يدعوني الواجبُ الأخلاقيّ والنضاليّ إلى الإضاءة على سيرة مقاومين من بعلبك، نذروا أنفسَهم للدفاع عن أرضهم ضدّ كلّ مَن دنّسها؛ بدءًا بالأتراك، ومرورًا بالإنكليز والفرنسيين، ووصولًاإلى هزيمة الإسرائيليين في معركتَي الهراوي والمالكيّة. وسأقوم بذلك في سلسلة مقالات، هنا مقدّمتُها.
في مقاومة الأتراك
شبّت الحربُ العالميّة الأولى، فقام المستعمِرُ التركيّ بمصادرة الحبوب وكلِّ ما يَلزم الجيشَ التركيّ من تموينٍ وخيول، وفَرض التجنيدَ الإجباريَّ على الشباب، واعتَقل العديدَ من البعلبكيين، وأمر جمال باشا بإعدام بعضهم.كما نفى الزعماءَ الوطنيين، كالمطران أغابيوف معلوف. وعمل الأتراكُ أيضًا على التغيير الديمغرافيّ، عبر تهجير عائلات بعلبكيّة إلى الأناضول، واستحضارِ أخرى تحلّ مكانَها في بعلبك.
كان التمادي في الظلم دافعًا إلى إعلان التمرّد المدنيّ والسياسيّ والاقتصاديّ بعد أعوام. وهذا ما بدأ بقطع طُرق الجيش التركيّ، وسلبِ المؤن والأموال والسلاح المرسَلة إليه. ثمّ انضمّت العشائرُ إلى التمرّد، الذي امتدّ من جرود بريتال حتّى جرود الهرمل. فأباد الثوّارُ الكثيرَ من المفارز العسكريّة، واستولوا على ما فيها من تموين وسلاح.
خشي الأتراك أنّ يتحوّل هذا التمرّد إلى ثورة تهدف إلى خلق سياسةٍ استقلاليّةٍ عربيّة، تنتشر عدواها إلى سائر الأنحاء. لذا، نُصبت المشانقُ في ساحة سراي بعلبك، فاستيقظ الناس على منظر الأجساد وهي تتدلّى على أعوادها.
في العام 1918، بدأتْ فلولُ الجيش التركيّ المنهزم بالوصول إلى بعلبك للانتقال إلى حمص، فاستقبلهم البعلبكيّون رشقًا بالبيض والبندورة، وواجههم الثوّارُ بالقتل والاستيلاء على ما يحملون.
في العام 1919، أسّس سبعةُ رجال جمعيّة "العربيّة الفتاة."(1) وكانوا قد جاءوا من جنين ودمشق وبعلبك وبيروت وبغداد، وانضمً إليهم البعلبكيّان حسين حيدر وصالح حيدر.
في مقاومة الفرنسيين
في العام 1925 اندلعت الثورةُ السوريّةُ ضدّ الانتداب الفرنسيّ. وتمثّلتْ بعلبك في أحد زعمائها، توفيق هولو حيدر، الذي اعتُبر من "فحول" الثورة. وكانت بعلبك سبّاقةً إلى مقاومة الفرنسيين أثناء دخولهم المدينة، وكان أكثرُ أسلحة الثوّار تطوّرًا هو " المتريّوز."(2)
تواصل توفيق هولو حيدر مع زعماء العشائر والعائلات، وحضّهم على الثورة ضدّ الانتداب، فلاقت دعوتُه ترحيبًا، وانضمّ الكثير إليها. وكان ناشر الدعوة إلى الثورة في بلدة نحلة، في جرود بعلبك، هو محمد علي اليحفوفي.
حاول الفرنسيّون، عبر المتعاونين معهم، إبرامَ اتّفاقيّاتٍ مع الثوّار الذين تضاعفتْ أعدادُهم. لكنّ توفيق هولو أعلن أنّ الثورة مطلبُ شعبٍ يتمسّك بحريّته ويرفض المساومة، وبدأ التحضير للمواجهة.
في العام 1926 باغت الثوّارُ المحتلَّ، وأوقعوا في صفوفه عشراتِ القتلى. فاستقدم الفرنسيّون قوّةً كبيرةً ليستعيدوا هيبتَهم وينتقموا لهزيمتهم. لكنّ المجريات لم تكن لصالحهم، إذ انضمّ عددٌ لا يُستهان به من المجنّدين إلى صفوف الثوّار، فأخفق المستعمِرُ في الحفاظ على ماء الوجه.
