدٍ مرتجفة قائلًا: "أرجوك، أريدك أن تفتحه وتقرأ عليّ ما فيه. فأنا لا قدرة لي على ذلك." حاولتُ عدة مرّات وفشلت. كان ظرفًا زهريَّ اللون مستطيلَ الشكل، كُتب عليه بخطّ متعثّر: "يُفتح بعد رحيلي." أخذتُ الظرفَ وبدأتُ أقلّبه بين بيدي متمهّلًا، أُعدّ نفسي لموجة وشيكة من الحزن، بينما عاد هو للتحديق بلوحة "كليمت" متجنّبًا النظرَ إلي.
فتحتُ الظرفَ بهدوء، وأخرجتُ منه ورقةً بيضاء مطويّةً بعناية انتشرتْ منها رائحةُ عطرٍ جعلته يتشنّج ويضرب الطاولة بقبضته بشكل خفيف قبل أن يهمس: "هذه رائحتها." قرّبت الورقة من أنفي، واستنشقتُ الرائحة بعمق، محدّثًا نفسي: "لا بدّ من أنّ في هذه الرسالة ما يدْمي القلب."
"حبيبي سعيد
فكّرتُ كثيرًا وتردّدتُ قبل أن أترك لك هذه الرسالة. لكنّني حسمتُ أمري أخيرًا بعد أن تذكّرتُ أنّنا لم نتراسلْ أبدًا خلال علاقتنا وخطوبتنا، وخلال الفترة القصيرة التي قضيناها معًا زوجيْن. أعرف أنّ رسالتي هذه ستحزنك، ومن معرفتي بك أعتقد أنّك ستستعين بشخصٍ تحبّه ليكون بقربك عند قراءتك لها. وربّما يكون هذا الشخص "خالد،" صديقناالعزيز . هل حزرت؟ أتخيّلكَ تبتسم الآن. هل ابتسمتَ؟..."
شعرتُ بغصّة في حلقي منعتني من المتابعة . نظرتُ إليه. كان يبتسم فعلًا، والدموعُ تنساب من عينيه. قلت: "أتريدني أن أتابع؟" همس: "أرجوك."
"... للأسف لن أستطيع معرفة الجواب. لكنْ إنْ كان خالد حقًّا هو مَن بقربك فسلّمْ عليه وقبّلْه وقلْ له إنّني ما زلتُ أتذكّره وهو يرقص في عرسنا كالمجنون، وما زلت أتذكّر كيف نقلنا بسيّارته البائسة (التايتانيك) إلى صلنفة، حيث أمضينا يومين من العسل، وكيف بقي يزمّر طوال الطريق، وكيف تعطّلت السيّارة واضطررنا إلى دفعها أكثر من مرّة لتدور، أنا بثوب العرس وأنتَ ببذلتك الرسمية، وكيف شتمناه وشتمنا سلسفيل أجداده، وكيف أصرّ على النوم معنا في السرير نفسه، وكيف كنّا نضحك ونحن نحاول دفعه خارج الغرفة، وكيف تشبّث بالباب كالقطّ حتى استسلمنا أخيرًا وتركناه ينام بيننا، وكيف غفونا حتى الصباح ونحن في هذه الوضعيّة: عريسًا وعروسًا في سرير، يفصل بينهما أجملُ صديق . صحيح أنّنا لم نمارس الجنس في ليلة الدخلة - كما يسمّونها - لكنّنا لم نكن بحاجة لذلك، إذ كنّا نفعل ما هو أروع: كنّا نؤسّس لحياة إنسانيّة جميلة، وللمستقبل كنا نفتح أجمل طريق..."
قاطعني سعيد وقد استردّ قليلًا من روحه: "ضحكنا ليلتها عن حياتنا كلِّها. حتى إنّني تقيّأتُ يومها من شدّة الضحك." سألته : "هل حقًّا نام معكما في السرير؟" ضحك بصوت عالٍ قائلًا: "لقد فعل، أقسم على ذلك. واليوم بالذات أشعر أنّني أحبّه أكثر من أيّ وقت لأنه فعل هذا وترك لنا هذه الذكرى الغريبة تضحكنا وتبكينا كلّ حين." سألتُه: "أين هو اليوم؟" "خارج البلاد،" قال. ثمّ أضاف: "أكملْ، أرجوك."
