أتناول هنا خصلتين خطيرتين سادتا طويلًا، ولا تزالان، في الفكر والثقافة السوريَّيْن عمومًا، وفي النوع الناقد والمعارض منهما على وجه الخصوص؛ وتتمثّلان في إقامة النقد والمعارضة على أساسٍ ثقافويّ يردّ الظواهرَ إلى تقاليدَ وصِفاتٍ ثقافيّةٍ معيّنةٍ، ويسندها إليها، في ما يشْبه الغيابَ المطلقَ لأيّ تحليلٍ علميٍّ رصين لبنية السلطة وعلاقات القوّة.
ليس كتاب صادق جلال العظم، النقد الذاتيّ بعد الهزيمة، الذي يعود إلى النصف الثاني من ستينيّات القرن العشرين، سوى نموذجٍ عن هذه الخصلة التي نجدها لدى كثيرين غيره؛ كما نجدها حاضرةً لديه في آخر نتاجاته، من دون أن يكبحَها ما تمتّع به من حسٍّ نقديٍّ حادّ، ومن إعلاءٍ لشأن النقد الطليق في إنتاج المعرفة.
أمّا الغاية من تناولي هذا، فهي لمحاولة الكشف عن بعض سمات العطب والخراب اللذيْن تعانيهما النخبةُ الثقافيّةُ والفكريّةُ والسياسيّةُ السوريّة في معظمها، إنْ لم يكن برمّتها؛ تلك النخبة التي ما إنِ احتاجَ إليها شعبُها الذبيحُ حتّى قادتْه إلى مزيدٍ من الكارثة، لا بانقسامها بين السلطويّة والشعبويّة فحسب، بل أيضًا بسبب تقلّبِ كثيرٍ من أفرادها (وبكلّ يسرٍ وسهولةٍ) من أسوإ أنواع الارتباط بالسلطة إلى أسوإ أنواع الشعبويّة.
ولا بدّ من القول إنّ النقد والتناول النقديّ لا يحتاجان إلى أن يبرّرا نفسيْهما مع د. العظم إلّا بجدارتهما وأحقيّتهما. فلطالما ارتبط هذا الرجلُ بالنقد وممارسته، إلى درجة أنّنا لو أردنا أن نختصرَه بكلمةٍ واحدة، لكانت هذه الكلمة هي "النقد" ــــ طليقًا وصريحًا لا يحدُّه شيءٌ، وبه يُحْتَرَم الفكرُ ويُكَرَّم. وذلك من دون أن ننسى، بالطبع، أنّ تناولنا النقديّ لكتابٍ مثل النقد الذاتيّ بعد الهزيمة إنّما ينطلق من نقطة "الأفضليّة الزمنيّة" التي نقف فيها الآن، بعد نحو نصف قرنٍ على صدوره؛ الأمرُ الذي قد ينعكس ظلمًا، إلى هذا الحدّ أو ذاك، على العمل وصاحبه.
***
يشير د. العظم، في تقديمه لطبعة العام 2007 من كتاب النقد الذاتيّ بعد الهزيمة، إلى كلٍّ من هوامش على دفتر النكسة لنزار قبّاني، وحفلة سمر من أجل 5 حزيران لسعد الله ونّوس، باعتبار هذيْن العملين، إلى جانب عملِه هو نفسه، هي ما بقي في الذاكرة الجمعيّة العربيّة من أصل المادّة الغزيرة التي أُنتجتْ كتابةً، في العالم العربيّ، بعد الهزيمة، تحت عناوينَ تتناولها من وجوهها المختلفة. وهو يَلفت الانتباهَ إلى أنّ هذه الأعمال الثلاثة، كلَّها، سوريّة.
على أنّ ما أريد أن أشيرَ إليه هنا هو أنّ هذه الأعمال تشترك بأمرين آخرين، علاوةً على سوريّتها، هما: ثقافويّتها، وطريقةُ تعاملها مع السلطة. فقبّاني ينسب في قصيدته الشهيرة الهزيمةَ إلى "اللغةِ القديمه والكتبِ القديمه... وكلامِنا المثقوب... ومفرداتِ العهر والهجاءِ والشتيمه... والفكرِ الذي قاد إلى الهزيمه... ومواهبِ الخطابه... والعنتريّات... ومنطقِ الطبلة والربابه." وهو يوجز خلاصةَ القضيّة، كما يقول، في عبارة واحدة: "لقد لبسنا قشرةَ الحضارة / والروحُ جاهليّهْ..."
