يُكثِر بعضُ الإعلاميين، وضيوفِ القنوات التلفزيونيّة، من استعمال مفردة "إيديولوجيا" ومشتقّاتها، حتّى كادت تغدو سُبّةً شائعةً. وهذا أمرٌ يدلّ على جهلٍ كبيرٍ بمعاني هذا المصطلح العلميّ، وسياقاته.
فلقد ظُلِمَت الإيديولوجيا كنظامٍ للأفكار، بسبب السمعة السيّئة للإيديولوجيا كقناع. وكان عبد الله العروي قد خَصّص كتابًا كاملًا، قبل أكثر من ثلاثة عقود، لهذا الموضوع، وتتبّعَ فيه تقلّباتِ ترجمة مفردة "الإيديولوجيا" وتحوّلاتها في بعض اللغات الأجنبيّة (كما أنّ له كتابًا آخر حول الإيديولوجيا العربيّة بالذات). ولتوضيح بعض جوانب هذا الموضوع، سأطرح مجموعةً من التعريفات النظريّة والسياقات التاريخيّة الخاصّة به، معتمدًا بشكلٍ رئيسٍ على ما وردَ في كتاب العروي لأنّه يبقى الأهمّ والأعمق في موضوعه على الرغم من قِدمه النسبيّ.
ــــ ففي السياق اللغويّ، نجد أنّ كلمة "الإيديولوجيا،" التي كانت تعني بالفرنسيّة أصلًا: علمَ الأفكار/ علمَ تنظيم الأفكار/ علمَ دراسة الأفكار، لم تحتفظ بمعناها اللغويّ هذا في فرنسا نفسها؛ فقد ضمّها الألمانُ إلى لغتهم، فسادَ "المعنى الألمانيُّ" غيرُ المحايد، والسلبيُّ على ما سيكتسب شكلُه النهائيُّ لاحقًا، وأصبحت الكلمة "دخيلةً" مضمونيًّا في لغتها الأصليّة نفسها.
ــــ إنّ المعاني التي ترادف كلمة "الإيديولوجيا" ــــ ومنها: المنظومة الفكريّة، العقيدة، الذهنيّة ــــ تشير إلى معنًى واحدٍ من بين معانيها العديدة التي لا يمكن ضبطُها إلّا من خلال دراساتٍ تحليليّة معقّدة.
ــــ في السرديّة التراثيّة العربيّة الإسلاميّة، أدّت لفظةٌ أخرى، هي "الدعوة،" دورًا محوريًّا مشابهًا لدور مفردة "إيديولوجيا" اليوم. ويمكن أن نضيف أنّ كلمة "عقيدة" ربّما أدّت دورًا أعمقَ من "الدعوة،" وأكثرَ شبهًا بالإيديولوجيا كقناع. وهذا الأمر عبّر عنه أحدُ الفاعلين في السرديّة التراثيّة، هو الإمام أبو حامد الغزالي، الذي قال: "العقيدة حجاب،" وقال أيضًا: "إن المُقلِّدَ لا يصغي." وقد يعني أنّ المقلِّد لا يفكِّر، بل يسمع ويصدِّق ما يقوله له المُصغَى إليه. ومن العجيب أن نجد هذا المفهومَ، بشكلٍ شبهِ حرفيٍّ، لدى ماركس الذي كتب ــــ كما ينقل لنا العروي ــــ أنّ "مفهوم الإيديولوجيا، كمجموعة أوهام، تُعتم العقلَ، وتَحْجبه عن إدراك الواقع والحقيقة."(1)
ولكنْ إذ يركّز الغزالي اهتمامَه على نفسانيّة الداعية، "المؤدلِج والمؤدلَج،" في وصفه أداةً طيّعةً في يد الشيطان الذي يُفسدُها، ولا أمل في إصلاحها إلّا بتدّخلٍ ربّانيّ، فإنّ ماركس يَعتبر الإيديولوجيا نتاجًا لشرطها التاريخيّ ولمستوى الحياة وللأساس الماديّ لهذا المستوى، ولا يمكن الإصلاحُ ــــ عند ماركس ــــ إلّا بتغيير ذلك الشرط وهذا الأساس.
