في يوليو 1999 طوى المغربُ عهدَ الملك الحسن الثاني، وفتح عهدًا جديدًا بقيادة الملك محمد السادس. طوى صفحةً من تاريخ المغرب المعاصر، بأفراحها وأتراحها، بإنجازتها وإخفاقاتها، وفتح صفحةً جديدةً بحلمها وبانتظاراتها.
منذ الأيّام الأولى لعهد ما بعد يوليو 1999، انتعشت آمالُ المغاربة وهُم يسمعون عن مبادراتٍ إصلاحيّة، وأوراشٍ تنمويّة، في ظلّ مفهومٍ جديدٍ للسلطة يؤسّس لعلاقةٍ جديدةٍ بين المواطن والسلطة، ويحقّق المصالحة الوطنيّة، ويطوي صفحةَ سنواتِ الرصاص الأليمة. واعتقد الجميعُ أنّ حلم المغاربة، مغربَ العدل والكرامة والتنمية وحقوق الإنسان والديمقراطيّة، هو قيد التحقّق.
لكنْ في سبتمبر 2001، ضربت "القاعدة" العمقَ الأمريكيَّ، فشنّت الولاياتُ المتحدة الحربَ على أفغانستان والعراق: الأولى لإيوائها زعيمَ "القاعدة،" والثاني بدعوى امتلاكه أسلحة الدمار الشامل (التي لم يمتلكْها قطّ). وتحت مسمّى "الحرب على الإرهاب،" رفع الرئيس بوش الشعارَ المانويّ: "مَن ليس مع أمريكا فهو مع الإرهاب."
لم يتردّد المغربُ في دخول هذه الحرب، إذ بدأ في اكتشاف الخلايا الإرهابيّة. كما بدأ يسعى إلى فكّ ارتباطه بالمشرق العربيّ عندما أشارت السبّابةُ الأمريكيّةُ إلى السعوديّة ومصر باعتبارهما مصدرَي الإرهاب العالميّ ولو بشكل غير مباشر؛ فارتفع شعارُ "تازة قبل غزة،" للدلالة على التخلّي عن إرث الملك الحسن الثاني في علاقته بالعمق العربيّ والإسلاميّ، وخصوصًا بترؤّسه لـ "لجنة القدس." كما تردّد شعار "أولويّة الاقتصاد على الديمقراطيّة،" في تلميح إلى النموذج التونسيّ البِنْعليّ الذي قيل عنه يومها إنّه يحقّق "المعجزةَ" الاقتصاديّةَ الكفيلةَ بالنهوض بتونس ولو في غياب الديمقراطيّة. ثمّ جاءت أحداثُ 16 ماي الأليمة لتعيد عقاربَ الساعة المغربيّة إلى زمنِ ما قبل سقوط جدار برلين.
***
لكنْ في سنة 2008 ظهرتْ بوادرُ أزمةٍ اقتصاديّةٍ عالميّة ضربت القارّة العجوز (أوروبا) أكثر ممّا ضربتْ غيرها. هنا بدا أنّ المراهنةَ على العمق الأوروبيّ اقتصاديًّا، وإهمالَ الأسواق الأخرى، كانا من الأخطاء الإستراتيجيّة الكبيرة. وعندما سقط نظامُ بن علي مطلعَ العام 2011، انهار الحلمُ في "بنعلة" المغرب، وتبدّت هشاشةُ ذلك النظام الاستبداديّ الفاسد وزيفُ ادّعاءات نجاحه الاقتصاديّ.
***
إنّ ما جَنّبَ المغربَ ويلاتِ الفتن والصراعات هو ذلك البصيصُ من الأمل في تحقيق الحلم المغربيّ في الكرامة والعدالة والحريّة والديمقراطيّة. |
لكنْ وسط الاستعصاء والانسداد والتوتر في غير ساحة عربيّةٍ زمنَ "الربيع العربيّ،" أفلح المغربُ نسبيًّا في اجتياز تلك المرحلة بأقلّ الأضرار. وهذا النجاح يُعزى، في الدرجة الأولى، إلى القوى المغربيّة الحيّة، وفي مقدّمتها شبابُ 20 فبراير، التي أعادت ضبطَ عقارب الساعة السياسيّة على الزمن الديمقراطيّ، وأعادت توجيهَ البوصلة نحو ورش الاصلاح السياسيّ. ولكنّ النجاح يعود، أيضًا، إلى تفاعل القصر سريعًا مع مطالب الشارع، إذ هبّ لإقرار إصلاحٍ دستوريٍّ قد لا يرقى إلى "الملَكيّة البرلمانيّة" غير أنّه ابتعد قليلًا عن الملَكيّة التنفيذيّة. كما تمّ تنظيمُ انتخاباتٍ برلمانيّةٍ شهِد جلُّ مَن تتبّعها على نزاهتها. بمعنًى آخر، فإنّ ما جَنّبَ المغربَ ويلاتِ الفتن والصراعات هو ذلك البصيصُ من الأمل في تحقيق الحلم المغربيّ في الكرامة والعدالة والحريّة والديمقراطيّة.
إذن، نجح المغربُ في احتواء تداعيات "الخريف العربيّ،" وفي أن يقدّم نفسَه إلى المجتمع الدوليّ في وصفه بلدًا قام بإصلاحاتٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ وحقوقيّةٍ أضفت عليه مسحةً من الأمن والأمان، وشريكًا في الحرب العالميّة على "التطرّف والإرهاب." لكنْ لا بدّ من أن نستحضر خطورةَ التلكؤ في تنفيذ البرامج الإصلاحيّة الشاملة حتّى لا يتحوّلَ الحلمُ المغربيّ إلى حمْلٍ كاذب. فالتميّز المغربيّ عن باقي دول "الخريف العربيّ" سيبقى هشًّا، وقد يزداد هشاشةً باستفحال الانسداد نتيجةً لفقدان المواطنين الثقةَ بالعمليّات السياسيّة الجارية وبالمؤسّسات المنبثقة عنها.
