صحافي وناشط يساريّ من تونس.
اندلع السجالُ مؤخّرًا بين التونسيين إثرَ إصدار مجلس وزراء الداخليّة العرب، المنعقدِ في تونس، وبموافقةٍ تونسيّةٍ رسميّة، بيانًا(1) وَصف فيه حزبَ الله بـ"الإرهابيّ." وقد مثّل هذا الموقفُ صدمةً للعديدين، بمن فيهم بعضُ أنصار السلطة الحاكمة التي يهيمن عليها تحالفُ اليمينَيْن، الحداثيّ والدينيّ، الممثّليْن في حركتَي"النهضة" و"نداء تونس" ــــ وهو موقفٌ لا يشير إلى مدى التزام السلطة بخدمة أجندة رعاتهاالغربيين فحسب، بل إلى مدى استعدادها أيضًا لمحاباة أنظمة الخليج استجداءً لهِباتٍ ماليّةٍ قد تساعدها في مواجهة الأوضاع الاجتماعيّة المتفاقمة. المفارقة أنّ أغلب المدافعين عن قرار السلطة كانوا من أنصار "النهضة" ("الإسلاميّة")، فيما كان أغلبُ المندّدين به من أنصار اليسار والعَلمانيين. وهذا الجدال يمثّل فرصةً لفهم أسباب انقسام الناس، في تونس والعالم العربيّ، حول حزب الله، الذي كانت الإشادةُ به محلَّ إجماعٍ واسعٍ قبل خمس سنوات.
لا يَفهم مناوئو حزب الله في تونس كيف يدافع عنه طيفٌ واسعٌ من اليساريين والقوميين والليبراليين الوطنيين (المعادين للصهيونيّة)، وينْكرون عليهم ذلك، مذكّرين إيّاهم بـ"جرائم حزب الله في سوريا،" وبـ"طائفيّته،" وبـ"عقيدته الرجعيّة" (ولاية الفقيه)، وبـ"تحالفه مع نظامين استبداديّين في إيران وسوريا." ويتوزّع المناوئون في ثلاثة أصناف، فإذا هم: "حداثويّون" يعادون حزبَ الله فقط لأنّه حزبٌ دينيّ؛ وليبراليّون (من وسط اليسار أو اليمين) مازالوا يروْن أنّ ما يحدث في سوريا "ثورةٌ شعبيّةٌ من أجل الديمقراطيّة"؛ و"إخوانيّون" انتهى بهم استهلاكُهم السطحيُّ للدعاية الخليجيّة المكثّفة إلى مقاربة الصراع في سوريا والمشرق على أنّه صراعٌ سنّيّ ـــ شيعيّ.
أمّا أغلبُ مَن يدافعون اليوم عن حزب الله فهم يختلفون معه إيديولوجيًّا بشكلٍ حادّ؛ فأسبابُ دفاعهم عنه في وجه الأنظمة العربيّة المناهضة له لا تعني تبنّيًا لجميع موافقه، ولا تتّصل بخلفيّته العقائديّة، بل تقوم على قراءةٍ جيوستراتيجيّة تمنعهم من تقويم أدائه من زاويةٍ "أخلاقويّة" أو "ديمقراطويّة" سطحيّة. وفيما يأتي محاولة لشرح هذه القراءة.
كيف وصلنا إلى هنا؟
أفسح غيابُ دول عربيّة كبيرة (تحديدًا مصر والعراق والجزائر)، أو على الأقلّ ضعفُها، المجالَ أمام تطوّريْن في السنوات الأخيرة: تغييب أولويّة الصراع مع الكيان الصهيونيّ، وقيام محاور إقليميّة جديدة متصارعةهي:
1- المحور التركيّ ـــ القطريّ ـــ الإخوانيّ.
2- المحور السعوديّ ـــ الإماراتيّ ـــ الإسرائيليّ (خلف الكواليس) ـــ النُخب الحاكمة ما قبل الثورات.
3- المحور الإيرانيّ ـــ السوريّ ـــ العراقيّ ـــ حزب الله.
