ما يميِّز الجماليّاتِ الحداثيّة عن جماليّات التقليد هو أنّ الحداثة مشروعٌ يجد متّكأَه الوجوديّ في الحاضر، وسندَه القيميَّ في الذات؛ فيما يظلّ التقليدُ مشدودًا إلى نموذجٍ معياريٍّ قَبْليّ، ومحكومًا بإملاءاتٍ ماضويّةٍ تنمحي الأنا في حضرتها. وفي حين يقيم الفنّانُ التقليديُّ علاقةً محاكاتيّةً بالمأثور الجماليّ الماضي، يحرص الفنّانُ الحداثيّ على "تقديس الجديد والتعلّق الدائب بما هو عصريٌّ وطريف،"[1] وينخرط في مشروعٍ يَقطع مع التقليد المكرَّس. ولأنّه لا يُقرّ "بوجود جمالٍ مطلقٍ وأبديٍّ ومجرّدٍ عن فاعليّة الأنا،"[2] فإنّه يرتدُّ إلى عالمه الخاصّ لتوقيع ملمحِه الإبداعيّ المائز. يقول منظِّرُ الحداثة الجماليّة شارل بودلير: "إنّ العنصر الفريد في الجمال إنّما يَلقى منبعَه في الذات، ويَصدر عن لواعجها وأهوائها. وبما أنّ لكلٍّ منّا أهواءه الخاصّة، فلكلٍّ منّا جمالُه."[3] هكذا يؤسِّس الفنّانُ الحداثيّ نسقَه الجماليَّ الجديد على الاختلاف والتقويض، معتبرًا أنّ "النموذجَ المثاليّ الذي يتعيّن احتذاؤه ليس ذلك الوهمَ المُضجِرَ والجامدَ الذي يطالعنا من الأبراج الأكاديميّة العالية. المثال، في رأيه، هو الفردُ ذاتُه من خلال إعادة تشكيله."[4]
لم يرتطم الوعيُ البصريّ المغربيّ بهذه الحداثة الجماليّة، المقوِّضة لأبراج التقليد، إلّا في نهاية الخمسينيّات من القرن المنصرم. ولم يجْرِ الانخراطُ الواعي في صيروراتها إلّا ابتداءً من سنة 1965 مع "حلقة مدرسة الفنون الجميلة" في الدار البيضاء، التي كانت تضمّ فنّانين من عيار فريد بلكاهية ومحمد شبعة وأطاع الله ومحمد حميدي ومصطفى حفيظ. وقد لعب مجموعُ هؤلاء الفنّانين، كما يقول محمد قاسمي، "دورًا مهمًّا على المستوى البيداغوجيّ (التربية البصريّة) وعلى صعيد صياغة المفاهيم الفنّيّة..."[5] يضاف إلى ذلك أنّ حلقة 65 كانت تحمل مشروعًا فكريًّا ورؤيةً جماليّةً متقدّميْن، "وكانت بوعيها الطليعيّ الحداثيّ تضطلع بإشكالاتِ حاضرِها وتنخرط في مجرياته ومساقاته."[6] ولم يكتفِ أساطينُها بالثورة على النموذج البدئيّ الأكاديميّ التشخيصيّ، الذي بلغ ذروتَه في المشهد التشكيليّ المغربيّ مع الرسّام الإسبانيّ مريانو برتوتشي، الذي اقترن اسمُه بتأسيس مدرسة الفنون الجميلة سنة 1945، ومع الرسّام الفرنسيّ جاك ماجوريل، الذي أشرف على تأسيس مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء (1952)؛ بل عملوا أيضًا على "معارضة النزوع الأبويّ للبعثات الثقافيّة الأجنبيّة التي كانت، كما يقول الفنّانُ الراحل فريد بلكاهية، تشجِّع في تلك الفترة الفنَّ الفطريَّ بصورةٍ خاصّة،"[7] وترى فيه مثالًا للبراءة والفطرة الطفوليّة الآسرتيْن. فلئن بدا حكمُ حلقة 65 على