في هوامش، تتجلّى الثقافويّة في عَزْو نزار الهزيمةَ إلى عقليّةٍ معيّنةٍ أو "روح" معيّنة تَطُولنا جميعًا، نحن الذين نحْضرُ في القصيدة بوصفنا جماعةً يتمثّل جوهرُها في أنّها لم تلبسْ من الحضارة سوى "قشرتِها،" لا فرقٌ بيننا ولا تمايزٌ اجتماعيّ أو طبقيّ أو سلطويّ أو ثقافيّ، اللّهم إلّا تمايُز مخبري السلطان وكلابِه المفترسة وعسكرِه، الذين يريد قبّاني أن يشكوَهم إلى السلطان ذاته... إذا أتيحتْ له مقابلتُه.
أمّا حفلة سمر فتحاول أن تتمثّلَ أحدثَ ما كان لحظتَها في الكتابة المسرحيّة الأوروبيّة الثوريّة، التي تعرَّفَ إليها ونّوس في النصف الثاني من ستينيّات القرن العشرين بين باريس وبرلين. وهي تَقْطع مع بداياته الوجوديّة وانبهارِه بمسرح العبث، لصالح رؤيةٍ متورّطةٍ في التاريخ، يحملها مسرحٌ مقتنعٌ بأنّه فعل مجتمعيّ؛ كما أنّها تقيم خطًّا فاصلًا واضحًا بين "العاديّين" و"الرسميّين" كما يسمّيهم. لكنّ الشاغل الأساس لمسرحيّة ونّوس هو أن تقول للسلطان ما تنطوي عليه من نقدٍ حادّ؛ كأنّ الأملَ ماثلٌ في أن يَسمع السلطانُ ويجد حلولًا. وفي العام 1970 سُمح بعرض المسرحيّة المكتوبة في العام 1968، فأفضى سعد الله إلى "السلطان" بنقده الحادّ.
والسلطان عند ونّوس، في تلك المرحلة، هو نتاجٌ ثقافيٌّ ورمزيٌّ إلى حدٍّ بعيد: "أعطِني تاجًا وصولجانًا، أعطِكَ مَلِكًا،" بصرف النظر عمّن يضع التاجَ على رأسه ويُمسك الصولجان في يده. فما إنْ يضع واحدٌ من عامّة الناس التاجَ ويمسك بالصولجان، ولو في لعبةٍ أو مزاح (كما يحصل في مسرحيّة ونّوس الأخرى، الملك هو الملك)، حتّى تتلبّسَه علاقاتُ السلطة والقوّة وبُناها. وهذا، في واقع الأمر، كلامٌ يَختزل تعقيدَ بنيتَي السلطة والسلطان، وآليّاتِهما الرهيب، إلى سطحهما الثقافويّ وحده.
على هذه الخلفيّة، لا غرابةَ أيضًا أن يكون أدونيس، على ما يقوله لنا د. العظم في تقديمه لطبعة العام 2007، قد أيقظه صبيحةَ اندلاع حرب 1967 ليُعْلمَه ببدئها، وبأنّ الطائرات الإسرائيليّة "تتساقط،" والجيوش العربيّة "تتقدّم،" وَفقًا لأجهزة الإعلام العربيّة والبيانات العسكريّة الرسميّة. يقول العظم: "تبادلنا الحديث عن الحرب باطمئنانٍ وبلا قلقٍ زائد، إذ إنّ فكرة الهزيمة لم تخطرْ في بال أحد؛ كما أنّ احتمالَ الانكسار العربيّ لم يكن واردًا."
