كان الأستاذ حسن كسر قد تعهّد بكتابة حلقاتٍ من سيرة بعلبك النضاليّة. واستهلّ حلقاتِه بمقدّمةٍ نُشرتْ في الإصدار الماضي من الآداب الإلكترونية. هنا الحلقة الأولى، وتختصّ بالمناضل عُقاب شلحة.
عُقاب شلحة من مواليد 1922. أسماه والداه عُقابًا رمزًا للصلابة والعنفوان. وقد انعكس الاسمُ في سلوك هذا الشاب الأمّيّ الفقير الذي يعمل في الزراعة وتربيةِ الماشية.
مع الغزاة البريطانيين والفرنسيين
عندما بلغ العشرين، وقعت الحربُ العالميّةُ الثانية، فكان شاهدًا على دخول الغزاة البريطانيين والفرنسيين إلى الأراضي اللبنانيّة، وراح مع أترابه يُغِيرون على قوافلهم، ويَسْلبون ما لديهم من أسلحةٍ وتموين.
ذاتَ يوم، راقب مجموعةً من العسكر، ولاحظ أنّهم يخبِّئون السلاحَ في الفُرَش العسكريّة. وفي الليل، تسلّل بينهم، وحمل فرشةً، وانطلق مسرعًا. فتبيّنَ له، لدى وصوله برَّ الأمان، أنّ في داخلها عسكريًّا غافيًا!
مع فلسطين
سنة 1948، كان عُقاب من أوائل الملبّين ــــ من بعلبك ــــ لدعوة الالتحاق بالجيش الشعبيّ والمقاومة. فأُصيب في معركة المالكيّة، التي كان يقودُها الشهيد محمد زغيب وعلي فرج. غير أنّ الخبر وصل إلى أهله عن استشهاده، فأقاموا العزاءَ. لكنّه تمكّن من تجاوز الحدود وقرى الجنوب، ووصل بعلبك حاملًا جراحَه، ودخل منزلَ أهلِه ليشاركهم مراسمَ عزائه!
هُزمت الجيوشُ العربيّة، وهُجّر الفلسطينيون، ووصل العديدُ منهم إلى بعلبك، فأقاموا في ثكنتيْ "غورو" و"ويفل." لكنّ بعضَ المارقين فَرضوا خوّاتٍ على الفلسطينيين، ونهبوهم ما معهم، فانبرى عُقاب وزملاؤه للتصدّي لهم، وألزموا أنفسَهم حراسةَ ضيوف بعلبك وحمايتَهم.
ثورة 1958
بدأت الانتفاضةُ الشعبيّةُ اللبنانيّة في ذلك العام على أثر مشروع آيزنهاور، فالتحق عُقاب بها. وحين زَرع الجيشُ اللبنانيّ الألغامَ لكي يعوِّق تحرّكَ الثوار، راح عُقاب، ومن دون تدريبٍ مسبَّق، يبحث عن هذه الألغام في محيط ثكنة الشيخ عبدالله، فيعمل على نزع صواعقها وحملِها إلى الثوّار!
كما أنّه جعل من بيته مركزًا لحركة الضبّاط السوريين المكلّفين، من عبد الحميد السرّاج، دعمَ الثوّار ومساندتَهم. ويُذكر أنّ قرية إيعات، وقتَها، كانت محسوبةً على الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، المؤيِّد لمشروع آيزنهاور. فأبلغ عُقاب أهلَ القرية أنّه زرع ألغامًا في محيطها، وعند مداخلها. وبعد مفاوضاتٍ كثيرة بين قيادة الثورة وفعّاليّات القرية، تقرّر نزعُ الألغام، وطُلب إليه أن يفعلَ ذلك. وإذ به يقترب من أوّل لغمٍ وينتزعه برجله، ليتبيّن أنّ كلَّ الألغام التي زرعها كانت علبَ سردين فارغةً!
انفصال سنة 1961
فترة انهيار الوحدة السوريّة ــــ المصريّة كانت بمثابة السمّ الذي تجرّعه كلُّ القوميين العرب. وكان عُقاب من المنتسبين إلى "حركة القوميين العرب،" وكان منهمكًا آنذاك في تعلّم القراءة والكتابة.