فنّانين فطريّين مغاربة، من أضراب أحمد الورديغي وإدريس اليعقوبي ومحمد الحمري وسعيد أيت يوسف، حكمًا إقصائيًّا، فلأنّ هؤلاء كانوا في نظر الحلقة جزءًا من "التركة الكولونياليّة،" وعاشوا في حضن بورجوازيّةٍ أجنبيّةٍ ذيليّةٍ فقدت الواشجةَ التي تشدّها إلى روح العصر، وباتت تنتسب إلى ثقافةٍ لاتاريخيّةٍ تفترض "أنّ العيّنات البشريّة السابقة عليها قد بادت واندثرتْ، ثمّ عندما تصطدم بإحدى تلك العيّنات تدرك أنّ لها قيمةً فتعتزم إنقاذَ ذكرها."[8] وبَيِّنٌ أيضًا أنّ تبرّمَ الحلقة من التجربة الفطريّة هو ملمحٌ من ملامح نقدها العامّ للتقليدانيّة، بلبوسها الفولكلوريّ ومنزعها الغرائبيّ. وقد اشتدّتْ حملةُ أعضائها على الفنّ الساذج مع انضمامهم إلى هيئة تحرير مجلّة أنفاس Souffles)) التي كان يُشرف عليها الشاعرُ المغربيّ عبد اللطيف اللُّعَبي، بمعيّة مصطفى النيسابوري ومحمد خير الدين وعبد الكبير الخطيبي. وعلى هذا النحو صارت الحلقة، كما يقول موليم العروسي، تمنحنا الانطباعَ "بأنّنا إزاء نظريّةٍ حقيقيّةٍ للفنّ"[9] تبغي "تطهيرَ نظرة المغربيّ وعينه وروحه" وإعدادَ ذائقته ووعيِه البصريّيْن لفتوحات الحداثة الجماليّة.
(الشاعرُ المغربيّ عبد اللطيف اللُّعَبي)
والواقع أنّ مجلة أنفاس شكّلتْ، وبخاصّةٍ قبل عددها الخامس عشر، لسانَ حال حركة الفنّانين المغاربة الجدد، ومتراسًا تحصّنوا به ضدّ الإرث الاستشراقيّ الغرائبيّ والفولكلوريّ، وضدّ المنزعيْن الجماليّيْن الأكاديميّ والفطريّ. وكانت منبرًا جَسورًا لنشر بيانات أساطين الحداثة التشكيليّة، ولتعميد نظراتهم الطلائعيّة حول إشكالاتٍ جماليّةٍ وفلسفيّةٍ مفصليّة من قبيل التجريد والتراث والتحرّر والكونيّة والهويّة. ولا جرم أنّ العدد المزدوج (7-8، 1967) قد اضطلع بدورٍ مؤثّرٍ في تكريس قيم هذه الحركة الحداثيّة الناشئة، فاق تأثيرَ بعض المطبوعات الفنّيّة التي أصدرها ممثّلو حلقة 65، مثل مطبوعة Maghreb-Art التي سهر عليها الفنّان محمد المليحي بمعيّة زوجته السابقة الناقدة الجماليّة توني مارايني وصديقه الجمّاعة والباحث الفنّيّ بيرت فلانت، أو مجلّة Intégral التي انتدبها المليحي لكي تكون صوتَ "الإبداع الفنيّ" غير أنّه لم يُقيَّضْ لها الذيوعُ أو الاستمرار.
لكنْ إذا ارتبط الجزءُ الأبلغُ أثرًا في البرتوكول الحداثيّ لحلقة 65 بالحركة الجماليّة التي تساوقتْ مع ظهور مجلة أنفاس، فإنّ الحلقة لم تسرفْ في معارضة النظام السياسيّ القائم شـأن هيئة تحرير المجلة، ولم توغل شأنها في معانقة المشروع الحداثيّ. فلقد آثرت الحلقة التجريدَ الفنّيَّ لغةً بصريّةً مخصوصةً للتعبير الجماليّ، واتّجهتْ إلى تعرية الواقع من لبوسه الفيزيقيّ الموضوعيّ من أجل القبض على ما ليس مرئيًّا.
