يحاصرُني صوتُ أغنية "يا جَبَل البعيد" من ترانزستور أبي، آتيًا من يومٍ لم تكن فيه الهواتفُ قد احتلّت بـ"ذكائها" كلَّشيءٍ بعد. هل كانت أدواتُ ذلك العصر غبيَّةً حتى خسِرت السباقَ مبكّرًا؟ اليوم، يكفي أن يَبْهر المغنّي الآلةَ بوسامتِه كي تغنّي عوضًا منه. أما في الماضي فكانت الأغنياتُ تنسابُ من حناجرَ نابِضةٍ بالحياة، فتصل إلينا بلا تشويهٍ أو تمويهٍ أو تموّجاتٍ مصطنعة. وكانت الجلساتُ تنضح صفاءً وبساطةً وودًّا: يجلسُ أبي على الأرضِ بيننا، لنكتشفَ أنّ تلك كانت طريقتَه في تلقيننا دروسَ التواضع والإخلاصِ لفطرتنا الأولى.
تحاصرُ خيالي "العصرونيَّةُ،" وأكوابُ الشاي، و"رندحةُ" أبي بصوتِه المتماهي مع خشونة الجبلِ البعيد الذي يقبعُ خلفَه. "اشتقْنا للمواعيد،" ولضحكاتنا وأحاديثنا. وها أنذا أصبحتُ - بعد أن خدشتِ السنين طفولتي - ضيفةً دائمةً على الحنين. تصدح كلماتُ أغنية فيروز في خاطري مجدَّدًا: "بكينا، تعذّبنا." أسكبُ كوبَ الشاي، وأجلسُ مع وحدتي وحنيني، وأدركُ أنّ المسافة الفاصلة بين الماضي والحاضر يحتلّها جبلٌ بعيدٌ آخر، وأنّ جبالَ التاريخ والجغرافيا تتواطأ علينا. والنتيجة: "بعْدوا الحبايب بَيْعدوا."
تتحوَّل الذكرياتُ إلى عبءٍ ثقيل. أحاولُ طردَها، فلا أستطيع. يرنّ هاتفي الذكيّ وتضيء شاشتُه برقم أبي. أردّ على أبي بحماسةِ المشتاق ولوعة الغارقِ في بحر الحنين: "بابا.. كنت عم فكّر فيك." يُغازلُني أبي كما يُغازل عاشقٌ معشوقتَه في بدايات الحبّ. يطمئنّ إلى حالي وحالِ طفليّ، ويُطبطبُ على غربتي، قبل أن ينهي الاتصالَ بتنهيدةٍ عميقة، فأعودَ إلى مسرحِ الفراغِ المتْخمِ بالقلق والهواجس والفقد.
المطاراتُ مغلقة هذا العام بسبب الفايروس الذي ظهر فجأةً ليقتاتَ على حنيننا وآلامنا. وفي العام الفائت، منعتني ظروفي الصحّيّةُ من أن أصل إلى أبي وأنامَ في حضنه. وفي العام الذي سبقه تراكمت الديونُ على زوجي المسكين، فقرّرتُ أن أبقى حبيسةَ جدرانِ غربتي حتى يأتي الفرج. منذ دخولي عشَّ الزوجيّة قبل ثلاث سنوات، لم أرَ أبي. أصبحَ لي طفلان، وما زلتُ كالطفلة متعطّشةً لحنانِ أبي الذي لا يعوِّضه شيء.
في بادئ الأمر، تردّدتُ في الزواج على الرغم من حبّي الشديد لمحمّد. كان الصراع بين قلبي وعقلي محتدِمًا إلى حدّ العجز عن تمييز صوتِ كلٍّ منهما: قلبي يريد محمّدًا، وعقلي يُصرّ على البقاء مع أبي وأخوتي. وكيف أتركُ أبي؟ أأزيدُ من همّه بعد أن تركتْنا الماما وذهبتْ إلى حضن البارئ الحنون؟ ولكنّ إيثارَ أبي الذي كان يتجسّد بكلماتٍ حانيةٍ تطمئنني بأنّ الله لا يترك أحدًا، وأنّه سيتكفّل به وبإخوتي، وبأنْ لا مفرَّ من سنّة الحياة وبناء أسرةٍ جديدة، أشعرَني بالذنب والمسؤوليةّ. فقرّرتُ أن أشقّ طريقي حاملةً معي دعائي إلى أرض الله الواسعة.
يُواسيني صوتُ فيروز كلّما هبّت عواصفُ الحنين وسنّت الغربةُ سكاكينَها في وجهي. مضت أيّامي على هذا النحو حتّى أتى الصباح الذي حمل فيه زوجي النبأ السارَّ إليّ: "لقد فتحوا المطارَ يا فاطمة، أبشري!" شعرتُ بفرحٍ ممزوج بالحزن، وسالت الدموعُ على وجهي، ولم أجد نفسي إلّا هاربةً إلى أحضان طفليّ: "رح نشوف جدّو يا ماما قريبًا.. رح نشوفو!"
طوال الرحلة وأنا أرسمُ في عقلي شكلَ اللقاء، وأتخيَّل العناقَ والبسمات. أتخيَّل كيف سأجدُ أبي جالسًا على الأرض، وإخوتي يحيطون بِه، وفيروز تغنّي، والشاي يضحكُ إذ يغادر الإبريقَ ليلتقي ثغرَ المشتاق.
حين حطّت الطائرة تنفّستُ الصعداءَ، ثم بدأتْ نبضاتُ قلبي تتسارع. استقبلتني حافلةٌ لتقلّني إلى ضيعتي. كان صوتُ فيروز ينبعث من مسجّل الحافلة. صبّت نغماتُها كأسًا من الطمأنينة على قلبي، فغرقتُ مع طفليّ في النوم لبعض الوقت. استيقظتُ على صوتِ السائق: "يلّا يا مدام تفضَّلي، وصلتِ."
نزلتُ من الحافلة لم أرَ غير ضبابٍ وعتمة. اللون الأسود منتشرٌ في كلِّ مكان، وصوتُ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يلعلعُ في البيت. البيتُ مكتظّ بأناسٍ كثرٍ لم أستطع تمييزَهم. لم أستيقظ من صدمتي إلّا بعد أن رآني أخوتي، ورموْا بأنفسهم في حضني.
لوهلةٍ خلتُ أنَّهم يغنّون "وسألت باب الدار وين الدار وأهل الدار." أمّا في الحقيقة، فلم يكن يصدر من أفواههم سوى أنينٍ متقطّع.
فريتاون