"... حبيبي سعيد
عندما عرفتُ أنّ النهاية لا مهرب منها، حاولتُ أن أعيش معك كلّ دقيقة وكلّ ثانية بأجمل شكل ممكن، وكنتَ عند حسن ظنّي: الصديقَ الرائع، والزوجَ الأروع، والحبيبَ السّاحر، والشريكَ الذي يُعتمد عليه. لم أنسَ أبدًا، يا حُبّي الغالي، يومَ طلبتُ منكَ مازحة لبنَ العصفور عندما سألتَني: "اطلبي وتمنّي!" لأفاجأ بعد أسبوع بعلبة لبنٍ صغيرة من الكرتون على طاولة مطبخنا الجميل طُبع عليها بخط عريض "لبن العصفور." لم أصدّق وقتها ما رأيت! ولا تسألْني كم ضحكتُ حينها، وكم بكيت. انتابتني مشاعر غريبة، وشعرتُ أنّ حبّ العالم كلّه موضوع في هذه العلبة، وأنّ عليّ صيانته والمحافظة عليه. ولم أفهم ما حصل حتى شرحتَ لي عند عودتك من العمل أنّ صديقك الذي يشتغل في مصنع لتعليب الحليب والألبان نفّذ لك هذه الرغبة المجنونة بعد أن أخذتَ له علبة كرتونيّة صمّمها صديقنا المجنون خالد. ما زالت هذه العلبة موجودة بين أغراضي، أرجو أن تضعها معي حين أرحل، ربما احتجتُ في العالم الآخر برهانًا على أنني عشتُ راضيةً مرضيّةً، فأُبرزُها جوازَ سفرٍ، وأتباهى بها أمام الملائكة الذين لا بدّ من أنّهم سيضحكون. حبيبي سعيد، أشعر فجأةً بالتعب. سأكمل في الغد."
شعرتُ أنا كذلك بالتعب لفرط تأثّري، فتوقّفتُ عن القراءة لألتقط أنفاسي وأستعيدَ هدوئي. التفتُّ إلى سعيد فوجدتُه هو الآخر ينظر إليّ. قلت: "ما دمتَ لم تقرأ الرسالة حتى اليوم فلا بدّ من أنّك لم تضع هذه العلبة معها في القبر كما أوصتْك." قال: "لقد وضعتُها مع مجموعة من الهدايا الصغيرة الأخرى. طلبتْ ذلك إليّ شفهيًّا قبيْل وفاتها لأنّها بلا شكّ قد عرفتْ أنني لن أقرأ رسالتها فورًا. ولا أعلم لماذا تُكرّر هذا الطلب هنا ثانيةً!"
كنتُ أفكّر في هذه المرأة الرهيفة التي بدأتْ صورتُها تتشكّل في رأسي شيئًا فشيئًا. وربّما هذا ما جعلني أسأله رغمًا عنّي: "هل كانت جميلةً كما أتخيّلُها؟" في البداية ظننتُ أنّه لم يسمعني، لكنه قال: "ولو أنّ الجمال ليس كلّ ما كانت تحمله من صفات، لكنّ جمالها كان يقطع الأنفاس." سألتُه ثانيةً: "أتحمل صورة لها؟" أخرج جوّاله وفتح ملفًّا باسم "حبيبتي." أعطاني الجوّال. كانت صورةً لوجه امرأةٍ يملأ الشاشة. دهشتُ لجمالها. والأهمّ ذلك الشعور الغريب الذي انتابني حين رأيتها، إذ شعرتُ بأنني أعرفها. فكّرتُ قائلًا لنفسي:
هناك خطأ حدث في هذه الحياة. لا أعلم مَن منّا ضلّ طريق الآخر، لكنْ كان على الأقدار أن تجمعنا في مكانٍ ما. هؤلاء أناس جديرون بالحياة، وهي جديرة بهم أيضًا. هؤلاء أناس تشتهيهم أصدقاءَ.
