دوافع إحياء "العمليّة السلميّة"
18-06-2016

ليس معلومًا بالضبط ما الذي حدا ببعض الدول أن تحرّك مسارَ العمليّة السلميّة المتوقّفة منذ عامين بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكنّ الأكيد هو أنّ لكلّ طرف ــــ داعيًا أو داعمًا ـــ مصلحةً في ذلك.

فالدولة الفرنسيّة، صاحبة الدعوة الرسميّة إلى اجتماعٍ ضمّ وزراءَ خارجيّة 29 دولة معنيّة بالموضوع، كانت قد أعلنتْ عن هذا الأمر منذ مطلع العام الحاليّ، وبدأتْ دوائرُها الديبلوماسيّة بتحضير الأرضيّة المناسبة، مستفيدةً من انشغال إدارة أوباما بالمعركة في سوريا وبمحاربة داعش في العراق. كما استفادت فرنسا أيضًا من توتّر العلاقات بين الحكومة الصهيونيّة وإدارة أوباما نتيجةً لانتقاد الأخيرة لسياسات الاستيطان وانزعاج الأولى من إتمام التفاهم النوويّ مع إيران في تمّوز من العام الماضي.

أما السعوديّة فتشعر وكأنّها خسرتْ كلّ أوراقها في الحروب المشتعلة في سوريا والعراق واليمن، فلا بدّ لها إذن من "قضيّة رابحة" تعود عبرها إلى بوّابة الشرق الأوسط الملتهب؛ وأيّة قضيّة أفضل من القضيّة الفلسطينيّة، "القضيّة المركزيّة للعرب"؟ المتابع للصحف السعوديّة، وللصحف التي تدور في فلكها، يلاحظ كمّيّة الأقلام التي أعادت التذكير بمقرّرات "مبادرة السلام العربيّة" التي أُطلقتْ خلال قمّة بيروت سنة 2002، علمًا أنّ المعطيات تغيّرتْ جذريًّا منذ ذلك الوقت في الساحات العربيّة والدوليّة.

وأمّا مصر فكانت قد أوكلتْ مهمّة التنسيق العملانيّ في موضوع القضيّة الفلسطينيّة، لكونها تاريخيًّا معنيّةً بتلك القضيّة أوّلًا، ولأنّها على تماسّ جغرافيّ مباشر معها ثانيًا، ولأنّ نظام مبارك كان يتمتّع بعلاقات جيّدة جدًّا مع السلطة الفلسطينيّة ورئيسِها ياسر عرفات ثالثًا. وقد مكّنتْ هذه العواملُ مصرَ من حجز مقعدٍ لها في تلك الساحة، بالتنسيق مع الدولة الأكثر تأثيرًا في مسار العمليّة السلميّة: الولايات المتحدة. وقبل 16 يومًا فقط من انعقاد اجتماع باريس (3 حزيران) أعلن الرئيسُ المصريّ عبد الفتّاح السيسي "أنّ تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين سيجعل السلامَ القائمَ بين مصر وإسرائيل أكثرَ دفئًا،" وأبدى استعدادَ بلاده لتقديم ضمانات لكلا "الشعبين الفلسطينيّ والإسرائيليّ" بتحقيق الأمان والاستقرار. وجرى ذلك في ظلّ علاقات "ودّيّة جدًّا" مع المملكة السعوديّة، تجلّت في "تسليم" مصر إيّاها جزيرتيْ تيران وصنافير.

***

تمخّض عن اجتماع باريس بيانٌ هزيلٌ عبّر عن التزام المجتمعين بقيام الدولة الفلسطينيّة، وإقناع الطرفين بمعاودة مفاوضات السلام، وتقديم حوافز إلى الجانبين. وبدا من كلام وزير الخارجيّة الفرنسيّة أنّ خطّة فرنسا ستؤطّر في مسار طويل سيمتدّ لعدة أشهر قبل أن يتوّج بلقاءٍ فلسطينيّ ـــ إسرائيليّ مباشر ضمن مؤتمر تحضره جميعُ الدول الحاضرة قبل نهاية هذا العام.