ومن المعاني السياقيّة للإيديولوجيا (أو "الأدلوجة" بحسب مصطلح العروي):
أ ــــ إيديولوجيا عصر النهضة الأوروبيّة، وهي النظرة التي كان الفلاسفةُ والمفكّرون آنذاك يُلْقونها على الكون والمجتمع والفرد، ويندرج بموجب قواعدها كلُّ تقريرٍ أو حُكمٍ صدر في ذلك العصر.
ب ــــ إيديولوجيا كلّ عصر هي الأفقُ الذهنيّ الذي يحدِّد فكرَ إنسانِ ذلك العصر.
ج ــــ الماركسيّة تختلف عن غيرها من المذاهب لأنّها تقدِّم لنا نظريّةً عن الإيديولوجيا؛ نظريّةً تفسِّر وتفكِّك لنا الإيديولوجيا من داخلها. ويقترح العروي إطلاق اسم "أدلوجياء" على التفسير الماركسي للإيديولوجيا؛ وأعتقد أنّه يقصد ما يمكن أن نطلق عليه "إيديولوجيا الإيديولوجيّات." وهذه النظريّة الماركسيّة عن الإيديولوجيا تحاول أن تفكَّ طلاسمَ الإيديولوجيا ضمن سياقاتها التاريخيّة، من دون أن يعني ذلك أنّ الإيديولوجيا الماركسيّة نفسَها في منأًى عن النقد، لكونها إيديولوجيا ينطبق عليها ما ينطبقُ على غيرها من النواحي الاستعماليّة. وتحاول هذه النظريّة الماركسيّة الخاصّة بالإيديولوجيّات الإجابةَ عن السؤال التالي: ما هي الأسباب التي جعلت الفكرَ الإنسانيَّ يرى الأشياءَ والظواهرَ طبقًا لمزاعمه، لا طبقًا لذاتها؟
هذا السؤال سيشتغل عليه، لاحقًا، المفكّرُ الماركسيّ أنطونيو غرامشي، حين حاول الإجابة عن السؤال "ما الفرق بين العلم اليقينيّ والإيديولوجيا؟" محاولًا تفسيرَ النسبيّة التي تُوصف بها علومُ الاجتماعيّات كافّةً، بعكس العلوم التجريبيّة المبرهَن عليها مختبريًّا.
ثمّة مثالٌ يورده العروي في كتابه قد يوضح المقصودَ هنا: "قال ماركس: إنّ المجتمع البرجوازيّ موجود كمفهوم علميّ قبل أن يبدأ العلمُ نفسُه في وصف نشأته كنظام إنتاجٍ متكامل." (ص 82) ولكنّ الاقتصاديين يستعملون المفاهيمَ الفكريّة البرجوازيّة لتحليلِ ما قبل الرأسماليّة، ويعتبرونها مفاهيمَ مطلقةً غيرَ مقيَّدة بظرفٍ تاريخيّ. وهذه الغفلة هي التي تَقْلب العلمَ الاجتماعيّ البرجوازيّ إلى إيديولوجيا بالمعنى الألمانيّ للكلمة، أيْ في وصفها وعيًا زائفًا وقاصرًا ومنحازًا.
د ــــ من المعاني السلبيّة للإيديولوجيا قولُنا: "فلان ينظر إلى الأمور نظرةً إيديولوجيّة،" أي انتقائيّة، بهدف إظهارها مطابقةً لما يعتقد أنّه الحقّ. أمّا العلماء والباحثون التجريبيون، كالفيزيائيين والكيميائيين، فينظرون إلى الإيديولوجيا بامتعاضٍ كبير لأنّهم يعتقدون أنّ الارتباط بمعتقداتٍ مسبَّقة، غيرِ مبنيّةٍ على تجربة شخصيّةٍ مبرهنٍ عليها، نوعٌ من "المراهقة الفكريّة".
مجالات الإيديولوجيا
يشرح العروي لنا أنّ للإيديولوجيا أربعةَ مجالات استعماليّة هي:
1 ــــ مجال المناظرة السياسيّة. هنا تكتسب الإيديولوجيا صبغةً سلبيّةً أو إيجابيّةً بحسب هويّة المستعمِل ("إيديولوجيّتي صحيحة متسامية، تعبِّر عن الوفاء والتضحية، وإيديولوجيّتك خاطئة لأنّها قناع تتستّر وراءه نوايا لاواعية..."). الإيديولوجيا هنا نسبيّة، وهي قناع من الناحية الوظيفيّة.
