بايدن أم ترامب؟ التناقضات في صُلب الإمبرياليّة وانعكاساتها علينا
15-12-2020

 

بمناسبة الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة الأخيرة، تَجدّد الجدالُ في معرفة أيّهما "أفضل" (أو "أقلّ سوءًا") لشعوبنا في المنطقة العربيّة: الحزب الديمقراطيّ أم الجمهوريّ؟

ففي حين أملَتْ بعضُ الأنظمة العربيّة الرجعيّة في انتصار ترامب، منّى البعضُ الآخر نفسَه بعودة الحزب الديمقراطيّ إلى سدّة الحكم. وبينما كانت بعضُ "النخَب" في مجالات الإعلام والسياسة والاقتصاد و"المجتمع المدنيّ" تراقب وتحلّل بحماس، اتّسمت مواقفُ أغلب الناس في بلادنا بلامبالاةٍ ذاتِ نبرةٍ تشكيكيّةٍ ساخرة، ولسانُ حالهم: لا يهمُّنا مَن سيفوز بـ"شرف" مواصلة اضطهادنا ونهبِ ثرواتنا ودعمِ العدوّ الصهيونيّ خلال السنين الأربع القادمة.

تَعْرف الشعوبُ، بحسِّها السليم، وبما راكمتْه من تجربة، أنْ لا خيرَ يُرجى من الإمبرياليّة. لكنْ سيكون مفيدًا تعميقُ ذلك بفهمٍ واضحٍ للتناقضات التي تشقّ إمبرياليّةَ عصرنا، ثمّ استقراءُ انعكاساتِ هذه التناقضات على منطقتنا.
 

إمبرياليّةُ عصرنا
بدايةً، تجب الإشارةُ إلى طبيعة العصر الذي نعيشه: إنّها، على حدّ وصف سمير أمين، "مرحلةُ رأسماليّةِ الاحتكاريّة العوْلميّة المُعَمَّمَة."[1] وهذه مرحلةٌ جديدةٌ من عصر الإمبرياليّة، من أهمّ أُسُسِها تجاوزُ الاحتكارات حدودَ الدول القوميّة، واعتمادُ البرجوازيّاتِ الاحتكاريّةِ الغربيّة - أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى - على نهب شعوب الجنوب من خلالها تقييدِها من جهتين:

- الأولى عبر التحكّم في آليّات التمويل المشروط (تبعيّة المصدر).

- والثانية من خلال سيطرتها على السوق الاحتكاريّة التي تُلزِم بلدانَ الجنوب "التصديرَ" إليها بحسب معاييرها (تبعيّة المصبّ).

ومن مميّزات المرحلة الراهنة من الإمبرياليّة، بحسب المفكّر الشيوعيّ الهنديّ براهبات باتنايك،[2] أنّ الصراعَ الذي يشقّ برجوازيّاتِ المراكز الإمبرياليّة لم يعد متطابقًا مع حدود دولها القوميّة كما كانت الحالُ خلال الحربيْن العالميّتيْن. فوقتَها، كان في مقدور التنافس بين مختلف الاحتكارات الأوروبيّة على ثروات الجنوب أن يُفْضي إلى حروبٍ طاحنةٍ تنتهي باتفاقيّات تقسيمٍ وخرائطَ جديدةٍ للمُستعمَرات. أمّا اليوم، وعلى الرغم من استمرار أهمّيّة إطار "الدولة القوميّة" راعيةً لمصالح البرجوازيّات، فقد طرأ تغييرٌ جوهريّ: صارت البرجوازيّاتُ ذاتَ طابعٍ دوليٍّ مُعوْلَم؛ أيْ إنّ النخَبَ البرجوازيّة الناهبة باتت عابرةً للقوميّات أو متعدّدةَ الجنسيّات، بمعنى أنّها اتّسعتْ أفقيًّا كطبقةٍ لتضمّ برجوازيّين من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان أساسًا (أو "الثالوث" كما يصفه أمين)، وتمارس النهبَ بشكلٍ جماعيّ. وهذا يعني تراجُعَ فرص اندلاع الحروب بين دول المركز، ووضْعَ قواعدَ تَضْمن التنافسَ "السلميَّ الحرّ" بينها على ثروات الجنوب. وقد عُهد إلى مؤسّساتٍ دوليّةٍ ثلاث، هي البنكُ الدوليّ وصندوقُ النقد الدوليّ ومنظّمةُ التجارة العالميّة، بتأطير هذا التنافس. بعبارةٍ أخرى، بات التناقضُ داخل هذه "الإمبرياليّة السائدة" أفقيًّا أكثرَ منه عموديًّا، أيْ ثانويًّا لا أساسيًّا.