وفي حين كان الجانب الإسرائيليّ منزعجًا نسبيًّا من تدخّل فرنسا في مسار "عمليّة السلام،" وذلك بسبب ميل الرأي العامّ الأوروبيّ عمومًا إلى دعم قيام "دولة فلسطينيّة مستقلّة" (وكان عدد من البرلمانات الأوروبيّة قد اعترف بدولة فلسطين في الأعوام السابقة)، اكتفى الجانبُ الفلسطينيّ بإصدار بيانات عقبّتْ على بيان اجتماع باريس: فأكدّتْ حنان عشراوي ضرورة تحديد مضمون المبادرة الفرنسيّة وأهدافها وآليّات تنفيذها ومتطلّبات متابعتها وإنجاحها وفق جدول زمنيّ محدّد لإنهاء الاحتلال؛ واعتبر صائب عريقات أنّ الاجتماع يشكّل "مرحلة بالغة الأهميّة." والحقّ أنّ هذه التصريحات تبدو وكأنّها صادرة عن جهةٍ مراقبةٍ وحياديّة ولا دخل لها في موضوعة الصراع، ما يدلّ على افتقاد "القيادة الفلسطينيّة" إلى رؤية وطنيّة موحّدة، وإلى عدم امتلاكها أجندة عمل سياسيّة وديبلوماسيّة.

***

تبقى أمور مهمّة ينبغي أخذُها في الحسبان لفهم مسار "التسوية الراهنة." أولُها اللقاءات السعوديّة ـــ الإسرائيليّة المتزايدة. فتعويمُ مبادرة السلام السعوديّة السابقة ضروريّ لكي لا تبدو رغبةُ السعوديّة في تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيونيّ محضَ "تطبيع." في مقابلة مع الصحيفة الإسرائيلية، يديعوت أحرونوت، يقول أنور عشقي، عرّابُ تطبيع العلاقات المذكورة، ومديرُ مركز الدراسات الإستراتيجيّ (في جدّة): "إنّ مبادرة السلام العربيّة تملك الآن فرصة حقيقيّة لتطبيقها، وإنّ التغييرات الإقليميّة التي تعصف بالمنطقة تسمح بذلك."

واذا كنّا نستطيع افتراضَ دوافع السعوديّة من وراء إعادة إحياء "عمليّة السلام،" فإنّ الحديث عن دور فرنسا أصعب لأنّه متشابك مع عدد من الملفّات السياسيّة الساخنة في الإقليم. ذلك أنّ الانصياع الفرنسيّ الأعمى وراء رغبات تركيا والسعوديّة في تسليح المعارضة السوريّة أدّى إلى انتقال دورة العنف إلى فرنسا. وساهم في هذا الأمر أنّ عددًا لا يستهان به من الفرنسيين التحق بتنظيم داعش (قدّرهم باتريك أومويل بحوالى 1500 فرنسيّ) في سوريا والعراق. وكان التنظيم قد أعلن أنّ انضمام باريس إلى التحالف الدوليّ المناهض له سيكلّفها الكثير. وبالفعل، نفّذ داعش تهديدَه عبر أعمال هجوم دمويّة استهدفتْ ستة أمكنة في الوقت عينه في تشرين الثاني من العام المنصرم، فتدنّت شعبيّةُ الرئيس الفرنسيّ فرنسوا هولاند الى أدنى مستوياتها. انطلاقًا من هنا يمكننا فهمُ محاولة فرنسا الدخولَ مجدّدًا إلى الشرق الأوسط، علهّا تصنع نصرًا في إحياء المفاوضات الفلسطينيّة ـــ الإسرائيليّة، وتدفع عنها خطرَ الإرهاب الداعشيّ في الداخل.

أمّا الإدارة الأميركيّة فلا تبدو مكترثةً حتى الآن باجتماع باريس، وهي التي تستعدّ للرحيل بعد بضعة أشهر. وكانت قد حاولتْ تحريكَ عجلة المفاوضات بداية العام 2010، إلّا أنّها اصطدمتْ بتعنّتٍ صهيونيّ واضح، عبّرتْ عنه باستمرار سياسةُ الاستيطان. ثم انطلقتْ أحداثُ "الربيع العربيّ،" فخفّ الحديثُ عن مسار "العمليّة السلميّة." إلى أن أتت المبادرةُ الفرنسيّة هذا العام لتقدّم مادّةً دسمةً من غير الواضح كيف ستتعامل معها الإدارةُ الأميركيّة. ولكنْ ما لا شكّ فيه هو أنّ هذه المبادرة، إنْ شقّت طريقَها، فستساعد الرئيسَ الأميركيَّ القادم على التخلّص من ملفٍّ أثقلَ كاهلَ الإدارات الأميركيّة المتعاقبة منذ العام 1948، خصوصًا إذا تضمّنتْ شطب حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين.

