المعتصم خلف
إلى الآن، ما زلتُ أذكر أحمد الذي كان مقتنعًا بأنّ عليه أن ينام وسطَ الغرفة في ليالي القصف. وكلّما أخبرتُه أنّ الوسط هو الجزءُ الأكثرُ عرضةً لأن يموت المرءُ إذا كان فيه، راح يَستشهد بالرواية التي كان بطلُها ينام وسطَ الغرفة في ليالي القصف لتجنّب الموت.
حاولتُ أن أعرف عنوانَ الرواية، وسألتُه غيرَ مرّةٍ عن كاتبها أو عددِ صفحاتها فكان يجيب:
ــــ هَيْ الكتب بتقتُل الشي الحلو جوّاتك. لا تقراها.
كلُّ ما عرفتُه عن هذا العمل أنّه فرنسي، وأشكّ في أنّه باح بهذه المعلومة بجدّيّة، أو كرأس خيطٍ للبحث. وربّما قالها ليرتاح من تكراري للسؤال.
كنتُ أعجب دائمًا: كيف يعرِّض نفسَه لكلّ هذا الخطر بسبب جملةٍ في رواية؟! أو بسبب عادةِ بطلِ روايةٍ قرّر كاتبُها أن يخاطر به؟!
كان يخاف أن يصبح ضريرًا، مع أنّ نظره كان جيّدًا، وهو لم يرتدِ يومًا نظّارةً طبّيّة. عندما تنقطع الكهرباء لم يكن يضيء شيئًا، أو يتحرّك من مكانه. وكلّما طالت ساعاتُ التقنين كان يقلق، وينظر نحو أيّ جزءٍ ما زال يحتفظ بضوئه، مثل السماء أو بيوتِ الجيران، ليتأكّد من بصره. كان يدافع عن هوسه هذا بفلسفةٍ خاصّةٍ بالعيون:
"شي مرّة اتطلّعتْ لجوّاتك؟ صدِّقْني هالعيون مو لنتطلّع لبرّا. هالعيون لنشوف داخلنا المريض. هيك بس فينا نفهم العالم."
لا أعلم لماذا كنتُ أخاف منهُ كلّما اشتدّ الحصار. كان يدّعي أنّ هاتفَه يرنّ، وأنّه يتحدّث مع صديقته القديمة، ويختار موعدَ اللقاء والمكان. وكان يطلب منها ألّا تذهبَ وحدها إلى مسرح الحمرا، وألّا تضحكَ كلّما قال لها بالفصحى:
"أغلى الهدايا الآن فنجانُ قهوة. وأرخصُها قافلةٌ المساعدات."
... مع أنّ صديقته ماتت منذ عام ونصف بقصف على منطقة خان الشيح.
كنتُ كلّما وصلتُ إلى عتبة بيته وسمعتُ صوتَ أطباقٍ تتحطّم، أعرفُ أنّ أحمد لا تعالجهُ أساليبُه في الشفاء من حالة القلق والتفكير التي تسيطر عليه؛ بل كان يحتاجُ إلى ذاكرةٍ مؤقّتةٍ تسرقه وتعيده إلى الحياة ليبدأ من جديد. وكنتُ أعود أدراجي في لحظتها، لأنّه يصبح أخطرَ من القصف والحصار. وغالبًا ما يسترسل في الكلام بعد هذه الحالة، فيُقسم ــــ بشفةٍ ترتجف ــــ أنّه كان في بدايةِ شبابه ينتظر أن تعطيه أمُّه المالَ لشراء الخبز، ليهربَ بهِ إلى لبنان، ويلتحقَ بالفصائل الفدائيّة هناك. وكان يبرّر تصرّفَه بأنّ أمّه كانت تعرف أنّه سيهرب، وبعد غيابه بساعتين كانت تتيقّن من أنّه أصبح في لبنان، وأنّه سيعود بعد أشهر.
أحمد، الذي لا أذكر لقبَه، لم يكن يحارب ولا يصلّي. كلُّ ما أعرفهُ أنّهُ كان يكتب نصوصًا لا ينشرها، لا لأنّها سيّئة، بل لأنّه، وأمثالَه، يكتبون لأنفسهم فقط. كانت نصوصُه حزينةً، وتزحف إلى القارئ بأيدٍ تلوّح لإنقاذها من خوفها المتوتّر؛ وهو خوفٌ كان يكبر مع تزايد رفضه الخروجَ من منزله. كان يقول:
ــــ طلِعْنا من كتير بلاد... وفي بوجه ستّي ألف هجرة ومكان. خلّيني أنا أقطع سلسلة هالهجرات...
شخصٌ كأحمد لا يتصنّع شيئًا، بل يحكي عن تفاصيله بجدّيّة كاملة. وكان يروي عن كتّابٍ لم أسمع بهم قطّ، وكأنّهم يكتبون له فقط، وعن روايات كُتبتْ له وحده وعليه أن يصدّقها ولو عرّضتهُ للخطر. كان مهووسًا بكلّ ما يقرأ، وقلقًا من شيء ما غامضٍ يُرشد الماء في جوف الصخور والجبال التي في داخله فتحفر فيها .
***
حتّى الآن لا أعلم: هل الرواية التي يتحدث عنها أحمد موجودة حقًّا؟
ما أعلمهُ جيّدًا الآن أنّ أحمد مقطوعة أخباره منذ أعوام.
ولعلّه حيٌّ في مكان ما.
ولعلّه عالقٌ في وسط إحدى الغرف.
بل ربّما أصبح هو الراوية وصاحبها.