سعى توفيق هولو إلى تجنيد أكبر عدد استعدادًا لردّة فعل المحتلّ، فوجد التجاوبَ منقطعَ النظير. ويعود ذلك إلى عوامل عديدة، منها: الشعور القوميّ العربيّ، والحماس الدينيّ، والطموح إلى تبوّء مناصب في حكومة ما بعد الانتصار.
تجمّع الثوّار في جرود اللبوة (وهي قرية في شمال مدينة بعلبك)، وتصدّوْا على مدى سبع ساعات لحملة عسكريّة قادمة للمؤازرة، فقتلوا عددًا كبيرًا منهم، بمساعدة عشيرة آل دندش، ولا تزال جثامينُ قتلاهم ماثلةً حتّى اليوم في مقبرة الفرنسيين في رياق.
ثمّ جاء الشتاءُ ببرده وثلوجه، فتعذّر على الثوّار البقاءُ في مواقعهم الجبليّة، وتوجّهوا إلى الغوطة ليشاركوا في المعارك السوريّة الدائرة هناك.
في العام 1928، استتبّ الأمرُ للفرنسيين، فعوقبتْ بعلبك على مقاومتها للانتداب، وجُرّدتْ من صفتها كـ"محافَظة،" وأُعلِنت "قضاءً" أُلحق بمحافظة زحلة (في حين كانت زحلة ــــ تاريخيًّا ــــ قضاءً تابعًا لمحافظة بعلبك).
في العام 1943، أسهمتْ بعلبك في صنع الاستقلال. لكنّها لم تتذوّقْ من حلاوته إلّا الإهمالَ والتجاهلَ والتمادي في الإفقار. وهذه حالُها، حتّى يومنا هذا، بل ازدادت سوءًا.
في مقاومة الإسرائيليّين سنة 1948
في العام 1948، تجنّد البعلبكيون للدفاع عن فلسطين بقيادة النقيب محمد عقيل زغيب، وهو ضابطُ ارتباط في القيادة العامّة للجيوش العربيّة. وعندما لمس التخاذلَ العربيّ، تخلّى عن المراكز والحياة المكتبيّة، وشكّل سريّةَ المتطوّعة البعلبكيّة اللبنانيّة من العسكريين المتقاعدين: صالح حمزة، وأسعد مصطفى حمزة، وعلي محمود شبشول، وعلي حسين حمزة، وأحمد قاسم حليحل، وصبحي شقير، ومحمد مراد، وعلي مصطفى عبد الساتر، وحسن شكر، وحسن رعد، وحسين محمد حمزة، وجواد علي رضا الجمّال، ونايف الموصلّي، ومحمد قاسم رعد، وعلي حسين العوطة. وانضمّ إليهم من المدنيين عددٌ لابأس به. ومنهم: عقاب شلحة، وديب الملط، وحسن محمد شلحة، ومحمد حسين صلح (أبو ماجد ) وآخرون لم تردْنا أسماؤهم.
أظهرت السريّةُ وقائدُها ضروبًا نادرةً من البطولة والتضحية، وخاضوا معاركَ مشرفةً تكبّد فيها العدوُّ الإسرائيليّ خسائرَ فادحةً، وانتصروا عليه في موقعة "الهراوي،" وتمركزوا في مواقعه الدفاعيّة الأماميّة. وعندما شنّ العدوُّ الإسرائيليّ هجومًا ضاريًا على المالكيّة، استبسلت السريّةُ، وثبتتْ في مواجهة الغزاة ــــ على عكس الجيوش العربيّة التي كانت تتقهقر في معارك أقلَّ شراسةً ــــ وأُصيب القائد برصاصةٍ اخترقت صدره، لكنّه بقي في المعركة حتّى سقط مغمًى عليه، فنُقل إلى المستشفى، وما لبث أن فارق الحياة. وكان معه في الخندق أحدُ المعمّرين، علي عيسى فرج أبو معروف، والنائب معروف سعد، اللذان تعرّضا لإصاباتٍ طفيفة.
صمد البعلبكيّون صمودًا تاريخيًّا. وساندهم ونسّق معهم، يومها، المقدّم خطّار حيدر، الذي كان مسؤولًا عن فرقة الناقورة؛ وكذلك "نسرُ الجوّ السوريّ،" فريد حيدر (وهو سوريّ الجنسية وبعلبكيّ الولادة)، الذي نفّذ أكثر من غارة جويّة على الإسرائيليين، مساندًا القوّةَ التي كانت تقاتل على الأرض. ولدى تدخّل الطيران الحربيّ البريطانيّ، أُرغم البعلبكيّون على الانسحاب باتّجاه الأراضي اللبنانيّة.