وبالمناسبة، فإنّ أدونيس أيضًا سوريٌّ في الأصل. وهو أيضًا واحدٌ من أكبر الثقافويّين، إنْ لم يكن أكبرَهم، في إحالته كلَّ مشكلةٍ على الوعي والفكر واللغة، وعلى الثقافةِ عمومًا، التي تغدو أساسًا يقوم عليه العالم. وفي عُرف أدونيس، لا يجوز للبشر أن ينخرطوا في تغيير واقعهم ويثوروا عليه إلّا بعد أن يكونوا قد غيّروا فكرَهم وثوّروه، شأنهم شأن الشعوب التي وُضِعتْ تحت الانتداب في عُرفِ مَنِ انتُدبوا عليها؛ إذ يجب أن تُرعَى ريثما "تنضج" وتصبح "لائقةً" بالحريّة. على البشر، في عُرف أدونيس، أن يتغيّروا فكريًّا وثقافيًّا قبل أن يتغيّروا اجتماعيًّا وسياسيًّا. كأنّ أفكارَ البشر تتغيّر خارج سيرورة تغيّر مصائرهم الاجتماعيّة والتاريخيّة؛ أو كأنّ البشر يتعلّمون الحريّة خارج سياق تحرّرهم الفعليّ.
هذا من حيث ثقافويّة أدونيس. أمّا نظرتُه إلى السلطة والسلطان وبناهما، فالالتباساتُ ذاتُها وأكثر. لا تخدعنَّكم خلافاتُ العظم وأدونيس، بل امضُوا إلى ما يتعدّى السطحَ والظاهر: فهاتان الخصلتان ــــ الثقافويّة والفهمُ الملتبسُ للسلطة وأسسِها وبُناها ــــ هما خصلتان تسِمان الثقافةَ السوريّةَ عمومًا، ونجدُهما لدى كثيرٍ من المفكّرين والكتّاب والأدباء السوريّين، بأشكالٍ مختلفة، عُليا ودُنيا؛ لعلّ أوسطَها هو مسرحيّاتُ دريد لحّام ومحمد الماغوط، حيث النقدُ القاسي الذي يضحك له السلطانُ والرعيّةُ معًا. وهاتان الخصلتان كفيلتان بإحلال العواطف السطحيّة والفهم "الأخلاقيّ "السطحيّ محلَّ الفهم العلميّ والتحليل. وبذلك يَسْهل الانتقالُ السريعُ من الحبّ الغامر إلى الكراهية العميمة، على نحوٍ أشبهَ بذلك السقوطِ المباغت الذي يقول عنه العظم: "لا أعتقد أنّ أحدًا من الجيل الذي أنتمي إليه قد شُفيَ حقًّا من ضربة السقوط المفاجئ من هذا الارتفاع الشاهق إلى قعر هاوية الهزيمة السحيق، وكلُّه خلال لحظاتٍ معدودات."
هكذا تغدو الهزيمةُ مفاجأةً لا سيرورة، ويغدو مَن يتحمّلون وزرَ الهزيمة نحن جميعًا.
***
تشير الثقافويّة، إذن، إلى مذهبٍ فكريّ يُولي الثقافةَ دورًا مركزيًّا في وصفها القوّةَ المحرِّكةَ والناظمةَ للشأن الإنسانيّ، أو الأساسَ الذي يقوم عليه هذا الشأن (على نحوٍ شبيهٍ بـ/ومعاكسٍ للدور الذي تُوليه الماركسيّةُ ــــ في ماديّتها التاريخيّة ــــ لتضافر الاقتصاد والاجتماع والتاريخ في تشكيل الأساس الذي يقوم عليه البنيانُ الفوقيُّ الثقافيّ والفكريّ والأخلاقيّ والقانونيّ). ففي الثقافويّة، ما يحدِّد البشرَ وبُنى علاقاتهم وسلوكهم وطرائقَ قيامهم بأفعالهم ووظائفهم، إنّما هو ثقافاتُهم... على أن لا تُفهَمَ "الثقافة" كتبًا وفنونًا أنتجها البشرُ فحسب، بل طرائقَ حياة جماعاتِهم المختلفةِ أيضًا، وما تقيمه هذه الجماعاتُ من علاقاتٍ متباينةٍ مع تراثاتها وحاضرها ومستقبلها. وهذا ما يشدّد من إمكانيّة الكلام على "ثقافات الأمم المختلفة،" وعلى "ثقافات مميّزة" ضمن المجتمع الواحد ذاته.
