لا أعلم كيف يجب أن تبدأ هذه القصّة التي تهرب من سنةٍ إلى أخرى، وهي تحمل اعتذارًا متأخّرًا إلى تانيا. فمنذ حوالي خمس سنوات، كنتُ أقابل تانيا مصادفةً في الحيّ. كانت من الفتيات اللواتي ترى فيهنّ حرصًا على إظهار الحزن، وتعبًا يشبه الأميراتِ القليلاتِ الحظّ: ينتصب في قامتها، ويسير ببطءٍ خفيف، بين ذهابٍ وإياب، في نغمة صوتها. منها عرفتُ أنّ الأيدي التي لا تستقرّ حتّى تعانق الواحدة أختَها هي أيدٍ حزينة، والعيون التي تشتهي الدهشة هي عيون جائعة...
لم تكن تانيا قليلةَ الجمال، بقدْرِ ما كانت قليلةَ الحبّ؛ فلم أسمعْ يومًا عن قصّةٍ غراميّةٍ بطلتُها تانيا، ولا عن موعدٍ عاطفيّ تركضُ من أجله.
وبعفويّةٍ سألتُ نفسي: ماذا لو وصلتْ إلى تانيا رسالةٌ غراميّة؟
فما أشدّ نقصانَ الكونِ إنْ تزوّجتْ تانيا من دون أن تعرفَ الحبَّ!
وبالعفويّةِ ذاتِها، كتبتُ إليها رسالتي الأولى، لا لأنّني أحبّها، بل أملًا في أن تمتلكَ أسرارَ قصّتها العاطفيّة التي سوف تخفيها عن زوجها وأطفالها مستقبلًا! وبهذا التبرير بدأتُ الكتابة. قلتُ لنفسي: لا يهمُّ مَنِ العاشقُ المرسِلُ؛ المهمّ أن ترتوي تانيا من رسالةِ حبٍّ كاملة.
بدأتُ رسالتي من منتصف الصفحة، ولم أكرّر كتابتها كما يفعل عاشقٌ متوتّرٌ متعَب:
"تانيا. أعلمُ أنّ لديكِ سرًّا لا تعرفه إلّا الفراشاتُ التي تأتي قبل الربيع بيومين، فتحارُ ما تفعل. لا سببَ لهذه الرسالة سوى أن تعلمي أنّك أجملُ من قدوم الربيع بعيون هذه الفراشات التي انتظرتْ طويلًا. فلا تشعري مثلي بِحَيْرة الفراشات، وكوني أنتِ الأجملَ!"
وضعتُ الرسالة على باب بيتها، ومشيتُ.
تانيا ستقرأ الرسالة كأنّ كلماتها أفرادٌ من عائلتها. وسوف تقضم الأحرفَ كجائعٍ يقضم تفّاحةً لم تُغسلْ بعدُ.
مع تانيا وحدها، عرفتُ كيف نتنفّسُ الكلمات!
***
أعجبتني اللعبة:
أنا أكتب، وتانيا تبتسم؛ أنا أضع رسائلي عند الباب، وهي تتلفّت من حولها بحثًا عن عاشقها؛ أنا أنتظرُها لأرى أثرَ كلماتي فيها، وهي تسافر بين عاشقها المجهولِ وعالمِنا.
وصارت تانيا أجمل. وبدأتْ ترتدي فساتينَ ملوّنةً، وأحذيةً تعطيها مِشْيةَ السيّدات اللاتي تصلهنّ رسائلُ غراميّة.
***
بعد خمسة أشهر، كتبتُ لتانيا رسالتي العاشرة التي لا يمكن أن أنسى كلماتِها:
"تانيا، بعد يومين، ستنتشر رائحةُ السفرجل في الحيّ. ابتسمي، كي تبقى رائحةُ السفرجل وقتًا أطول."
وابتسمتْ تانيا كما يجب.
بعد الرسالة العاشرة لم أستطع الكتابة إلى تانيا لأنّها، في المرّة الأخيرة، كانت خلف الباب تنتظر عاشقَها لتفتح فجأةً. ولولا حذري، لاكتشفَتِ القصّةَ.
ثمّ نشبت الحربُ، فأجبرتنا جميعًا على الخروج من حيّنا في دمشق. ودّعتُ تانيا كجارةٍ قليلةِ الفضول والدعابة. وودّعَتني كصديقٍ خفيفٍ كثيفِ العبارة.
اتّجهنا إلى طريقين مختلفين. ولا أعرف مَن كتب إليها مِن بعدي.
ولكن الآن، بعد سنين، أشعر أنّني يجب أن أعتذر منكِ يا تانيا. وصدقيني أنّني ابتسمتُ بسعادة عندماعرفتُ أنّكِ تزوّجتِ منذ عام، وتنتظرين طفلَكِ الأوّل.
اسطنبول