بعد الانفصال كُلّف بمهمّة إيصال بيانٍ صادرٍ عن "الحركة" إلى حمص، يدعو إلى رفض الانفصال، فاعتُقل. وعلمتْ أسرتُه، فيما بعد، أنّ الكثيرين صُفّوا جماعيًّا، لكنّها عجزتْ عن التيقّن من أنّه من بين المعدومين. لاحقًا، تمكّن ضبّاطٌ من "الحركة" من تأمين فراره من المعتقل، فسلك الطرقَ الجبليّةَ، عبر الجرود، ليصلَ إلى بعلبك.
مع الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين
تأسّست الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين سنة 1967، فالتحق عُقاب (أبو أحمد) مناضلًا في صفوفها، وحاضنًا لكلّ الفلسطينيّين الذين تعرّضوا للتعذيب والاضطهاد من قِبل "الشعبة الثانية،"(1) وبخاصّةٍ عائلة الشهيد جلال كعوش.
شارك مع الشهيد معروف سعد في تأمين السلاح للمقاومين الفلسطينيين الذين كانوا ينفِّذون عمليّاتٍ سرّيّةً ضدّ العدوّ الإسرائيليّ منطلقين من بعلبك إلى الجنوب. وكان سعد يصل إلى بعلبك بسيّارته الرسميّة، فيَنقل السلاحَ والمقاتلين من منزل عُقاب وعلّام علّام إلى الجنوب لتنفيذ العمليّات، ويعيدهم بعد التنفيذ إلى بعلبك. وكانت "الشعبة الثانية" قد فَرضت الإقامةَ الجبريّةَ في المدينة على كثيرٍ من شباب بعلبك (اللبنانيين والفلسطينيين) ممّن يُشتبَه في مشاركتهم في العمليّات ضدّ الإسرائيليين، لكنّها استثنتْ يومَ الجمعة صباحًا لكي يذهبوا إلى ثكنة أبلح من أجل التوقيع على "كشف مراقبة." وبالرغم من ذلك، كان الشبابُ البعلبكيّ يتسلّلون وينفّذون العمليّاتِ على الحدود مع العدوّ!
إزاء استمرار العمليّات، غيّرت "الشعبةُ الثانية" نهجَها، وألزمتهم بالتوقيع اليوميّ في الثكنة كي تَضْمن بقاءهم في البقاع دومًا.
في العام 1969 اتّخذ عُقاب قرارًا عفويًّا بتحرير مخيّم "ويفل" من سلطة الدولة اللبنانيّة، فتحمّستْ لقراره مجموعةٌ من الشباب الذين اقتحموا المخفرَ وأمروا العسكرَ بالانسحاب. وخوفًا من ردّة فعل ثكنة الشيخ عبدالله، الواقعةِ على هضبةٍ مطلّةٍ على المخيّم، قام هؤلاء الشباب بنصب قساطل "الصوبا" (مدفأة الحطب أو المازوت) على أسطح مباني المخيم، لإيهام الجيش بأنّها مدفعيّةٌ موجَّهةٌ للدفاع عن المخيّم (الذي أطلقوا عليه اسم "مخيّم الجليل")!
بين العامين 1970 ــــ 1975
شارك أبو أحمد في تأمين السلاح للمقاومة الفلسطينيّة من سوريا. بل جعل من منزله مستودعًا للأسلحة: فيه تُجمَّع، ومنه توزَّع.
عرفت الأجهزةُ الأمنيّةُ بمخبأ الأسلحة، لكنّها لم تتجرّأْ على مداهمته، وإنّما اكتفت باعتقال أقاربه للضغط عليه من أجل تسليمها. بيْد أنّ ذلك لم يُجْدِ مفعًا، واستمرّ مخزنُ الأسلحة في نشاطه المعتاد.
الحرب اللبنانيّة سنة 1975
في العشرين من آب 1975، استُشهد ابنُ عُقاب، عبد الكريم، جرّاء القصف الإسرائيليّ على موقع الجبهة الشعبيّة، بالقرب من قرية حام، في الجبل الشرقيّ لبعلبك.
وفي العام ذاته، اشتعلتْ معاركُ عيون السيمان، وكان عُقاب في الثالثة والخمسين، فشارك فيها ضدّ قوى اليمين الانعزاليّ، وأُصيب في قدمه. كما شارك في معركة عينطورة؛ وفي ذلك حكاية:
إذ لدى وصوله إلى المراكز العسكريّة المُطلّة على القرية، وجد القيادةَ مجتمعةً للتخطيط لاقتحامها، وانتظر الجميعُ أكثرَ من ساعة ولم تنهِ القيادةُ اجتماعَها ذاك. عندها، تشاور مع بعض معارفه، وباغتوا القوى الانعزاليّة، التي ظنّت أنّ الهجومَ المركزيّ ضدّها قد بدأ، فتراجعتْ إلى الطرف الغربيّ من عينطورة. إذّاك، وعبر مكبّرات الصوت في الكنيسة، أعلن عُقاب السيطرةَ على القرية، فيما كانت القيادة ما تزال مجتمعةً!