وإذ تشير الثقافاتُ إلى أنماط حياتيّة محدّدة، فإنّها تغدو مقترنةً بالهويّات أشدَّ الاقتران. ومعلومٌ أنّ الهويّة لا تقتصر على ما يَجْمع ويوحِّد (في حال وضعها في سياقٍ مستنير)، بل تطول أيضًا ما يفرِّق ويُقِيم الاختلافَ والخلافَ العنيفيْن (في حال وضعِها خارج السياق السابق). وبذلك، تغدو الهويّةُ والثقافة (أو الثقافةُ في وصفها هويّةً) مصطلحًا مشحونًا بقيمةٍ سلبيّةٍ مؤذيةٍ، يمكن أن تُنْشِب الحروبَ وتطْلقَ مخالبَ البشر وأنيابَهم على حلاقيم بعضهم بعضًا.
الثقافويّة، على هذا الأساس، هي رؤيةٌ تردُّ الظواهرَ جميعَها إلى تقاليدَ ثقافيّةٍ معيّنة؛ وربّما تُرجِعُها، في النهاية، إلى دينٍ أو مذهبٍ بعينه يُرى على أنّه القوّةُ المحرّكةُ الأولى والأساسُ التي تفسِّر كلًّا من التاريخ والاجتماع، بدلًا من أن تتفسَّرَ بهما.
أمّا الرؤية الملتبسة إلى السلطة، فيُقصَد بها هنا غيابُ التحليل الدقيق، بل غيابُ الوصف المجرّد الدقيق، لبنية السلطة السياسيّة وأشكالِ حكمها... ليحلَّ محلّ ذلك توصيفٌ سطحيٌّ، وأحكامٌ تَغْلب عليها العاطفةُ والحكمُ الأخلاقيّ والتفكيرُ الرغائبيّ. وهذا ما يَسمح، مثلًا، بالفصل بين السلطان ومَن يحيطون به، ويَسمح بأن يُشكى هؤلاء لدى ذاك، وبتحوّل الحبّ الآسر بغتةً إلى مقتٍ عنيفٍ أو العكس، وبتوسّل سلطانٍ ضدّ سلطان وتأليبِه عليه.
***
أراد العظم، في كتابه النقد الذاتيّ بعد الهزيمة، أن يضع يدَه على أسباب الهزيمة، فوجدها ــــ كما يقول على مدى صفحات الكتاب ــــ في جهلنا، وتبريرِنا، وتلفيقِنا، وقدَريّتِنا، وعائليّتِنا، وقبليّتِنا، وطائفيّتِنا، وأنماطِ حياتنا التقليديّة، وإحلالِنا عقليّةَ الفروسيّة محلَّ التكنولوجيا الحديثة، وفهلويّتِنا، وإزاحتِنا المسؤوليّةَ عن أنفسنا، وحيائنا، وإخفاءِ عيوبنا،... إلى آخر قائمةٍ طويلةٍ من المثالب التي تندرج في ميدان السلوك الثقافيّ، وخصائصِ الشخصيّة الاجتماعيّة وأنماطِ سلوكها الاتّباعيّة، وعمومًا في الثقافة بوصفها نمطَ حياة.
وتبلغ هذه القائمةُ ذروتَها في أمرٍ يقول العظم إنّه لاحظه حين زار دمشق في رمضان وفَسَّرَ له ــــ على بساطته ــــ "نتائجَ الخامس من حزيران بصورةٍ تَفُوق بدرجاتٍ كلَّ ما كُتِبَ وقيلَ حتّى اليوم في تعليل الهزيمة وتفسيرِها وتبريرِها." وهذا الأمر هو اقتصارُ دوام العمل الرسميّ، لجميع موظّفي الدولة ومستخدميها، على أربع ساعاتٍ يوميًّا، إجلالًا لشهر رمضان، وإكرامًا لفريضة الصيام، وذلك في "بلدٍ اشتراكيّ تُعتبر الدولةُ فيه أكبرَ موظِّفٍ لأبناء الشعب، ويُفترض أن تكون الدولةُ فيه محورَ الإنتاج والعمل والبناء، والدافعَ الرئيسَ للتقدّم المستمرّ." وهو يجد "في هذه الظاهرة وحدها من المغازي والمعاني والمضامين حول حقيقة الوضع العربيّ الاجتماعيّ ما يكفي لتعليل الهزيمة العربيّة، من دون البحث عن أسبابٍ أخرى [!]"
