أشكرُكم على استضافتي. في حقيقة الأمر أنني تبلّغتُ الدعوةَ قبل أسبوع.* وبطبيعة الحال لم يتسنَّ لي الوقتُ لإجراء أيّ بحثٍ علميّ ذي مَراجع واقتباسات. لذا سأدلي ببعض الملاحظات السريعة، المنبثقةِ من تجربتي الشخصيّة في التعامل مع شؤون اللغة العربيّة وشجونِها، وذلك احتفالًا باليوم العالميّ للغة العربيّة.
لعلّ بعضَكم يعْلم أنّني، منذ العام 1991، أرأَسُ تحريرَ مجلةٍ أدبيّةٍ وثقافيّةٍ عريقة، أسّسها والدي المرحوم د. سهيل إدريس سنة 1953، وهي مجلةُ الآداب. كما أعمل في دار نشرٍ، هي دارُ الآداب، التي أُنشئتْ بعيْد تأسيس مجلة الآداب، وتحديدًا سنة 1956. درستُ الاقتصاد في الجامعة الأميركيّة في بيروت، ونِلتُ شهادةَ البكالوريوس فيها. ثم "انحرفتُ" إلىى حيث هوايَ الأوّل، فتخصّصتُ في اللغة العربيّة وآدابِها، ونلتُ شهادةَ الماجيستير من الجامعة نفسها، وحملتْ أطروحتي يومَها عنوانًا هو: رئيف خوري وتراثُ العرب. وفي صيف العام 1985 شددتُ الرِّحال إلى نيويورك، حيث نلتُ الدكتوراه من جامعة كولومبيا، متخصِّصًا في دراسات الشرق الأوسط، وكتبتُ أطروحتي بالإنكليزيّة، قبل أن أترجمَها إلى العربيّة وأُصْدِرَها في كتابٍ بعنوان: المثقف العربيّ والسلطة - بحثٌ في روايات التجرِبة الناصريّة.
أثناء دراستي في نيويورك، كنتُ لا أنفكُّ أزورُ لبنانَ كلَّ عام، فأقضي فيه قرابةَ أربعة شهور، أعملُ خلالها على الإسهام في إعداد معجم عربيّ - عربيّ ضخم كان المرحومُ والدي والشهيد د. صبحي الصالح قد باشرا العملَ عليه منذ العام 1979 أو 1980.
بعد أن صرتُ أبًا سنة 1995، تحوّل اهتمامي باللغة والأدب الى هاجسٍ شخصيّ. فابنتايَ لم تكونا تُحبّان القصصَ العربيّة، لأنّها في غالبيّتها وعظيّةٌ و"ناشفة،" مقارنةً بالقصص المكتوبة باللغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة اللتيْن تتقنانِهما. وهذا شكّل تحدّيًا كبيرًا لي: فكيف أكونُ رئيسًا لتحرير مجلّةٍ عربيّة وقوميّة شهيرة، ومؤلِّفًا معجميًّا، وعاملًا في إحدى كُبريات دُور النشر العربيّة، لكنّني أعجزُ مع ذلك عن تحبيب اللغةِ العربيّة إلى طفلتيَّ؟ هنا بدأتُ رحلةً مثيرةً، لمّا تنتهِ بعدُ، من أجل كتابة أدبٍ للأطفال، يسلّيهم، ويُمْتعُهم، ويتماهَوْن مع موضوعاتِه، ويستفيدون منه، من دون أن تكون هذه الإفادةُ تقليديّةً تعليميّةً مملّةً. ونَمَتْ طفلتايَ، ونَمَتْ كتاباتي معهما. وسنةً بعد سنة، تحوّلتْ قصصي القصيرةُ المصوَّرة، الموجَّهةُ إلى الأطفال، إلى رواياتٍ موجَّهةٍ إلى الفتيات والفتيان. وبات في جَعْبتي اليومَ خمسُ رواياتٍ للناشئة (الرواية الخامسة ستصدر خلال شهر)، إضافةً إلى إحدى عشْرةَ قصّةً للأطفال.[1]
على أنّ ذلك كلَّه كان يجري من دون أن أنقطعَ عن متابعةِ نشاطٍ سياسيّ/ ثقافيّ جادّ، كنتُ قد أسّستُ له سنةَ 2002، أثناء مجزرة جنين في فلسطين المحتلّة، هو الإسهامُ في عزل الصهيونيّة وداعميها، وذلك ضمن "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان." وقد وجدتُ أنّ هذه الاهتمامات جميعَها ليست منفصلةً البتّةَ، بل هي متواشجةٌ، ويغذّي أحدُها الآخرَ. فالمَعجمة، وتحبيبُ العربيّة إلى الأطفال والناشئة، ونشرُ مجلةٍ أدبيّة وفكريّة تقدّميّة راقية، والعملُ في دار نشرٍ عربيّة، ومقاطعةُ الصهيونيّةِ وداعميها: ذلك كلُّه جزءٌ من مشروعٍ واحدٍ ومتكاملٍ لخدمة المشروع القوميّ التقدميّ النهضويّ، الذي تشكّل فلسطينُ أحدَ عناوينِه الواضحة.