خلال المعركة، أصيب عُقاب بطلقةٍ واحدةٍ في إبهامه وخدّه وكتفه. لكنّه عاد إلى مركز القيادة وآثارُ الدم على وجهه، فاقتحم غرفةَ الاجتماع وهو ينزف قائلًا لهم: "انتو قاعدين هون عم تطقّوا حنك، ونحنا حرّرنا عينطورة!"
أُجريت لعُقاب الإسعافاتُ اللازمة. ثمّ التُقطتْ له صورةٌ اعتمدتْها الجبهةُ الشعبيّةُ لاحقًا لأحد ملصقاتها: رأسُه مغطًّى بالشاش، وفي يده رشّاشٌ حربيّ، وفي الأخرى يرفع علامةَ النصر.
في حزيران 1976، أعلنتْ قيادةُ الحركة الوطنيّة في لبنان الإضرابَ العامَّ احتجاجًا على دخول الجيش السوريّ. وفي العشرين من الشهر عينه، وكان يومَ زفاف ابنه، اقتحم عُقاب اجتماعًا في مقرّ الحركة الوطنيّة يبحث في إعلان الإضراب، وقال لهم: "هلقد بدّه الإضراب اجتماعات؟!" فردّ مسؤولُ الاجتماع العميد غازي الجبالي: "هاد مش شغلك. شغلك عند مراتك."
اعتبر عُقاب هذا الردَّ إهانةً كبيرة، فسارع إلى منزله، وعاد ببندقيّته إلى السوق، وطلب من المحالّ الإقفالَ. ثمّ لاحظ أنّ أحدّ مصفّفي الشعر ما زال يستقبل زبائنَه، فاقتحم المكانَ، ليجد عروسَ ابنه وشقيقاتِها وبناته يصفّفن شعورَهنّ، فألزمهنّ بالخروج، وأجبر صاحبَ الصالون على الإقفال، قائلًا له: "سيتزوّجها ابني من دون مساحيق ولا تصفيفِ شعر."
ثم عاد الى الاجتماع في أقلّ من ساعة، وقال للمجتمعين: "أنتم كذّابون، والسوق أُقفلتْ." ونظر إلى أبي أمجد قائلًا: "إنتَ شغلك عند مراتك!"
في 21 حزيران دخل الجيشُ السوريّ إلى بعلبك بعد اشتباكٍ مع أهاليها، وكاد ابنُ عُقاب، أحمد، يُستشهد بقذيفة. وكان منزلُ عقاب أوّلَ منزلٍ داهمه هذا الجيشُ في بعلبك. اعتُقل عُقاب مرّتين لفترتين قصيرتين، ومرّةً ثالثةً لسنةٍ تقريبًا، وتعرّض في المعتقل لتعذيبٍ شديد، لكنّ الجميع تحدّث عن صلابته أمام سجّانه.
أثناء وجوده في السجن، تعرّض منزلُه للتفجير. والسبب هو أنّ شابًّا فلسطينيًّا يلقّب بأبي حسين، من الجبهة الشعبيّة، لاحقه الجيشُ السوريّ، فلجأ إلى منزل عُقاب، حيث تأمّنتْ له الحمايةُ والمعالجة. ولكنْ، مساءً، وصلتِ الحيَّ سيّارةٌ تُقلّ أربعةَ عناصر من المخابرات السوريّة، فوقع اشتباكٌ معها، وأصيب الأربعة، وتعطّلت السيّارة.
في اليوم التالي، داهمَ البيتَ لواءٌ سوريٌّ مدرَّع . وكانت في البيت خمسةُ أطنانٍ من المتفجّرات مدفونةً تحت التبن. أحرق المداهمون البيتَ من دون معرفتهم بوجود المتفجرّات، بعد أن أخرجوا النساءَ بالقوّة، فسارع أهالي الحيّ إلى إطفاء الحريق من دون معرفتهم أيضًا بالمتفجرّات. الوحيدة التي عرفتْ بالخطر كانت زوجةَ عُقاب، فوقفْت على سطح التبّان (مكان تخزيم التبن) ودفقت الماءَ من الفوهة بالتعاون مع أهالي الحيّ، فأُخمد الحريقُ قبل أن يصل إلى التبن.