تتصارع الدولُ الأكبر في هذه المحاور (أيْ تركيا والسعوديّة وإيران) من أجل الهيمنة على المنطقة. وتمْكن ملاحظة فارقٍ جوهريٍّ بين تركيا وإيران من جهة، وهما تمثّلان مشروعَ نهضة قوميّة حقيقيّة بغضّ النظر عمّا فيه من عيوب ومخاطر على العرب، والسعوديّة من الجهة الأخرى حيث يَحكم نظامٌ يستمدّ أسبابَ بقائه من اقتصادٍ ريعيٍّ غيرِ منتج ومن تبعيّته المطلقة للغرب. أما الأنظمة الأصغر فتسعى إلى تحسين وضعها (قطر والإمارات)، أو إلى الدفاع عن وجودها (سوريا). ويتميّز المحوران 1 و2 بأنّهما يتنافسان على موقع "حليف أميركا الأوثق" في المنطقة.
أفرزتْ تطوّراتُ السنوات الأخيرة (خصوصًا منذ بداية الحَراك الشعبيّ العربيّ أواخرَ العام 2010) تشكُّلَ محور تركيا ـــ قطر. فقد رأت هاتان الدولتان، بإيعازٍ من الأمريكان، في الحركات الإخوانيّة المتعطّشةِ إلى السلطة منذ عقود، في تونس ومصر واليمن وسوريا وغيرها، قوًى سياسيّةً يمكن التعويلُ عليها لتعزيز نفوذِهما الإقليميّ، مقابل دعمهما لها في صراعها مع بقيّة القوى المحلّيّة.
أمّا الأميركان (الحزب الديمقراطيّ تحديدًا)، فقد استنتجوا من تجربتَي العراق وأفغانستان أنّ خيارَ تغيير الأنظمة بالقوّة ـــ وكان بوش الابنُ قد جرّبه ـــ مكلفٌ جدًّا وغيرُ مضمون. ولذلك رأوْا في تحويل مجرى نقمة الشعوب على الأنظمة الاستبداديّة الفاسدة فرصةً لتنفيذ أجندتهم بكلفة أقلّ، وبأيادٍ محلّيّةٍ ذاتِ قبولٍ اجتماعيٍّ أكبر. وكان من الطبيعيّ أن يروْا في الحركات الإخوانيّة الطرفَ الأقدرَ على الوصول إلى الحكم عبر صناديق الانتخابات، بحكم خصائصها التنظيميّة، وضعفِ التجربة الديمقراطيّة لشعوب منطقتنا؛ كما رأوْا فيها الطرفَ الأنسبَ لخدمة مصالحهم، بسبب ضعف حرصها على السيادة الوطنيّة بحكم تركيبتها الطبقيّة الهجينة وتبنّيها فكرًا اقتصاديًّا محافظًا يؤدّي بالضرورة إلى التبعيّة، ولأنّ "شرعيّتها الانتخابيّة" ستسمح لها بتمرير سياسات نيوليبراليّة أكثر جرأةً وفتكًا بمصالح الشعوب وبسيادة الأقطار العربيّة ووحدتِها. لذلك عملت القوى الغربيّةُ منذ البداية على احتواء الانتفاضات الشعبيّة، عبر تكبيلها بالقروض، وإفسادِ المجتمع المدنيّ وربطِه بها، وربّما كذلك عبر دعمها الخفيّ للحركات الإرهابيّة التي ساعدتْ على إضعاف بلدان "الربيع العربيّ" اقتصاديًّا وأمنيًّا؛ أيْ، باختصار، عبر فرض "ديمقراطيّةٍ ليبراليّة" أفرزت القوى اليمينيّة ذاتَ التمويلِ الأكبر والخطابِ الأكثر سطحيّةً وديماغوجيّة.