2 ــــ مجال المجتمع في طورٍ من أطواره التاريخيّة. بمعنى أنّنا نفهم المجتمع، في ذاك الحين، كيانًا واحدًا، يتّفق جميعُ أفراده في الولاء لقيمٍ اجتماعيّةٍ مشتركة، ويستعملون منطقًا واحدًا. فلو درسنا مثلًا إيديولوجيّةَ الخوارج في المجتمع الخارجيّ، فسنبحث في إيديولوجيّة ذلك العصر التي تحكّمتْ في أذهان الخوارج وأذهان أعدائهم، وجعلتهم يهتمّون بمشكلاتٍ محدّدة وأسئلةٍ معيّنة. هنا سيتمّ استخراجُ إيديولوجيّة الخوارج بتأويل أعمالهم السياسيّة والأدبيّة وفهمها. وهذه وظيفة علميّة مهمّة جدًّا، لا يمكن اعتبارُها سلبيّةً بدءًا ومنتهى.
3 ــــ مجال الكائن، أيْ كائن الإنسان المتعامل مع محيطه الطبيعيّ. وهنا أيضًا يمكن اعتبارُ هذه الوظيفة علميّة ومهمّة جدًّا، ولا يمكن اعتبارُها سلبيّةً بالمعنى الشائع للإيديولوجيا.
4 ــــ المجال المشترك بين المجالات الثلاثة السابقة. وهذا يتمّ حين ندرس تأثيرَ أيّة إيديولوجيا في الفكر، ما يعني البحثَ في الحدود الموضوعيّة التي ترسم أفقَه: حدودِ الانتماء إلى الإيديولوجيا، وحدودِ الطور التاريخيّ الذي يمرّ فيه المجتمع، وحدودِ الإنسان في محيطه الطبيعيّ.
وهذه الوظيفة البحثيّة مهمّةٌ هي الأخرى، إذ لا يمكن أن نتصوّر أيّ وجود للعلوم الإنسانيّة "انطلاقًا من الخبرة الحدسيّة،" بحسب الفيلسوف هوسرل.
أمّا في ميدان دراسة الإيديولوجيا نفسها، فتتطلّب مستوييْن بحثيّيْن: مستوًى وصفيًّا، يصف فيه الباحثُ، بدقّةٍ وأمانةٍ، الإيديولوجيا كما تصف نفسَها؛ ومستوًى نقديًّا، يدرس فيه الباحثُ الإيديولوجيا لا من حيث وصفُها الواقعَ على وجهه الصحيح، بل من حيث إنّها تعكس تصوّراتِها هي عنه.
من حيث الماهيّة
يمكن تلخيصُ أهمّ معاني الأيديولوجيا ــــ التي استعرضها العروي في كتابه ــــ على هذا الشكل:
1 ــــ الإيديولوجيا تعني القناعَ والتفكيرَ الوهميّ إذا استُعملَت لتحليل قضايا المجتمع ودراستها لأنّها ذاتُ طبيعة نسبيّة: فهي صحيحة في نظر حاملها، وخطأٌ في نظر غيره. بهذا المعنى تكون الإيديولوجيا وعيًا زائفًا للذات؛ أيْ وعيًا يعبِّر عن رؤية الذات بغضّ النظر عن صحّتها. وقد نظر ماركس إلى الإيديولوجيا على أنّها "التفكير غير العقلانيّ غير النقديّ الموروث من عهد الاستبداد،" فأخذ بهذا المفهوم ــــ وهو كان السائدَ في الأوساط الاشتراكيّة الفرنسيّة ــــ وترك مفهومَ الإيديولوجيا القادم مباشرةً من عصر النهضة.
2 ــــ الإيديولوجيا تعني رؤيةً كونيّةً حين تتصدّى لدراسة الكون بهدف إدراكه، وتقديم رؤية أو نظريّة تاريخيّة.
3 ــــ الإيديولوجيا تعني التفكيرَ الآنيَّ الموقّت لتقديم نظريّة جدليّة خاصة بالمعرفة والكائن. وهنا يمكن أن تكون الإيديولوجيا ذاتُها موضوعًا للدراسة.
جنيف
(1) عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا (الدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربيّ، 1980)، ص 30.