بناءً على ذلك، لم يَعُد الصراعُ الذي يشقّ البرجوازيّاتِ الاحتكاريّةَ المُعوْلَمة في علاقته ببلدان الجنوب، وبمنطقتنا خصوصًا، يدورُ حول الاستئثار بنهب ثرواتنا، بل على أنجع السُبُل لاستمرار هذا النهب الجماعيّ من جهة؛ ولصدّ البرجوازيّات العالميّة المنافسة التي مازال التناقضُ معها أساسيًّا (وأعني الإمبرياليّتين الصاعدتيْن الروسيّة والصينيّة) من جهةٍ ثانية؛ ولصدّ برجوازيّاتٍ أصغرَ تبحث عن تموْقعٍ أفضلَ في التقسيم الدوليّ للعمل (كالبورجوازيّة الإيرانيّة والتركيّة في إقليمنا، أو البرازيليّة في أمريكا اللاتينيّة، أو الجنوبأفريقيّة في أفريقيا) من جهةٍ ثالثة.

 

الإمبرياليّة "الناعمة" مقابل الإمبرياليّة "الغاشمة"

يتكوّن التناقضُ داخل البرجوازيّة الإمبرياليّة السائدة من طرفيْن رئيسيْن:

- الأوّل يضمّ، أساسًا، شركاتِ السلاح والطاقة والمناجم. وهو يُفضِّل دعمَ الديكتاتوريّات المتخلّفة، بحثًا عن أعلى درجات "الاستقرار" الداخليّ، من أجل ضمان استمرار أرباحه.

- والثاني يضمّ، أساسًا، الأوليغارشيّةَ الماليّة، من بنوكٍ وشركاتِ تأمينٍ وتوزيعٍ تجاريٍّ وتكنولوجيا المعلومات وغيرها. وهذا الطرف يدفع نحو إرساء "ديمقراطيّاتٍ" ليبراليّةٍ زائفة، تسمح بـ"انتخاب" برجوازيّاتٍ محلّيّةٍ كمبرادوريّة في بلدان الأطراف، تُوقِّعُ له على ما يريدُه من قوانينَ واتفاقيّاتِ قروض.

على المستوى السياسيّ/الإعلاميّ، عَبّر عن الفريق الأوّل سياسيّون ورأسماليّون من أنصار نهج "السيطرة الغاشمة،" ومن أبرزهم: دونالد ترامب، وجورج بوش الأب والابن، وروبرت مردوخ، وساركوزي. أمّا الفريق الثاني فيعبِّر عنه أنصارُ نهج "السيطرة الناعمة،" ومن أبرزهم: باراك أوباما، وجورج سوروس، وفرانسوا أولاند، وأنجيلا ميركل. في السياسات الداخليّة يتميّز أنصارُ النهج الأوّل باعتناقهم قيمًا ثقافيّةً ودينيّةً محافظةً، منسجمةً مع توقهم إلى العودة إلى إمبرياليّةِ ما قبل العولمة في السياسات الدوليّة؛ في حين يميل أنصارُ النهج الثاني إلى تبنّي قيم ثقافيّةٍ ودينيّةٍ ليبراليّة منسجمة مع تبشيرهم بـ"المجتمع المفتوح" و"الكوسموبوليتيّة."[3]

تجدر الملاحظةُ أنّ هذا التوجّه التوافقيّ بين الإمبرياليّات المسيطرة عالميًّا (بقيادة أمريكا وأوروبا الغربيّة واليابان) يتماسك أكثر كلّما وصل الحزبُ الديمقراطيُّ إلى الحكم في واشنطن، ويَفْتر كلّما حلّ الجمهوريّون مكانَه. ففي حين يُولي الديمقراطيّون تعزيزَ العلاقات الأطلسيّة مع شركائهم الأوروبيّين اهتمامًا أكبر، يميل الجمهوريّون إلى التفرّد في إدارة الملفّات الدوليّة، لا سيّما ما يتّصل بمنطقتنا.

