"في يَفاعتي (ولا أريد أن أصدّقَ أنني كبرتُ إلى الحدّ الذي أتحدّثُ فيه عن اليَفاعة كأنّها مرحلةٌ انقضتْ)، وفي المباريات الحسّاسة لفريقي المفضّل في كرة القدم، لم أكن أذهب إلى الملعب كي أشاهدَ المباراة! على العكس، كان مكاني المفضَّل هو ذاك الذي تحتشد فيه فئةُ المشجِّعين الأكثرُ حماسةً، حيث تكاد تنعدم الرؤيةُ: فلا تَعْرفُ بدخول الكرة إلى المرمى إلّا من صيحاتِ الجماهير، ولا بسقوط نجمِ فريقِكَ إلى الأرض إثر مخاشنةٍ تعرَّضَ لها إلّا من شتائمها. هذا على الرغم من أنّ المباريات كانت منقولةً في الغالب عبر التلفزيون؛ وبالإمكان مشاهدتُها تحت جهاز التكييف، بصحبة كوب شايٍ ساخنٍ، مع الاستمتاع بتقنية الإعادة البطيئة.
لم أكن أذهبُ لأشاهدَ، فلِمَ أذهبُ إذًا؟ لأساهمَ في ملء مدرَّجات الملعب - - مع معرفتي بما يمكن أن تصنعَه مدرّجاتٌ - مليئةٌ عن آخرِها بحناجرَ صادحةٍ - من أثرٍ إيجابيٍّ في لاعبي الفريق، وسلبيٍّ في الخصوم... وإنْ كان انفعالُنا المتفلّتُ يُحدث العكسَ أحيانًا.
الخاطر السيِّئ الذي كان يعكّر رضايَ عن مهمّتي الجليلة هو التفكيرُ في ضآلة الفارق الذي يمكن أن يُحْدثَه فردٌ واحدٌ بين عشرات الآلاف، أو صدًى يَخرج من حنجرةٍ واحدةٍ مقارنةً بآلاف الحناجر الهادرة. إنّه العدم! ولكنّني كنتُ أستعينُ على طرد هذا الخاطر بالتفكير أنّ أحدًا لن يساهمَ في هذه الجوقة أكثرَ من مساهمتي: قد يكون أكثرَ بدانةً، ولكنّه حتمًا لن يمتلك جسديْن؛ وقد يكون صوتُه أعلى، ولكنّه لن يمتلك حنجرتيْن. لي في هذا المشهد الرائع ما للجميع فيه، ولكنّه سيكون معي ما لن يكونَه من دوني!
من المؤسف أنّني فقدتُ شغفي بكرة القدم لأسبابٍ لا يتّسع المقامُ لذكرها، ولكنّ طريقتي في التفكير لم تتغيّرْ كثيرًا. أفكّرُ اليوم أنَّ رحلتي في الحياة تشْبه، إلى حدٍّ بعيد، رحلتي إلى الملعب. أسألُ: أيّ أثرٍ عظيم سيتركه فردٌ واحدٌ مثلي؟ وأيُّ فارقٍ سيُحْدثه كونُه شاعرًا أو قاتلًا؟ ليأتي الجوابُ من داخلي سريعًا، وهو أنّني الجرمُ الصغيرُ الذي لا تكتمل دونه لوحةُ العالم الأكبر، وأنّني قد أكون لا شيءَ، ولكنّني قد أكون كلَّ شيء أيضًا!
أفكّرُ في تعلّم الرسم قبل أن أموت، وأقرّر اختيارَ ألوانٍ طافحةٍ بالحياة؛ الحياةِ التي سأبذلها بسخاءٍ وبلا تردّد كي تكون اللوحةُ جميلةً إن اقتضى الأمر."
***
يُنهي شريف كلماتِه ويقذف بها إلى أحضان الفايسبوك. وبعد أن ينظر إلى الساعة، يقرِّر تعديلَ المنشور، مضيفًا إليه وسمَه المفضّل #هَلاوِسُ_السُّحور. يبتسم إذ يتذكّر نصيحةَ صديقه لؤيّ بضرورة تأجيل النشر إلى وقت الذروة، ويتذكّر جوابَه له: "قيمةُ الفكرة تكمن في خروجها حارًّةً، وعلى الكلمة أن تكونَ سريعةً كالرصاصة."
يتذكّر صديقَهما فؤاد، الذي قرأ كتابًا واحدًا لجورج أورْوٍلْ، فانقلبتْ حياتُه رأسًا على عقب. قد يؤيِّده فؤاد في الجدال عن الوقت المناسب للنشر، ولكنّ المنشورَ نفسَه سيُضْحكه كثيرًا.
بعد أن قرأ فؤاد أوروِلْ، بات متعذّرًا إقناعُه بأنّ العالمَ ليس دائمًا "مزرعةَ حيوان"، وأنّ للوصول إلى الفرادة طُرُقًا أخرى غيرَ الاختلاف لمجرّد الاختلاف، وأنّ الانضمامَ إلى الجماعة ليس دائمًا "انضواءً في القطيع،" وأنّ الثقافةَ لا تُختَصَرُ أبدًا بطاقيّةٍ مسطّحةٍ ونظرةٍ ساهمةٍ وسيجارةٍ لا تفارق أصابعَ اليديْن.
***
مع هذه الأفكار، راح شريف يغالب النومَ، فغلبه هذا الأخيرُ بعد وقتٍ قصير. وفي الضحى، استيقظ من دون أن تتسنّى له قراءةُ التعليقات على هلاوسه؛ فما أيقظه هو هاتفٌ من لؤيّ يستعجله فيه للالتحاق بتظاهرةٍ دعا إليها الرفاقُ فجأةً أمام المصرف المركزيّ بعد أن هبط سعرُ صرف الليرةِ اللبنانيّة إلى مستوًى غيرِ مسبوق.
في الطريق، يحدّثه لؤيّ عن فؤاد الذي اعتذر عن المشاركة في الاعتصام متعلِّلًا بنوبة قيْءٍ مفاجئةٍ وآلامٍ حادّةٍ في البطن. يبتسم إذ يفكّر في السبب الحقيقيّ لاعتذار فؤاد: وهو ترفُّعُه عن مشاركة "الجماهير" في "صراخها" الأجوف.
"صحيح أنّ حاكمَ المصرف قد سقط، وأنّ المطالبَ قد تحقّقتْ كلُّها، وأوّلُها تعافي العملةِ الوطنيّة مجدَّدًا. إلّا أنّ هذا لم يكن بفضل الأعداد الغفيرة التي زحفتْ إلى المصرف في ذلك اليوم": هكذا خاطب فؤاد أحدَ أصدقائه بعد شهرٍ من الحادثة. وأكمل:
"الفارق صنعه شخصٌ واحدٌ بفرادته وتميّزه. مثقفٌ واحدٌ قادرٌ على صناعة الفارق، كما كنتُ أقولُ لكم دائمًا. لو لم يُستشهدْ صديقي شريف برصاص الحارس الشخصيّ لحاكم المصرف، لَما حدث شيء، ولانفضَّ قطيعُكم خائبًا، بلا نتيجةٍ تُذْكر. دعك من منشور شريف الأخير، ومن الضجّةِ التي أحدثها بعد رحيله. أنتم لم تفهموه أصلًا على النحو الذي أراده الرجل. آه لو أنكم تقرأون أورويل!"
مع الجملة الأخيرة، لوّح فؤاد بكتاب أورويل، 1984، قبل أن يغادر غاضبًا، مخلّفًا الكثيرَ من الدهشة.
بيروت