يكاد نصُّ الكتاب بأكمله أن يكون نقدًا للوعي والثقافة، موجَّهًا إلى الوعي والثقافة كي يفهماه ويتبصّرا فيه ويتغيّرا. وهو ضَربٌ من السجال المُسهب يتوسّل الإقناعَ المنطقيَّ الذهنيّ، وتغييرَ الوعي بالإشارة إلى مضارِ المثالب المذكورة، وبتقديمِ بدائلَ علمويّةٍ وعلمانويّةٍ غالبًا، بعيدًا عن أيّ تحليلٍ جدّيٍّ للبنية التي تستجلب تلك المثالبَ وما ترتّب عليها من هزيمة، أو لعلاقات القوّة والسلطة التي تحكمها؛ أيْ بعيدًا عمّا يتوقّعه المرءُ من ماركسيّ ومن فيلسوف. فهذا الأخير يتوارى، هنا، لمصلحة الدارس الاجتماعيّ الذي يَنْقد سطوحَ الظواهر، ولا يتورّع عن الاستقواء في نقدها ــــ ونقدِ مَن يقفون وراءها من حواشي السلطان ــــ بمقتطفاتٍ من خطب الزعيم (عبد الناصر) الذي يقود ما يدعوه العظم "مرحلةَ التحويل الاشتراكيّ، حيث الدولةُ هي كلُّ شيء، بكلّ معنى الكلمة." ويكاد هذا أن يكون جلَّ ما يفضي به العظم عن البنية الاجتماعيّة الاقتصاديّة السياسيّة لبلدينا المهزومين، مصر وسورية، ومن ورائهما أمّة العرب.
والحال أنّه يصعب كثيرًا إدراجُ مثل هذا التمرين الذهنيّ على تعداد المثالب المفضية إلى الهزيمة في عداد تناول التخلّف العربيّ والتساؤلِ عن مصادره وآثاره، كما يحاول د. فيصل درّاج أن يفعل بحذر واحتراس في تقديمه طبعة العام 2007 من النقد الذاتيّ بعد الهزيمة. ذلك أنّ العظم لم يَنْفذ في كتابه ذاك، ولا في غيره في الحقيقة، إلى أبعد من مظاهر التخلّف، وذلك قياسًاعلى محاولاتٍ نظريّةٍ عربيّةٍ كبرى أُنجِزَتْ في تلك الفترة ذاتها، وقَدّمتْ مفاهيمَ جديدةً وتحليلاتٍ للبُنى والسيرورات التاريخيّة التي تقف وراء الثقافة والأفكار في بلاد العرب، ولتركيبات هذه البنى المستجدّة في مصر وسوريا ومثيلاتهما. ومن هذه المحاولات ما نجده لدى أنور عبد الملك في مصر مجتمعٌ جديدٌ يبنيه العسكريّون (تُرْجِمّ إلى العربيّة سنة 1964)، ولدى سمير أمين (باسم حسن رياض) في مصر الناصريّة (1963)، ولدى عبد الله العروي في الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة (1970)، ولدى بهجت النادي وعادل رفعت (باسم محمود حسين) في الصراع الطبقيّ في مصر (1971)، ولدى مهدي عامل في مقدّمات نظريّة (1972) ونمط الانتاج الكولونياليّ (1976). لاحظوا، بالمناسبة، أنّ أحدًا من هؤلاء ليس سوريًّا.
من "مزايا" النزوع الثقافويّ سهولةُ تقلّبه، المستمدّةُ من خفّته، ومن درجة الاستقلال التي تَنعم بها الثقافةُ قياسًا ببقيّة مستويات المجتمع. ولذلك لا عجبَ أن نجد د. العظم هو ذاته في خدمة الشعبويّة الإسلامويّة تحت غطاء "الثورة،" كما وجدناه غيرَ بعيدٍ عن خدمة السلطان تحت غطاء "التحويل الاشتراكيّ". وهو ما يذكِّر بأولئك الذين عمدوا ــــ حين كانوا أتباعًا للسوفييت ــــ إلى التحالف مع الاستبداد بوصفه "طريقًا لارأسماليًّا إلى الاشتركيّة،" ثم سارعوا ــــ حين باتوا أتباعًا للأمريكان ــــ إلى التحالف مع الإسلام التكفيريّ بوصفه "ثورةَ شعب" ما إنْ لاح لهم احتمالُ انتصار هذا السيّد الجديد. وهذا هو الإطارُ العامّ الذي تندرج فيه مساهمةُ د. العظم الأخيرة، "العلويّة السياسيّة."