أخذتُ أقلّب الصور تباعًا، وكلّما مرّت صورة عبّرتُ عن إعجابي ببضع كلمات. استرعتِ انتباهي صورةٌ جميلةٌ تجمعهما في حديقة، فقلت لنفسي: "هذه الصورة جاءت بعد قبلة أو تبعتْها قبلة؛ فمن غير الممكن في عالم الحبّ أن تنتهي هذه الوضعيّةُ اللطيفة من غير قبلة، ولو خاطفة، على الجبين أو العنق أو الشفتين." كانت تتعلّق برقبته وتنظر ساهية إلى عينيه، وكان يمسك بها من خصرها ويبتسم ابتسامةَ مدمنٍ يتلذّذ بما أدمن عليه. كان الفراغ الذي يفصل بين جسديهما مملوءًا بالحبّ؛ وقد ذكرت له هذه الملاحظة، فابتسم وقال: "من الغريب أنك انتبهت لهذا الفراغ! دقّقِ النظرَ قليلًا وستجده يشبه خارطة سوريا." حاولتُ أن أجد الشبه المطلوب ولم أفلح، إلّا أنني وافقته بعد تفكير؛ فسوريا بحاجة هذه الأيام إلى مثل هذا الحب.
"... حبيبي سعيد
بعد رحيلي أرجو أن تتابع حياتك كما عرفتكَ من قبل. لا تحزن لفراقي... ستحزن. أعرف ذلك. أيّ غبيّة أنا كي أطلب منك مثل هذا الطلب! أفكّر لو حصل العكس، ماذا كنتُ سأفعل وكيف كنتُ سأعيش؟ هل سأكون أنانيّة لو قلت إنّه من حسن حظي أنني سأسبقك بالرحيل؟ أعرف أنك ستحزن، لكنني أتمنّى ألّا يشغلك حزنُكَ عن متابعة الحياة. لا أعلم كم سيمضي من الوقت حتى تستعيد توازنك وتستعيد روحَك بعيدًا عنّي، لكنني أتمنّى ألّا يمتدّ هذا الوقتُ كثيرًا. هل تتذكّر جارَنا صاحبَ المصبغة الذي ماتت زوجتُه الصيفَ الماضي كيف صارت حياته؟ أرجوكَ تماسكْ من أجلي، ولا تصل إلى ما وصل إليه. سأتوقف عن الكتابة وأكملُ فيما بعد. لا أريدك أن تراني وأنا أكتب هذه الرسالة. أسمعُ خشخشةَ مفاتيحك في الخارج، وها أنت دخلتَ البيت."
قاطعني سعيد قائلًا: "كنتُ أشعر في الآونة الأخيرة أنّها تخبّئ أمرًا عنّي. لكنّني كلّما سألتُها كانت تضحك وتعانقني ثم تقبّلني وتمازحني كأنّها ليست على فراش الموت بل في عيد. كنتُ أستغرب دائمًا من أين تأتيها هذه الشجاعة وهذه القوة! وكنت أشعر أنّها تلاعب الموتَ الذي خانها في النهاية وحوّل اللعبة في غفلةٍ عنها إلى جِدّ. أذكر يومَ اضطُرّتْ إلى حلاقة شعرها بعد أن بدأ بالتساقط بفعل الأدوية، وكيف حوّلتْ هذا الحدث الحزين إلى يوم فرحٍ عظيم، وكيف أخذت تتباهى أمامي بـ "اللوك" الجديد. حتى إنّها دعتْ بعض أصدقائنا مساءً إلى العشاء، وبعد حضورهم وقفتْ وسط الصالون وخلعت القبّعة التي كانت تلبسها ضاحكةً وهي تقول: "تاااا تاتااااا تاااا..." فبدتْ ـــ آه يا حبيبتي ــــ بدتْ كسكّان المرّيخ الذين كنّا نراهم في أفلام الخيال العلميّ. صمتَ الجميعُ من هول الصدمة لبرهة، وامتلأت المآقي بالدموع، ثم قمنا تباعًا وعانقناها بقوة، وبكينا بصمت. وخيّم علينا جوّ من الكآبة، بقينا فيه إلى أن أخرجَنا خالد حين ذكر لها ـــ ممازحًا ـــ المثلَ الشعبيّ الشهير: "جبنا الأقرع ليسلّينا، كشف عن القرعة وفزّعنا." فانفجرْنا ضاحكين وبالغنا بالضحك؛ فلم يكن لنا مهرب آخر نسعى إليه.