أمّا السعوديّون والإماراتيّون والإسرائيليّون فيشتركون في خوفهم من نجاح الانتفاضات العربيّة، ومن تحوّلها إلى ثوراتٍ تبني ديمقراطيّاتٍ حقيقيّةً قد تفرز أنظمةً شعبيّةً تحقّق العدالةَ الاجتماعيّة والسيادةَ الوطنيّة والوحدةَ القوميّة. لذلك بادروا منذ البداية إلى معاداتها ومحاصرتها وعرقلتها بشتّى الوسائل. وكان من الطبيعيّ أن يختاروا التحالفَ، في تونس ومصر واليمن في مرحلةٍ أولى، مع "النخب" المرتبطة بالأنظمة التي ثارت عليها الشعوبُ، وهي نخبٌ حاولتْ أن تعيد تشكيلَ نفسها من أجل العودة إلى السلطة من خلال "المسار الديمقراطيّ." بناء على ما تقدمّ، نفهم لماذا كان التنافسُ على أشُدِّهِ خلال الفترة 2011 ـــ 2013 بين المحوريْن 1 و2، وبين حلفاء كلٍّ منهما في تونس ومصر واليمن وليبيا.
بالتوازي مع ذلك، اندلعت انتفاضةُ الشعب السوريّ في سياق انتفاضات بقيّة الشعوب العربيّة. فانتهجتْ دولتا المحور1 (تركيا وقطر) السياسة نفسَها، فساندتا القوى الإخوانيّة؛ لكنْ لم يكن ممكنًا بالنسبة إلى دول المحور 2 ـــ وخصوصًا السعوديّة ـــأن تساند النظامَ السوريّ، أسوةً بمساندتها للأنظمة القائمة في الساحات الأخرى، بسبب اشتباه آل سعود في أنّه حرمهم رفيق الحريري، أخلصَ حلفائهم في لبنان، وبسبب تحالف النظام السوريّ مع إيران، عدوّهمِ الإقليميِّ اللدود. لذلك انحصر التنافسُ في سوريا بين المحورين 1 و2 على دعم قوًى عسكريّةٍ تتنافس على إسقاط نظام الأسد.
في الأثناء، حصل تطوّران خطيران شبهُ متزامنيْن: الأوّل في مصر، وتمثّل في إسقاط حليف المحور 2 (السيسي) لحلفاء المحور1 (الإخوان). أمّا الثاني فكان دخولَ حزب الله الحربَ في سوريا، ونجاحَه في قلب اتّجاه الأحداث لصالح النظام السوريّ انطلاقًا من الانتصار الاستراتيجيّ في بلدة القصير.
زاد التطوّرُ الأوّلُ في مصر من ضعف المحور القطريّ ـــ التركيّ أمام المحور السعوديّ ـــ الإماراتيّ، ما اضطرّ حلفاءَه في تونس إلى البحث عن توافقٍ مع خصومهم خشية تكرّر السيناريو المصريّ. أمّا التطوّر الثاني في سوريا فعزّز تحالفَ هذيْن المحوريْن ضدّ المحور 3 بزعامة إيران. واليوم، وبحكم تعزّز تحالف المحوريْن 1 و2 في سوريا، وكذلك في اليمن، وبالنظر إلى توافق حليفيْهما في تونس ("النهضة" و"النداء")، كان طبيعيًّا أن تُصدر السلطةُ التي يشترك فيها الأخيران هذا الموقفَ السلبيَّ من حزب الله.
لمَ الدفاع عن حزب الله اليوم؟
من نافل القول إنّ الدفاع عن حزب الله لا يعني تبنّيًا لطروحاته أو مرجعيّاته الإيديولوجيّة، بل هو دفاعٌ يندرج في باب "أخفّ الأضرار" على المصلحة القوميّة العليا. ندافع اليومَ عن حزب الله لأنّه لم يعد ممكنًا وصفُ ما يجري في سوريا بأنّه "ثورة شعبيّة من أجل الديمقراطيّة": فقد اختُطِفت انتفاضةُ الشعب السوريّ منذ وقتٍ طويل، وأدّى غيابُ قوًى ديمقراطيّة ووطنيّة مسلّحة ووازنة إلى هيمنة قوًى يمينيّة (أساسًا "داعش" وجبهة النصرة) تابعةٍ للمحوريْن 1 و2 على الحَراك المعارضِ للنظام. وكان واضحًا منذ البداية أنّ هذه القوى (بما في ذلك "الجيشُ السوريّ الحرّ" والمثقّفون الليبراليون) تستبطن العداءَ لحزب الله، ولا تنوي المحافظة على علاقاته المميّزة بنظام الأسد. وعليه، لم تكن لحزب الله، الذي واجه العديدَ من المؤامرات في السنوات الأخيرة للإبقاء على سلاحه المقاوم في لبنان، خياراتٌ كثيرةٌ تجاه ما يجري في سوريا. لقد كان مكرَهًا على التدخّل هناك، لا لحماية حليفِه الذي كان يؤمّن له وصولَ الأسلحة من إيران وحسب، بل كذلك لتوجيه "ضربةٍ استباقيّةٍ" إلى القوى التكفيريّة ـــ المموَّلةِ خليجيًّا والمدعومةِ إسرائيليًّا ـــ قبل أن تحاصرَه في لبنان.