صباحَ اليوم التالي عادت قوةٌ معزَّزةٌ، وقامت بتفجير المنزل الذي تحوَل إلى كومةٍ من الأنقاض. فاضطرّتْ عائلةُ عُقاب إلى النوم يوميْن في العراء، لأنّ الجيران كانوا يخافون من غضب المسلّحين السوريّين لو قدّموا لها المأوى. وحين ساعد أحدُهم العائلةَ، عوقب بالاعتقال سبعةَ أيّام.
خرج عُقاب من السجن سنة 1977 بعد صفقةٍ مع قيادة منظّمة التحرير الفلسطينيّة. وخلال اعتقاله أصدرت الحركةُ الوطنيّةُ اللبنانيّة ملصقًا له، وعلى خلفيّة الصورة أعمدةُ قلعة بعلبك الستة، وهو (عُقاب) العمودُ السابع، وكُتب تحتها: "أَفرِجوا عن المناضل عُقاب شلحة من سجون النظام السوريّ الفاشيّ."
بعد زيارة أنور السادات إلى القدس، عُقد مؤتمرُ الصمود والتصدّي في دمشق. وفي هذه الأثناء، اعتُقل ابنُه أحمد، ونُقل إلى منطقة المصنع، حيث مقرُّ المحكمة الميدانيّة، وحُكم عليه بالإعدام. لكنّ التنفيذ كان يحتاج إلى توقيع قائد القوّات السوريّة في لبنان، الذي كان حاضرًا المؤتمرَ المذكورَ. وكان الدكتور جورج حبش في المؤتمر، ممثِّلًا "جبهة القوى الفلسطينيّة الرافضة للحلول الاستسلاميّة." فسارع عبد الرحيم (الابنُ الثاني لعُقاب) إلى لقاء نائب الأمين العامّ للجبهة الشعبيّة، أبي علي مصطفى، وحمّله رسالةً إلى حبش قبل لقاء الأخير بالرئيس حافظ الأسد بساعتين. فطمأنه حبش إلى أنّ البحث في مسألة إعدام أحمد سيكون أوّلَ نقطةٍ للنقاش بينه وبين الأسد. والتفت "الحكيم" حبش إلى بسّام أبو شريف وأبي الطيّب قائلًا: "بدّهم يشكّلوا جبهة رفض، وبدّهم يعدموا الناس، كيف هيك؟"
وبالفعل، لم يَقْبل حبش مناقشةَ أيِّ بندٍ قبل إصدار حافظ الأسد الأمرَ بالإفراج عن أحمد عُقاب شلحة.
وعلى الهامش: كان عُقاب قد شارك في عمليّة تحرير د. حبش من سجون النظام السوريّ سنة 1968!
الاجتياح الإسرائيليّ للبنان سنة 1982
حمل عُقاب بندقيّتَه والتحق بالمقاومين في البقاع الغربيّ في مواجهة العدوّ الإسرائيليّ.
كان دائمًا يتمنّى أن يموتَ شهيدًا. وذاتَ مرّة، سأل الشيخَ محمد علي الرفاعي، الذي كان يحبُّه ويحترمُه: "هل مَن يموت في عمليّة استشهاديّة يكون شهيدًا؟" وجاءه الجوابُ الذي أثلج صدرَه: "شهيدًا شهيدًا." عندها، طلب عُقاب من ابنِه، عبد الرحيم، أن يعلّمَه قيادةَ السيّارة. وبدأ ابنُه بتدريبه فعلًا، ظنًّا منه أنّها رغبةٌ شخصيّةٌ في القيادة لا غير.
لكنّ حلمَ عُقاب لم يتحقّق، إذ مات بهدوءٍ على سريره. وأثناء تشييعه، رثاه الشيخ الرفاعيّ، وأعلن وصيّتَه.
***
كان عُقاب شلحة مناضلًا، أسّس بيتًا للنضال، وأسرةً سلكتْ بمجموعها المسلكَ نفسَه، وذاقت مرارةَ الأهوال، ولم تضعفْ أو تَهَنْ. وحين سأله أبناؤه يومًا: "انتَ شو تركتلّنا؟" أجاب:
"تركتُ لكم، في كلّ ضيْعة، بيتًا!"
بعلبك
1- فرع من المخابرات اللبنانيّة، تميّز بالوحشيّة في التحقيق.