***
منذ مدّةٍ حذّر روبرت لوني في فورين بوليسي من خطر "داعش" على المغرب. هذا التحذير/التهديد لا بدّ من أن يدعونا إلى الكثير من التوجّس والحذر ممّا يحاك ضدّ بلادنا، وأن نعي أنّ الوقت قد بدأ ينفد من أمامنا للقيام بإصلاحات فوريّة إذا أرادنا تجنّب الانفجار.
إنّ تهديد داعش للمغرب، أو تهديد المغرب بداعش، أمرٌ قائمٌ بدلالة أنّ بلادنا تُعدّ من بين الدول الأكثر تصديرًا للارهابيين؛ أيْ إنّها تشكّل تربةً خصبةً لإنتاج التطرّف والمتطرفين بالعنوان الدينيّ، ولإنتاج شتّى أشكال التطرّف الأخرى. وهذا أمرٌ يجب أن يثير أجهزةَ المناعة لدينا، فيحثّها على جعل محاربة جماعات التطرف والإرهاب التكفيريّ أولويّة الأولويّات، ليس فقط لدى الدولة والمؤسّسات التابعة لها، بل أيضًا لدى المجتمع بكلّ مكوّناته. هذا واجبُ الوقت كما يقال، وأمرٌ لا مناص منه، شرط أن يتمّ في إطار القانون والاحترام التامّ لحقوق الإنسان.
إنّ مواجهة التطرّف والإرهاب يجب أن تكون شاملةً، لا أمنيّةً فقط، لأنّ التطرّف ـــ المولِّد للإرهاب بالعنوان الدينيّ ـــ يقوم على عدّة أمور: فكرٍ متطرّفٍ وتأويلٍ متعسّفٍ للنصّ الدينيّ؛ وتطرّفٍ علمانيّ في ردّ الفعل؛ وعنفٍ سلطويّ مبالغٍ فيه؛ ووضعٍ اجتماعيّ واقتصاديّ هشّ؛ وعجزٍ حزبيٍّ عن تأطير المجتمع وتوعيته؛ ونقصٍ في نجاعة المجتمع المدنيّ. كما يقوم على انغلاق النظام السياسيّ: فكلّما انفتح هذا النظامُ على المزيد من المشاركة والإشراك، وكلّما جرى تجفيفُ مصادر الظلم والتمييز والتهميش، وكلّما ارتفع منسوبُ الثقة بالعمليّة السياسيّة (أيْ منسوبُ الإيمان بالديموقراطيّة) وبالمؤسّسات المنبثقة عنها، جفّ نبعُ الإرهاب.
واهمٌ مَن يظنّ أنّه سيفْلح في محاصرة التطرّف والإرهاب فيما هو ينحو في اتجاه الالتفاف على الخيار الديمقراطيّ. إنّ هزيمة التطرّف والإرهاب مرهونةٌ بقدرة الدولة والمجتمع على إقناع المغاربة بضرورة الانخراط في العمليّة السياسيّة، وإقناعهم بأنّ الديمقراطيّة تدعم الاستقرار. هذا بالضبط ما فعلتْه أوروبا حين ضربها العنفُ "اليساريّ" (الألوية الحمراء في إيطاليا، وبادر ماينهوف في ألمانيا، والعمل المباشر في فرنسا، والإيتا في إسبانيا، والجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ في إيرلاندا وبريطانيا) في السبعينيّات والثمانينيّات من القرن العشرين: لم يتراجع منسوبُ الديمقراطيّة في الغرب آنذاك بل زاد وتعمّق لأنه يشكّل أكسيرَ الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، ومن دونه تنهار كلّ قيم بناء المجتمعات السويّة.
وفي السياق المغربيّ الحاليّ، لا معنى لشعار: "الإصلاح في ظلّ الاستقرار" لأنّه شعارٌ أمنيّ بحت. وحقيقة الأمر أنّ الإصلاح (réforme) هو نقيض الإفساد (corruption)، وأنّ الاستقرار (stabilité) نقيض الفوضى (anarchie) أو الاضطراب (troubles). ومن البدهيّ أنّ المغاربة حين يخيّرون بين الإصلاح والإفساد، أو بين الاستقرار والفوضى، فسيختارون الاستقرارَ بسبب ما شاهدوه في دول "الربيع العربيّ." إذن، لا بدّ من أن يبقى شعارُ المرحلة في بلادنا هو "الإصلاح في ظلّ الانتقال إلى الديمقراطيّة."
***
إنّ بلادنا قد بدأتْ فعلًا مسلسلَ الدمقرطة؛ وهذا مسارٌ يتطلّب تفعيلَ الدستور وتأويلَه تأويلًا ديمقراطيًّا، لا تعطيلَه تحت مسمّى "عدم الدخول في نزاع مع الملك." فمهما قيل عن الدستور الجديد، فإنّه منح رئيسَ الحكومة صلاحيّاتٍ معتبرةً نأسف لعدم اضطلاعه بها بدعوى "أنّه لا يَحْكم بل الملكُ هو مَن يحكم،" وأنّه لا صلاحيّات له إلا ما تسمح به التعليماتُ الملكيّة.
المغرب