وعليه، يُلاحَظ أنّه كلّما مالت الكفّةُ في هذا التناقض داخل البرجوازيّة الإمبرياليّة المُعوْلَمة السائدة إلى شِقّ "السيطرة الناعمة،" تعزّزت المنظّماتُ والاتفاقيّاتُ ذاتُ الطبيعة الدوليّة، وتناقص التوتّرُ بين أقطابها، فمالت إلى تنسيق تدخّلاتها في العالم، سواءٌ بشكلٍ مباشر، أو عبر وكلائها الإقليميّين (تُمكن، مثلًا، ملاحظةُ علاقات الأوروبيّين بالأمريكان في ليبيا وسوريا وإيران، ومقارنتُها بين عهديْ أوباما وترامب). كما أنّ وسائلَها في محاصرة الدول المتمرّدة تميل نحو العقوبات الاقتصاديّة، لكنْ مع ربطها بمسائل "حقوق الإنسان" و"دعم الديمقراطيّة"؛ ويجري التركيزُ على أدوات الهيمنة الثقافيّة من خلال دعم "المجتمع المدنيّ" الليبراليّ الساعي إلى فرض أولويّات من نوع: محاربة الفساد، والاندماج في الاقتصاد العالميّ، ومسائل الأقليّات، وغيرها في إطار "الانتقال الديمقراطيّ." كما أنّ الصراع مع القوى الإمبرياليّة الصاعدة يأخذ أبعادًا أقلَّ عسكرة، بحيث يجري احتواءُ هذه القوى عبر دمجها بشكلٍ متزايدٍ في الاقتصاد الليبراليّ المعولم، والتعويل على أن يؤثّر هذا الاندماجُ في النخب المحلّيّة فيُضعفَ عداءها لـ"الغرب" بل يدفعَها إلى التمرّد على أنظمتها بشعاراتٍ "ديمقراطيّةٍ" ليبراليّة (وهو ما رأينا نتائجَه في السنوات الماضية، مثلًا، في أوكرانيا المحاذية لروسيا أو في هونج كونج التابعة للصين). وهذا ما قد يؤجّل تشكّل عالمٍ متعدّدِ الأقطاب الإمبرياليّة.

وفي المقابل، فإنّه كلّما مالت الكفّةُ لصالح شِقّ "السيطرة الغاشمة،" ازدادت العقوباتُ وحشيّةً، وتزايد التهديدُ بالحرب، وشهدنا قراراتٍ عدائيّةً صارخةً (من نوع اغتيال قاسم سليماني) أو مواقفَ استعراضيّةً واستفزازيّة (من نوع زيارة بومبيو مؤخّرًا إلى الجولان السوريّ المحتلّ)، وحُبِّذ التعاملُ مع الأنظمة الديكتاتوريّة على حساب الأنظمة "الديمقراطيّة." كما تزداد العلاقاتُ بالقوى الإمبرياليّة الصاعدة (روسيا والصين أساسًا) توتّرًا، فيعود الحديثُ إلى سباق التسلّح والانسحابات من اتفاقيّات التخلّص من ترسانات الأسلحة، وتتأجّج الحروبُ التجاريّة، وتطغى النبرةُ القوميّةُ الشوفينيّةُ والعنصريّة. بعبارةٍ أخرى، يميل التناقض إلى شكله العموديّ السابق، أيْ ذلك التي تتطابق فيه حدودُ البرجوازيّات الإمبرياليّة مع الحدود القوميّة لبلدانها.

بناءً عليه، ففي حال استمرار حكم الجمهوريّين طويلًا في الولايات المتحدة، يتعزّز التناقضُ الثانويُّ الذي يشقّ البرجوازيّةَ الإمبرياليّةَ المعولمةَ السائدة، فيتحوّل إلى تناقضٍ أساسٍ، بما يهدِّد باشتعال حروبٍ بين جزءٍ منها وبين الإمبرياليّات الصاعدة، ويهدِّد أيضًا باشتداد التنافس فيما بينها على ثروات بلدان الأطراف والجنوب. ولعلّ هذا الخطرَ الجدّيَّ يفسّر مدى حماس الأوروبيين، والليبراليّين الغربيّين عمومًا، لانتصار بايدن على ترامب.

 

باستمرار حكم الجمهوريّين يتعزّز التناقض الذي يشقّ البرجوازيّةَ الإمبرياليّةَ السائدة، بما يهدِّد باشتعال حروبٍ وتنافس بينها على ثروات الجنوب

 

تمظهر هذه التناقضات في منطقتنا

خلال السنوات الأخيرة في منطقتنا، تمظهر هذا التناقضُ الثانويُّ بين تيّارَي البرجوازيّة الإمبرياليّة، الغربيّةِ تحديدًا، في دعمهما لتحالفاتِ برجوازيّاتٍ كمبرادوريّةٍ محلّيّةٍ متنافسة. إذ يفضِّل الأوّلُ دعمَ محور إسرائيل-السعودية-الإمارات-الديكتاتوريّات التقليديّة، في حين يعوِّل الثاني على محور تركيا-قطر-الإخوان المسلمين. وبينما يبحثُ التيّاران عن أفضل السُبل والحلفاء والعملاء لخدمة مصالحهم في منطقتنا، تبحث البرجوازيّاتُ القُطْريّةُ الرجعيّةُ عن أقصر الطرق لحيازة موقع "العميل الأوْثَق" لدى أسيادهم الإمبرياليّين.