بالطبع لم يكن المتلقّي العموميّ البسيط مؤهَّلًا لاستغوار خرائط التجريد. وهذا ما قاد الفنّانَ الراحل الجيلالي الغرباوي إلى التصريح لـمجلة أنفاس سنة 1967 قائلًا: "ما زلنا في المغرب بحاجة إلى خوض معركة لكي نفرض صباغتَنا الخاصّة (التجريديّة)، ولكي ننشئ حولها حركةً خلّاقًة، بيد أنّ هذه المعركة لا يمكن أن تكون إلّا بطيئةً لأنّ سياق العالم لا يتّسم بالديناميّة." لكنْ، لتقريب شعريّات التجريد الفنّيّ من مدارك ذلك المتلقّي العموميّ، كان روّادُ الحداثة الجماليّة في حلقة 65 ملزَمين بتأصيلها في سجلّات التراث البصريّ الأمازيغيّ والعربيّ والإسلاميّ، راسمين بذلك مسالكَ غيرَ مأنوسة لتجاوز الجدل الهوياتيّ (شرق/غرب، أنا/آخر). وقد وَجدوا في منجَز كلي وبيسيير وكاندنسكي الطريقَ الملكيَّ لعقد واشجةٍ جماليّةٍ بين التراث والحداثة، ولتبيئة الحداثة في محضنٍ محلّيّ قريبٍ من عين المتلقّي البسيط ووجدانه الجمعيّ. ولأنّ التراث نفسَه ليس سجلًّا ثقافًّيا جامدًا، بل موردٌ متلوّنٌ لا ينفكّ عن النأي عن كلّ أصلٍ ثابت، فإنّ كلّ عودة إليه تعني الشروعَ في تأويله على نمط الحاجة إليه.
***
ختامًا، لا شكّ في أنّ حلقة 65، شأنها شأن كلّ حركة حداثية، كانت تستمدّ مشروعيّتَها الجماليّة من "قطيعة الحاضر..."[10] إلّا أنّ التراث وسلطتَه الجنيالوجيّة كانا يندمغان في قلب هذا الحاضر الجماليّ المؤسِّس. ولهذا لم يشعرْ أعضاءُ الحلقة بمركب الدونيّة أو بالاستلاب أمام فتوحات الحداثة الجماليّة الغربيّة، ولا بعقدة النقص أمام التراث البصريّ الإسلاميّ والأمازيغيّ، بل نظروا إلى الحداثة في وصفها امتدادًا جماليًّا لتراثهم الشعبيّ والعالم. وتكوّن لدى معظمهم وعيٌ جماليٌّ واثقٌ بأنّ الثورة على المحاكاة والتمثيل، وعلى سائر معايير البراديغم الأكاديميّ، ليست فتحًا خارقًا من فتوحات الحداثة الغربيّة الوليدة، بل هي ثورة مركوزة في السجلّ الجماليّ التراثيّ، الذي لم يوصمْ بأنّه تقليديّ بل اعتُبر تراثًا "ثوريًّا ومستقبليًّا بآنٍ واحد" على حدّ قول محمد شبعة.[11] ولم يتحدّد مسارُ أغلب أفراد الحلقة في وصفه قطيعةً مع الماضي، بل في وصفه عبورًا من الثورة إلى التراث، ومن الحداثة إلى التقليد.
الرباط
[1] - G. Vatimo, La Société Transparente (éd Desclée de Brower, 1991), p 25.
[2] - C. Baudelaire, Curiosité Esthétiques Salon de 1845 (éd Garnier Frères, 1962), p 74.
[5] M. Kacimi, Parole Nomade, L’expérience d’un Peintre, é Al Manar, Neuilly, 1999, p 18.
[6]- محمد الشيكر، الفنّ في أفق ما بعد الحداثة، التشكيل المغربيّ نموذجًا (الرباط : منشورات جمعيّة الفكر التشكيليّ، 2014)، ص 61.
[7] - F. Belkahia, Revue Souffles, n°7-8.
[8] - عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة (صياغة جديدة)، (بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، 1995)، ص 210.
[9] - Moulim El Aroussi, Identité et Modernité dans la Peinture Marocaine (Loft Art Gallery, Crédit du Maroc, 2012), p 13.
[10] - Isabel Valverde, Moderne/ Modernité, Deux Notions dans la Critique D’art Française (éd Peter Lang, 1994), p 379.
[11] - voir M. Chabaâ, Questionnaire, Ibid.