ثم اكتشفتُ أنّ نشرَ اللغة العربيّة الرشيقة، ذاتِ المضامينِ التقدميّة والإنسانيّة الراقية، إنّما هو عملٌ نضاليّ، لا نشاطٌ موسميّ، أو مكتبيٌّ نخبويٌّ متعالٍ. فلا يكفي أن نؤلِّفَ الكتبَ بلغةٍ عربيّةٍ جميلةٍ وسليمةٍ وقريبةٍ إلى الأطفال والناشئة، الذين نعوِّلُ عليهم كثيرًا في بناء مجتمعٍ عربيٍّ أفضل، بل لا بدّ أيضًا من أن "نَحْملَ" هذه اللغةَ إلى قلب المجتمع الذي نعيش فيه، وأن نروّجَها في صفوفه، وأن نرى بأمّ العين مدى تجاوبِهم معها ومكامنَ نفورِهم منها. هكذا حَمَلتُ كتبي إلى المدارس، والمخيَّماتِ الصيفيّة الشبابيّة، والنوادي، والمكتباتِ العامّة، أثناء الصيفِ وأثناء أسبوع المطالعة العالميّ بشكلٍ خاصّ، وفي مناسباتٍ كثيرةٍ أخرى. ومنذ شهور، ألزمتُ نفسي - عن حبٍّ وإيمانٍ وطواعِيَة - أن أقرأ قصصًا ورواياتٍ عربيّةً قصيرةً أمام مجموعةٍ من فتيانِ مخيّم شاتيلا وفتياتِها كلَّ يوم أحدٍ عند الظهر. وطبعًا لم يكن تقريبُ اللغة العربيّة إليهم هو هدفي الأوحد، وإنّما رسمَ البسمةِ على شفاههم أيضًا وبثَّ شيءٍ من الأمل والفرح في قلوبهم الصغيرة التي أدمنت الشقاءَ والتهجير.
نعم، إنّ اللغة العربيّة، في زمنِ "الرِّدّة السياسيّة" وتفاقُمِ مشاعر الدونيّة الحضاريّة، لهي في حاجةٍ ماسّةٍ إلى "ناشطين" أو مناضلين لغويين. أوَليس الانحطاطُ اللغويّ، وفسادُ الألسن، جزءًا من الفساد العامّ الذي ينبغي أن نواجهَه، مثلما نواجه السرقةَ وهدْرَ المال العامّ؟
***
أعود إلى الكلام على المعجم. في أواخر السبعينيّات من القرن الماضي، قرّر د. سهيل إدريس ود. صبحي الصالح أن يُعِدّا معجمًا عربيًّا - فرنسيًّا، يُكْمل معجمَ المنهل الفرنسيّ - العربيّ الذي كان والدي قد أعدّه مع جبّور عبد النور وبات من أكثر المعجمات تداولًا في الوطن العربيّ إلى اليوم. لكنّهما، أيْ إدريس والصالح، اكتشفا أنّ ذلك لن يكون سليمًا ما لم يُعِدّا قبلَه معجمًا عربيًّا - عربيًّا شاملًا. وكانا يتصوّران أنّهما سيُنجزان هذا الأخيرَ خلال خمس سنواتٍ أو ستّ، لكنّ الاجتياحَ الصهيونيَّ للبنان سنة 1982 عرقل العملَ. وكان المؤلِّفان كلّما عادا إلى استكماله اكتشفا مصادرَ جديدةً ونظرياتٍ حديثةً لم يكونا قد أدرجاها أو لحظاها في خُطّةِ عملِهما.
