قلّةٌ من الشخصيات المثقّفة العربيّة تنقّلتْ بين أقطار الوطن العربيّ وشغلتْ فيه مناصبَ، شأن الجزائريّ عثمان سعدي في زمنه. فمن القاهرة نال إجازةً في الآداب؛ وفيها شغل، لاحقًا، منصب أمين مكتب جيش التحرير الوطنيّ. ومن بغداد حاز رسالةَ الماجستير؛ وفيها صار سفيرًا في مرحلة ما بعد الاستقلال. وفي طرابلس الغرب صار عضوًا لمجمع اللغة العربيّة. هكذا تبدو مسيرة الدكتور سعدي حافلةً بمعاينة الواقع العربيّ، والواقع الجزائريّ بشكل خاصّ. والمقالة التي نعيد نشرها اليوم سبق أن نُشرتْ في العدد السابع من مجلة الآداب سنة 1959، أيْ بعد خمس سنوات من الانطلاقة "الرسميّة" للثورة الجزائريّة، وفي ذروة الأزمة الفرنسيّة في تعاطيها مع الجزائر كمسألةٍ "سياسيّة - أمنيّة."
يتوقّف الكاتب عند مسألة الأرض، ودورها في خلق ديناميّة المقاومة من خلال الفلّاحين. فالفلّاحون هم الذين قادوا المقاومةَ ضدّ جيوش الاحتلال الفرنسيّة (بين العاميْن 1820 و1903)، وهم الذين قاموا بثورة أبي بغلة سنة 1851، وهم مَن قاموا بثورة بني سناسن سنة 1859. لكنّ النظام الفلاحيّ، الزراعيّ، يبدو مسألةً غايةً في الغرابة بالنسبة إلى المحتلّ الفرنسيّ: فالقبائل الجزائريّة لم تعرف الملْكيّةَ الفرديّة إلّا بعد دخول الفرنسيين، وهي في الآن عينه لم تعرف الملْكيّة الإقطاعيّة، ولا الحياة الطبقيّة بشكل حَدّيّ طوال تاريخ ما قبل الدخول الفرنسيّ إلى الجزائر. لقد كان الريف مسألة مُربكة للفرنسيين، كما يقول سعدي، وهذا ما جعل قادةً عسكريّين فرنسيّين يشهدون بعدالة الحياة الريفيّة الجزائريّة وبعجز فرنسا عن فهمها.
يعرّج الكاتب على آليّات التعاطي الفرنسيّ مع الريف الجزائريّ، وعلى السياسات الفرنسيّة التي اتُخذتْ لترسيخ الملْكيّة الفرديّة للأرض، منذ سنة 1873، سعيًا إلى تمزيق النسيج الاجتماعيّ القبليّ.
ولا يخفى الموقفُ السلبيّ لكاتبنا من الطبقة البرجوازيّة الجزائريّة الكبرى، تلك التي امتُحنتْ مطلع العقد الثالث من القرن العشرين، فأظهرتْ ضعفها في مواجهة المحتلّ مع ثورة الأمير خالد (حفيد عبد القادر الجزائريّ) الذي انتهى به الأمر منفيًّا خارج البلاد. وهو ما تكرّر بشكل أقلّ حدّةً في مرحلة النضال الثوريّ المُستأنَف عام 1945 مع بن بيلّا.
تعرض المقالة لانتروبولوجيا الحياة الاقتصاديّة الريفيّة، متوقّفةً عند الخُماسة والقطاعة والجيارة والمُزارعة والتويزرة، كأنواع من التكامل والتكافل الاجتماعيّ. كما تستعرض الرؤى الحديثة لأهل الريف في نظرتهم إلى المدينة وبرجوازيّتها.
ستّة عقود مضت على مقالة سعدي عن الثورة الجزائريّة ومقاربته التحليليّة لواقعها. ومع ذلك لم تفقد المقالةُ أهميّتها في تشريح الواقع الجزائريّ. ثمّة حاجة لفهم زواج "المدينة - الريف" في الواقع العربيّ، وفي الجزائر اليوم تحديدًا، مع عودة الكلام عن الثورة ــ ــ لكن الثورة الإصلاحيّة الداخليّة هذه المرّة.
بيروت
* لقراءة المقالة أنقر هنا