المشكلة الجوهريّة في مفهوم "العلويّة السياسيّة،" إنْ جاز اعتبارُه بين المفاهيم، هي أنّه يُقِيم السياسةَ على الثقافة؛ بمعنى أنّه يشتقّ الدكتاتوريّةَ والاستبدادَ (السياسة) من المذهب والطائفة (الثقافة)، بدلًا من البحث عن الطابع الطائفيّ للنظام في دكتاتوريّته واستبداده، اللذيْن يقومان ــــ بدورهما ــــ على أساسٍ اقتصاديّ اجتماعيّ تاريخيّ، يشكّلان معه منبعَ ذلك الطابع الطائفيّ، الذي هو أثرٌ مميّزٌ من آثارهما ووظيفةٌ خاصّةٌ من وظائفهما.
وإنتاجُ الدكتاتوريّة للطابع الطائفيّ لا يعني أنّها تنتج الطائفةَ كجماعة، كما يذهب بعضُ النقد البائس لمفهوم "العلويّة السياسيّة." بل إنّ الطائفة ليست جماعةً هي ذاتها، بقدْرِ ما هي علاقةٌ سياسيّةٌ تتوسّل المذهبَ لتُدْرِجَ في عِدادها مِن أبنائه مَن يؤمّنون الحمايةَ والولاء، وتَقْصر المزايا التمييزيّةَ عليهم، بل على قلّةٍ قليلةٍ منهم، وتتمتّع بطاقةِ تحويلِ أيِّ صراعٍ اجتماعيّ وسياسيّ إلى صراع طائفيّ، ولو لم تتكرّس في نصوص الدولة المؤسِّسَة (على نحو ما نجد في المثال اللبنانيّ).
بعبارةٍ أخرى، ليست الطائفة مسألةً مذهبيّةً بقدْرِ ما هي علاقةٌ سياسيّةٌ، لا تَطُول أبناءَ المذهب كجماعة بقدّرِ ما تطول أعدادًا منهم قد تَكْبر أو تصغر في كلّ حين. وهذا الأمر يمكن أن يساهم فيه المعارضون إذا كانوا طائفيين، على نحوِ ما ساهمت الممارساتُ الطائفيّةُ والخطابُ الطائفيّ لِما أُدعوه بـ"الثورة السوريّة المضادّة،" التي زادت تلك الأعدادَ، لا بين أبناء المذاهب الأقلويّة فحسب، بل لدى كثيرٍ من أبناء المذهب الأكثريّ أيضًا. فهناك، عند "الثوّار" المزعومين، وبينهم يساريّون وليبراليّون مزعومون كُثُر، ينبغي البحثُ عن سبب اندراج مزيدٍ من البشر في العلاقة السياسيّة الطائفيّة.
***
أخيرًا، تبقى الروحُ النقديّة الوثّابة والدؤوبة لدى د. العظم، كما يبقى عددٌ من أعماله في هذا الإطار، قيمةً مضافةً كبيرةً بالنسبة إلينا، بعيدًا عن منطق الخطأ والصواب التبسيطيّ، وبعيدًا بالتأكيد عن منطق الأنظمة ومعاييرِها في التكريم والتخوين. وعلى هذه الروح النقديّة يبقى الرهانُ والاتكالُ في اعتبار فكر د. العظم منتميًا إلى الخطّ الوطنيّ الديمقراطيّ اليساريّ في سورية، وفي التغيير الوطنيّ الديمقراطيّ السوريّ؛ وليس، كما اختار أن ينتمي بالفعل وللأسف، إلى "الثورة المضادّة" التي رفض أمينُ عام "ائتلافـ"ـها تبنّي موقفٍ متعاطفٍ مع العظم عشيّة وفاته، بسبب علمانيّته وما سلف من يساريّته.
اللاذقيّة
* جزء من ندوة عُقدت في الجامعة الأميركيّة في بيروت بتاريخ 21 نيسان 2017، تحت عنوان "تكريم صادق جلال العظم - فكره وإرثه."