في 7 تشرين الأوّل 1986، اغتيل الدكتور صبحي الصالح، نائبُ رئيس المجلس الإسلاميّ الأعلى، الذي كان يرأسُه مفتي الجمهوريّة الشيخ حسن خالد آنذاك، وذلك أثناء توجّهه إلى مكاتب دار الآداب في منطقة ساقية الجنزير في بيروت للعمل على المنهل العربيّ - العربيّ. وقد جاء ذلك الاغتيالُ، على ما تبيّن لاحقًا، بهدف إذكاء الفتنةِ داخل "الصفّ الإسلاميّ." وبعد ثلاثة أعوام، وتحديدًا في 16 أيّار 1989، اغتيل المفتي حسن خالد نفسُه، ضمن المخطَّط الفتنويّ ذاتِه، لعن اللهُ مَن يريد إيقاظَه اليوم. وكنتُ قبل اغتيال الشهيد الصالح بأربعة أعوام قد بدأتُ مساعدةَ والدي (لكنْ "على الخفيف") في أعمال المعجم، فاضطُررتُ بعد الاغتيال إلى أن أحلَّ محلَّ الشهيد من أجل إتمام العمل، وذلك بالتزامن مع دراستي في نيويورك. غير أنّ العمل طال، لأسبابٍ متعدّدة، على رأسها انهماكي في أعمال المجلة و"المقاطعة،" ولم ينتهِ حتى اللحظة.
لستُ في وارد تَعداد مميِّزات هذا المعجم العتيد، في هذا الوقت القصير. ولكنّني أجزِمُ أنّه سيشكّل كنزًا للمجتمع العربيّ والطلّاب والمثقّفين العرب والمستعرِبين. سيكون المنهل العربيّ - العربيّ أضخمَ معجمٍ عربيٍّ حديث، وسيكون مليئًا بالاستشهادات. وهو يحاول أن يتقصّى تطوّرَ الكلمة، التي يُدْرجُها كما تُكتبُ، وإنْ أحالَ على جَذْرها عند شرحِها. وقاموسُنا، الذي نتوقّع أن يأتي في ثمانية آلاف صفحة من الحجم الكبير، لا يُهْمل المفرداتِ الحديثةَ التي جاءت عن طريق الصِّحافة والفنونِ والعلومِ والنقد، ولا تلك التي جاءت عن طريق التعريب، ولا عن طريق العامّيّات في بعض الحالات الخاصّة. وآمل أن تكون لنا وَقفةٌ أخرى هنا للكلام عليه عند الانتهاء من إعدادِه ونشرِه.
***
اللغة العربيّة وآدابُها تواجه عشراتِ المشاكل، التي لن تكفيها ساعاتٌ طوالٌ من الخُطَب. أمّا المسؤولون عن هذه المشاكل فيتوزّعون بين المدرسة والجامعة والحكومةِ والإعلامِ والأهلِ والناشرين والقوى السياسيّة والمثقّفين واللغويين أنفسِهم.[2] بكلماتٍ أخرى: إنّ مشروع تطويرِ اللغة ونشرِها لا يمكن أن يقعَ على كاهل طرفٍ دون آخر، وإنّما هو جزءٌ من ورشةِ نهوضٍ ثقافيّ - تربويّ - سياسيّ - اقتصاديّ شامل، يَلْحظ اللغةَ والأدبَ والخيالَ والإبداع عاملًا رئيسًا في تقدّم الأمم، ويَنبذ الفكرَ الذي يعتبر "التقدّمَ" ماثلًا في ناطحاتِ السحاب والأبراجِ السامقة و"سوليديرات" النهبِ المكشوف والاستهلاكِ العبثيّ. وهذا المشروع هو ضمنَ ما آمُلُ أن نناقشَ بعضَ ملامحِه الآن.
أجدِّد شكري لدعوتكم الكريمة، وأرحِّب بمداخلاتكم وأسئلتكم.
ضاحية بيروت الجنوبيّة
* الكلمة التي ألقاها رئيسُ تحرير الآداب، بمناسبة اليوم العالميّ للغة العربيّة، بدعوةٍ من كلّيّة التربية في جامعة العلوم والآداب اللبنانيّة (USAL).