ويُعَدّ الدورُ الذي يؤدّيه الكيانُ الصهيونيّ جزءًا لا يتجزّأ من السياسة العامّة للبرجوازيّة الإمبرياليّة في المنطقة. فهو يعمل على ابتزاز المحوريْن الرجعيَّيْن كليْهما، وعلى الاقتراب أو الابتعاد من أحدِهما بحسبِ ما تقتضيه مصلحتُه المشتركة مع حلفائه الإمبرياليّين، وتبعًا للتناقضات الثانويّة التي تشقّ طبقتَه الحاكمة. كما ضمن هذا الكيانُ لنفسه، بسبب خدماته الجليلة في المنطقة، إضافةً إلى ما راكمه من نفوذٍ داخل مراكز القرار الغربيّ (وبخاصّةٍ الأمريكيّ)، حدًّا أدنى من دعم شِقَّي البرجوازيّة الإمبرياليّة السائدة. وهذا الدعم يزداد قوّةً عند وصول الجمهوريّين إلى الحكم بسببِ ما طرأ من تغيّرات على البنية الإيديولوجيّة لقيادة هذا الحزب، خصوصًا لجهة تغلغل فكر المحافظين الجدد والإنجيليّين المتصهينين.

ولقد قضت مصلحةُ الشِقّ "الغاشم" من الإمبرياليّة خلال السنوات الأربع الماضية تعزيزَ التحالفات داخل المحور الإقليميّ التابع لها، ودعمَ موقعه على حساب المحور الإقليميّ التابع للشِقّ الثاني (أيْ محور تركيا-قطر-الإخوان)، ودعمَ حصار المحور الإقليميّ الخارج عن إرادة الإمبرياليّة السائدة (أيْ محور إيران-سوريا-الحوثيّين-حزب الله-بعض الفصائل العراقيّة-بعض الفصائل الفلسطينيّة). وهو ما أدّى إلى تقاربٍ أكبرَ بين المحور الإقليميّ الأخير والقوى الإمبرياليّة الصاعدة (روسيا والصين).

 

الانعكاسات المرتقبة على منطقتنا من عودة "الإمبرياليّة الناعمة"

يُتوقّع أن تنعكس عودةُ الحزب الديمقراطيّ إلى قيادة البرجوازيّة الإمبرياليّة في تعزيز موقع محور تركيا-قطر-الإخوان، بما يَضْمن التخفيفَ من التوتّر مع المحور الرجعيّ المنافس الآخر (الكيان الصهيونيّ-السعوديّة-الإمارات-...).

أمّا الصراع مع المحور الإقليميّ المتمرّد (وأعني إيران وحلفاءها)، فيُتوقَّع أن يَجنح نحو سياسة "الاحتواء" (مثلما حصل عبر الاتفاق النوويّ مع إيران زمن أوباما). لكنْ قد يؤدّي ذلك - في المقابل - إلى تجسير العلاقات بين المحوريْن الإسرائيليّ-السعوديّ-الإماراتيّ والقطريّ-التركيّ-الإخوانيّ (كما رأينا قبل ترامب في سوريا واليمن).

كما أنّ خفوتَ حدّة التوتّر بين الإمبرياليّة الأميركيّة في عهدة الحزب الديمقراطيّ من جهة، والإمبرياليّتيْن الصاعدتيْن (روسيا والصين) من جهةٍ أخرى، قد يؤدّي الى ابتعاد هاتين الأخيرتيْن نسبيًّا عن المحور الذي تقوده إيران.

إذا حصل ذلك فإنّه لن يزيدَ - بالضرورة - من عزلة المحور الإيرانيّ لأنّه يَصْعب التصعيدُ أكثر ممّا بلغتْه سياسةُ العقوبات القصوى التي اعتمدتها الولاياتُ المتحدة في عهد ترامب. إلّا أنّه قد يبطئ تطويرَ هذا المحور لقدراته التسليحيّة التي مازالت تعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على مساعدات روسيا، والصين بدرجةٍ أقلّ.