أثناء تشييع الشهيد النقيب محمد زغيب، اعتلى المنبرَ رفيقُه في الخندق، النائب معروف سعد، الذي أشاد ببطولته واستبساله. وقال إنّه كان بجانبه رجلٌ ثمانينيٌّ هو أبو معروف علي فرج ــــ قتلَ اثنيْ عشر إسرائيليًّا، وكان في ودّه أن يزيدَهم واحدًا، لكنّه استُشهد قبل ذلك، فكان هو الثالث عشر.
في الثورة سنة 1958
في العام 1958، كانت بعلبك أوّلَ مدينةٍ لبنانيّة تعلن الثورةَ على الرئيس كميل شمعون، الذي رغب في ضمّ لبنان إلى حلف بغداد ومشروع آيزنهاور. فقد شهدتْ بعلبك أوّلَ اجتماع لمعارضة خطّة شمعون ورُفع فيه شعار "بعلبك زهرة سوريا." ثمّ أدّت دورًا في الثورة، التي عمّت الساحةَ اللبنانيّة، بسبب قربها من الحدود السوريّة وتدفّقِ الأسلحة عليها، بقيادة رئيس مجلس النوّاب آنذاك صبري حمادة. وظلّت المدينة في يد الثوار حتّى نهاية ولاية شمعون وتولّي فؤاد شهاب سدّة الرئاسة.
في التصدّي للدخول السوريّ سنة 1976
في العام 1976،دخلت القواتُ السوريّة لبنانَ تحت اسم "قوّات الردع العربيّة." وأثناء محاولتها دخولَ بعلبك، تصدّت لها الأحزابُ اللبنانيّة المنضوية في "جبهة الرفض،" واشتبكتْ معها في معاركَ عنيفة.
حوصرتْ بعلبك، وبعد مفاوضات مع فعاليّات المدينة، دخلتْ قواتُ الردع، فعمدتْ إلى ملاحقة كلّ الكوادر والعناصر التي قاومتها، حتّى تحوّلتْ بعلبك إلى مدينة أشباح: في النهار مداهمات، وفي الليل مقاومة.
استمرّ ذلك الوضع حتّى العام 1978، حين توقّفت المداهمات بعد أن أصبح أغلبُ الكوادر الحزبيّة إمّا في المعتقلات، أو في المقابر. ونجا من نجا وتمكّن من مغادرتها خلسةً.
في مقاومة عدوان تمّوز 2006
وكان لبعلبك، في حرب تمّوز 2006، نصيبٌ من القصف الإسرائيليّ العنيف الذي دمّر العديدَ من أحيائها وبناها التحتيّة، والمؤسّسات الطبّيّة والاستشفائيّة. واستُشهد العديد من أبنائها في القصف الهمجيّ، الذي كان ردًّا على كون بعلبك خزّانًا للمقاومة لا ينضب، ولكون بعض قادة المقاومة من أبنائها قد ساهم في تحصين المقاومة ومدِّها بالرجال وبخططِ المواجهة التي لقّنت العدوَّ الإسرائيليَّ درسًا لن ينساه.
تصدّى أهل بعلبك للقصف والعدوان، وعوّقوا بعضَ عمليّات الإنزال بالأسلحة الفرديّة المتوفّرة. وسقط العديد من الشهداء في القرى، ومنها قرية "الجماليّة" التي سقط منها شهداء من آل جمال الدين بالمواجهة المباشرة مع طائرات الأباتشي.
بعلبك
ملاحظة: اعتمدتُ في المعلومات التاريخيّة على كتاب تاريخ بعلبك (جزءان)، للمؤرّخ الدكتور حسن عبّاس نصرالله، مؤسسة الوفاء، 1984.
1- تأسّست الجمعيّة على يد سبعةٍ من الطلّاب، هم: عوني عبد الهادي ورفيق التميمي ومحمد عزّة دروزة من فلسطين، ومحمد البعلبكي ومحمد رستم حيدر من لبنان، وجميل مردم بك من سوريا، وتوفيق السويدي من العراق.
2- رشّاش قديم متعدّد الفوّهات، يُشغّل باليد على مرحلتين، ويطلق 25 طلقة مع كلّ تعبئة. مشهد تفصيليّ لآليّة عمله: https://www.facebook.com/Malwmataskrya2/videos/757525384328976/