وماذا عن روسيا؟ لقد كان مؤتمر باريس على جدول أعمال لقاء القمّة بين الرئيسين الروسيّ والإسرائيليّ في 8 حزيران. ومنذ انطلاق الأعمال العسكريّة الروسيّة في سوريا في أيلول الماضي، لم يبرز تنسيق واضح مع القيادة العسكريّة الأميركيّة الناشطة في سماء سوريا فحسب، بل أفادت بعضُ وسائل الإعلام أنّ الطرف الروسيّ ينسّق أيضًا مع الإسرائيليين سرًّا. ومنذ بدء تدخّل حزب الله في سوريا، ازدادتْ خشيةُ "إسرائيل" من امتلاكه أسلحةً كاسرةً للتوازن، ومن اكتسابه خبراتٍ عسكريّةً وميدانيّة نوعيّة وجديدة، فشرعتْ باستهداف مواقع تابعة للجيش السوريّ أو للحزب، وباستهداف شحنات صواريخ كانت في طريقها الى الحزب، وباستهداف قادة ميدانيين له على الاراضي السوريّة، فضلًا عن قادةٍ إيرانيين. هنا يبدو الطرفُ الروسيّ أكثرَ براغماتيّةً من أيّ طرف آخر، إذ أبقى على شعرة معاوية مع الطرف الأميركيّ كما مع بقيّة الاطراف. وفي هذا السياق، يأتي دخولُ الكرملين على خطّ التسويات الإسرائيليّة ـــ الفلسطينيّة/ العربيّة، بعد أن احتكرته سابقًا الولاياتُ المتحدة. فما هو الثمن الذي وعدتْ به روسيا؟ أهو إضعافُ حضور حزب الله في سوريا ومنعُه من تنفيذ عمليّات تغيّر الميدانَ الملتهب تغيّرًا جذريًّا؟ من المبكّر الحديثُ عن نتائج التقارب الروسيّ ـــ الإسرائيليّ، لكنّ روسيا تدرك أنّها وسيط يقبله الفلسطينيون أكثرَ ممّا يقبلون الأميركيين، خصوصًا أنّ الدولة الروسيّة الحديثة (التي قامت على أنقاض الاتحاد السوفياتيّ) كانت قد أخذت مواقفَ مؤيّدةً للحقوق الفلسطينيّة في مجلس الأمن الدوليّ كما في بقيّة المحافل الدوليّة. وتدرك حكومةُ نتنياهو أيضًا أنّها، بتقاربها مع روسيا، تبعث برسالة قويّة إلى الإدارة الأميركيّة التي اتّسمت علاقتُها بها بالكثير من التوتر.

***

إنّ توقّع نتائج مهمّة من هذا المسار يبدو ضربًا من الخيال، وذلك في ظلّ أوضاع غير مستقرّة في الإقليم، وفي ظل أزمةٍ سوريّةٍ دخلتْ عامَها الخامسَ من دون أيّ أفق للحل. ويزداد الأمرُ تعقيدًا عند معاينة العقبات الإسرائيليّة التي تعترض "مبادرةَ السلام" تلك: فالحكومة الإسرائيليّة ماضية في بناء المستوطنات العشوائيّة في الضفّة الغربيّة، وفي أعمال الحفر قرب المسجد الأقصى وتحته؛ والحكومة الإسرائيليّة تتجه إلى أقصى اليمين، بدلالة تعيين الصهيونيّ المتطرّف أفيغدور ليبرمان وزيرًا "للدفاع" في حكومة نتنياهو.

يبقى أن نراقب كيف ستتطوّر هذه المبادرة وما حدودها، وبأيّة عوائق ستصطدم، وما هي فرص نجاحها وإخفاقها. لكنْ، قبل السعي إلى امتلاك الأجوبة على تلك الأسئلة، أليس الأجدر بنا توجيه الأسئلة إلى السلطة الفلسطينيّة حول مواقفها واستراتجيتها وتكتيكها و"عملها،" بدلًا من البطالة الفعليّة التي "تمارسُها"؟ ألا يستحقّ الشعبُ الفلسطينيّ البطل قيادةً قادرةً على حسم الأمور، بدلًا من أن تكون في موقع المتفرّج على التطوّرات والأحداث؟

بيروت

 

عطا الله السليم

كاتب وناشط سياسيّ وباحث مستقلّ في مجال السياسات العامّة. صدر له: مضافٌ إليها (شعر، 2013) وعلى أراضي جمهوريّتي (نصوص نثرية، 2015).