لكنْ يُفترض أن يَسمحَ تغيّرُ المشهد في واشنطن للمحور الإيرانيّ باسترداد أنفاسِه عبر استعادة جزءٍ مهمٍّ من نشاطه الاقتصاديّ مع الخارج. وهو ما سيعني، في المحصّلة، أنّ الصراع بينه وبين الإمبرياليّة السائدة لن يتّخذ صيغةً مباشرة (على عكس فترة ترامب)، بل سيتمظهر أكثرَ من خلال تفاقم "المواجهة بالوكالة" -- وتحديدًا في ساحات العراق ولبنان وسوريا.

في منطقة المغرب الكبير ومصر (شمال أفريقيا)، لا أتوقّع أن تُحْدث عودةُ الحزب الديمقراطيّ في الولايات المتحدة تغيّرًا كبيرًا في العلاقات مع الأنظمة. على الأرجح سنشهد فتورًا للعلاقة مع نظام عبد الفتّاح السيسي، لكنْ من دون محاولة المساس به، ما دام قادرًا على السيطرة على الأوضاع الداخليّة. وسنرى كذلك هامشًا أكبر لتدخّل فرنسا وألمانيا في إدارة ملفّات المنطقة:

- ففي ليبيا، لا يُتوقّع أن تنخفضَ حدّةُ التكالب الدوليّ عليها، ومن ثمّ حدّةُ الاقتتال الداخليّ.

- وأمّا الجزائر، فسيجري تشجيعُها أكثرَ فأكثرَ على فتح أسواقها والتخلّي عن سيادتها.

- وأمّا المغرب الأقصى، فيُنتَظَر أن يكافَأ نظامُه على تطبيعه الرسميّ مؤخّرًا مع الكيان الصهيونيّ، وعلى نجاحِه في ابتداع نموذجٍ "ديمقراطيّ" زائف (شبيهٍ بما يوجد في الأردن) سمح له باحتواء "الإخوان المسلمين" وتهميشِ اليسار. لكنّ عودةَ جبهة البوليزاريو إلى العمل المسلّح مؤخّرًا في الصحراء الغربيّة المحتلّة قد تشوِّش جزئيًّا على خطط النظام المخزنيّ.

- وأمّا موريتانيا، التي لا تحظى باهتمامٍ كافٍ عربيًّا، فلا توقّعات بتأثّراتٍ كبيرةٍ لتغيّر المشهد الأميركيّ في هذا البلد الذي نهب الفرنسيّون، بشكلٍ أساس، ثرواتِه الطبيعيّةَ (الأسماك والحديد ومؤخّرًا البترول والغاز في عرض البحر). لكنّ تزايدَ أعداد الشباب المتخرّج المحروم من الشغل قد يفضي إلى أزمة اجتماعيّة تمسّ بالنظام التابع ذي الديمقراطيّة الشكليّة.

- وأمّا تونس، فإنّ ميلانَ كفّة "الشِّقّ الناعم" فيها (وهو ما سنشهده خلال فترة حكم بايدن) سيُعزِّز، على الأرجح، كفّةَ القوى الليبراليّة اقتصاديًّا، المتمسّكةِ بصيغة "الانتقال الديمقراطيّ" التابع للمراكز الامبرياليّة، وعلى رأسها حركةُ النهضة. وقد يُضعف نسبيًّا كفّةَ القوى الليبراليّة الأمْيَل إلى الحكم الديكتاتوريّ، وعلى رأسه اليوم الحزبُ الدستوريّ الحرّ. إلّا أنّ متغيّراتٍ تَصْعب السيطرةُ عليها (مثل غضب الطبقات الشعبيّة التي تئّن تحت وطأة السياسات الاقتصاديّة الفاشلة والمبادرات المفاجئة للرئيس قيس سعيّد) قد تؤدّي إلى التقاء مصالح بين هذيْن الطرفيْن.

تونس

 


[1] يمكن الاطّلاعُ على مضمون التسمية في هذا المقال لعامر محسن: "أن نفكّر مع سمير أمين: الإمبرياليّة والفوضى" https://al-akhbar.com/Opinion/222279

[2] ترجمة لحوار مهمّ معه بعنوان "حول مفهوم الإمبرياليّة اليوم": https://www.inhiyez.com/archives/3456

[3] يعود هذا المفهوم إلى الفيلسوف النمساويّ كارل بوبر. واليوم يُعدُّ الملياردير الليبراليّ جورج سوروس أحدَ أبرز أتباعه الساعين إلى تجسيد أفكاره

https://cutt.ly/uhSO15T

غسان بن خليفة

صحافي وناشط يساريّ من تونس.