"... حبيبي
لا أعلم هل أحزن أمْ أفرح لأنني لم أترك لك طفلًا يحمل شيئًا منّي يبقى إلى جانبك وتركن إليه؟ هل تعلم أنّ بدني أقشعرّعندما فكرت بهذا؟ ومن جانب آخر أقول من الجيّد أنّ هذا لم يحصل لأنّك ستستطيع متابعة حياتك بحرية من دون قيود. سعيد، يا صديقي وحبيبي، ويا شريكي في كل شيء، هل سأبدو صغيرة العقل لو طلبت منك في حال زواجك وإنجاب زوجتك بنتًا أن تسمّياها باسمي؟ أقسم أنني كنتُ سأسمي ابني سعيدًا لو حصل العكس. لا أعلم لماذا تملّكتني هذه الرغبة اليوم، هل هو حب الحياة والبحث عن الاستمرار والخلود بأي طريقة ممكنة ولو بالاسم؟
حبيبي الغالي
أرجو أن تبلغ الأصدقاء اعتذاري منهم، إذ إنّني في الفترة الأخيرة تعبتُ كثيرًا كما تعرف ولم أعد أستطيع مقابلتهم. قُلْ لـ "معن" إنني شاكرة له على السهرات التي كان يقضيها معنا ويجمّلها بغنائه وبعزفه على العود. قُلْ له إنّ أغنية "مِن غير ليه" التي غنّاها لنا عندما كنّا جالسين الصيفَ الماضي ليلًا على ضفة بحيْرة السدّ ما زال يتردد صداها في أذني حتى اليوم. يا الله كم أشعر بالامتنان لأنّ الحياة منحتني صديقًا كهذا. ولـ"ساجد" و"سحر" لا أعرف ماذا أقول! فأنا أشعر بالندم لأنني لم أقبّلهما ألف مرة باليوم. سأتوقف هنا وأكمل في الغد."
توقّفتُ عن القراءة مرّةً أخرى ونظرتُ إلى سعيد، فوجدته لايزال يحدّق باللوحة. سألته: "ما قصّتك مع هذه اللوحة، تكاد تأكلها بعينيك؟" قال:
"صاحب هذا المقهى صديق قديم لنا. وعندما افتتحه قدّمْنا له هذه اللوحة هديّةً. وكلما أتينا إلى هنا جلسنا إلى هذه الطاولة ومازحناه قائلين: رائعة هذه اللوحة، مَن صاحب الذوق الرفيع الذي أهداك إيّاها؟ وكان دائمًا يضحك ويقول: ‘كليمت’! عندما تزوّجنا ذهب إلى السوق وبحث لأيام حتى وجد اللوحة ذاتها، فاشتراها وقدّمها إلينا هديّةَ زواجنا. وأتذكّره كيف كان يبتسم بخبث وهو يراقبنا ونحن نفضّ الغلاف عن هديته بشوق لنفاجأ باللوحة ونضحك حتى البكاء ويضحك معنا كأنّه لم يضحك من قبل. علّقنا اللوحة في الصالون. وكلّما زارنا سألنا السؤال نفسه ضاحكًا بشماتة، فنردّ عليه بحماس، وبصوت واحد: كليمت."
ضحكتُ بدوري، وانتبه صاحب المقهى أننَا نتمعّن في اللوحة، فالتفت إليها خلفه ثم عاد ونظر إلينا. ومن دون تدبير وجدنا أنفسنا، نحن الثلاثة، بصوت واحد نقول: "كليمت." فضحكنا معًا، وأحسست بالغرابة لأنني أضحك على شيء لا شأن لي به، وأحسستُ أنني جزء من رسالتها. فخفت!
"حبيبي سعيد
أشعر بتعب شديد. ولا أظنّني سأكون قادرة على متابعة الكتابة بعد اليوم رغم أنّ هناك الكثير ممّا أودّ قوله. لذا سأكتفي بأن أقول لك: أحبّك، وأحبّ أنك تحبّني، وأحبّ أنّني سأموت بين يديك، وأشكر الحياة التي منحتني هذا الحبّ الذي جعلني أعيش حياتي مضاعفةً، ولا بأس لو متُّ غدًا وأنا في الثلاثين، فربما أكون قد عشتُ الحياة أكثر ممّن مات وهو في التسعين.
أخيرًا، إذا لم تستطع أن تجتمع بخالد، وكنت تقرأ هذه الرسالة وحدك، أريدك أن تتصل بصاحب الرقم الموجود أسفل الصفحة وتقرأها ثانية معه وتتعرف إليه. حبيبي الغالي عش حياتك حتى الرمق الأخير."
نظرتُ أسفل الصفحة، وصُعقتُ عندما وجدتُ رقم جوّالي، وتحته اسمي الصريح.
اللاذقيّة