نعم، لا يمْكن عاقلًا أن ينفي أنّ حزبَ الله متحالفٌ اليومَ مع أحد أبشع الأنظمة على وجه الأرض، ولا أن ينفيَ باطمئنانٍ تامٍّ تورّطَه في جرائمِ حربٍ في سوريا. لكنّ من السخافة بمكان أن يُغمضَ "أنصارُ الثورة السوريّة" في تونس أعينَهم عن حقيقة أنّ مَن يحاربون حزبَ الله في سوريا، ومَن يدعمونهم، لا يقلّون بشاعةً عنه وعن نظام الأسد. إذنْ، بسقوط "التفوّق الأخلاقيّ" من كلتا الجهتيْن، يبقى فارقٌ جوهريٌّ آخر بين طرفَي الصراع في سوريّا: أنّ الأوّل (حزبَ الله وحلفاءه) عدوٌّ حقيقيٌّ وجِدّيٌّ لإسرائيل.
هذا الفارق الجيوستراتيجيّ الجوهريّ (العداء لإسرائيل) ليس هيّنًا بالنسبة إلى أيّ نفَسٍ يساريّ أو ديمقراطيّ وطنيّ في العالم العربيّ. ولا يمكن أن يقلِّلَ مِن شأنه أو يتجاهلَه سوى مَن يقارِبُ السياسةَ من زاويةٍ مذهبيّةٍ متعصّبة، أو مَن يحمل رؤيةً أخلاقويّةً ساذجةً تُغفل ما في المشهد العامّ من شموليّةٍ وتعقيد؛ فكلاهما لا يدرك أنّ الكيانَ الصهيونيّ كان وما يزال العائقَ الأكبرَ والأخطرَــــــــ إضافةً إلى الأنظمة الرجعيّة في الخليج ـــــــ على نجاح مسارات بناء الديمقراطيّة الشعبيّة القائمة على العدالة الاجتماعيّة والسيادة الوطنيّة والوحدة العربيّة. ومن هنا سيكون طبيعيًّا أن ندافع عن القوّة العسكريّة العربيّة الوحيدة التي نجحتْ في تهديد أمن الكيان لأنّها تمثّل احتياطيًّا دفاعيًّا لصالح أيّ بلدٍ عربيّ قد تنجح فيه الثورةُ مستقبلًا.
أخيرًا، من البداهة أن نضيفَ أنّ الحرجَ الأخلاقيّ الذي نشعر به، كيساريّين عرب، حيال هذا النوع من المواقف يعود في الأساس إلى عجزنا، الذي يفسح المجالَ للحركات اليمينيّة كي تتصدّر المشهد، ويجعلنا ملاحقين للأحداث، نحاول صياغة مواقفنا حيالها من موقع التابع لا المبادر. لذلك لا خيار لليسار الوطنيّ والاجتماعيّ في العالم العربيّ من بناء نفسه بديلًا استراتيجيًّا مكتملَ الشروط ــــــ بما في ذلك في الجانبيْن الأمنيّ والعسكريّ إنْ لزم الأمر ــــ ــقادرًا على تجسيد طموحات شعوبنا في التحرّر الديمقراطي والاجتماعيّ والوطنيّ.
تونس
صحافي وناشط يساريّ من تونس.