في هذه الحلقة يتابع الأستاذ حسن كسر تناولَه لسِيَرِ مناضلين من بعلبكّ اللبنانيّة، وخصوصًا تاريخهم في مقاومة "إسرائيل" ودعمِ المقاومة الفلسطينيّة. وهو في ذلك لا يستند إلى ذاكرته وحدها بل إلى شهود عيان ومناضلين عاصروا أحداث ذلك التاريخ أيضًا. في الحلقة الأولى تناول سيرة المناضل عُقاب شلحة، وهنا يتناول سيرة الشهيد حمدان (أبي جهاد).
من بادية حمص إلى معسكر الجبهة الشعبيّة في بعلبك
أتى من أعماق البادية الحمصيّة، وعاداتها التقليديّة. وإحدى هذه العادات أنّ الأنثى، منذ ولادتها، تُخطَب إلى ابنِ عمّها، مهما باعد العمرُ أو الثقافةُ بينهما. وحدث أن جاء موعدُ الزواج، وكانت الأنثى في الثامنة عشرة وابنُ عمّها في الأربعين. مانع شقيقُها الأصغر، حمدان، الزواجَ، فتصدّى له والدُه وأعمامُه وأشقاؤه، فقرّر الهجرة.
توجّه حمدان إلى بعلبكّ، فوجد فيها الأهلَ والأصحاب. ثمّ وطّدَ العلاقة بعبد العزيز صلح، الذي كان عضوًا بارزًا في حركة القوميّين العرب، وعلى صلة وثيقة بالجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وخصوصًا لجهة تأمين وصول عناصرها إلى دمشق عبر طريق الجرود (وبالعكس)، فشاركه في تجارة المواشي. وخلال سكنه في حيّ الشراونة، تعرّف إلى إحدى بنات الحيّ، وعقد قرانَه عليها، وأصبح يُعرف بـ "أبي جهاد."
في تلك الفترة، كان يتردّد إلى بعلبك شخصٌ اسمُه أبو صالح موسى العريضي، وهو قياديّ في الجبهة الشعبيّة، وعلى صلة حميمة بعبد العزيز صلح. التقى هذا الأخيرُ أبا جهاد، وعرضَ عليه الانتسابَ إلى الجبهة الشعبيّة، فوافق. ثمّ رغبَ أبو جهاد في أن يَخضع لدورةٍ عسكريّة، وكانت تقام آنذاك في الأردن، فأوصله عبد العزيز إلى دمشق، ومن هناك أكملت "الجبهة" إيصالَه إلى الأردن.
في الأردن، اكتسب أبو جهاد خبرةً عسكريّةً أهّلته لأن يتولّى مسؤوليّةَ التدريب في معسكرات "الجبهة." فأشرف على تخريج أكثر من دورة تدريبيّة، وحجز لنفسه موقعًا قياديًّا بسبب التزامه وكفاءته.
عندما استعادت المقاومةُ الفلسطينيّة المخيّماتِ الفلسطينيّةَ من السلطة اللبنانيّة بعد هزيمة العام 1967، أسّست الجبهةُ الشعبيّة مركزًا في مخيّم الجليل، الواقعِ على المدخل الجنوبيّ لمدينة بعلبكّ، وأطلقتْ عليه اسمَ "معسكر الجليل." تسلمّ أبو جهاد مهمّةَ تدريب المقاتلين من أبناء هذا المخيّم، وممّن يرغب من البعلبكيّين الذين التحقوا بصفوف المقاومة بالعشرات.
حمدان (أبو جهاد): الإنسان
لم يقتصرْ نشاطُ حمدان على العمل في صفوف "الجبهة،" ولا على المجال العسكريّ وحده، بل أعطى الواجبَ الإنسانيَّ والاجتماعيَّ حيّزًا من اهتماماته، ولطالما آثر الغيرَ على نفسه. أذكرُ، مثلًا، أنه أتاني، في أحد الأيّام، ومعه بدويٌّ بستّة أصابع في قدمه. فاتّصلتُ بالدكتور مصطفى، أحدِ الأصدقاء الجرّاحين، فأجرى له عمليةً جراحيّةً لبتر الإصبع الزائد، وتحمّل حمدان كلفةَ العمليّة كاملةً.
وذات يومٍ آخر مرّ على الرفيق زهير وسأله: "معك مصاري؟" فأجابه زهير: "معي 50، خذ 25، واتركْ لي 25." ثمّ ذهبا إلى السوق. هناك، وَجد حمدان أنّ أحد الرفاق كُسرتْ ساقُه، وهو فقيرُ الحال، فتقدّم وسلّم عليه وأعطاه ما معه. استغرب زهير وقال لحمدان: "ولكنّك استدنتها منّي لأنّك في حاجةٍ إليها!" فردّ عليه حمدان: "هذا الرفيق أكثرُ حاجةً منّي إليها!"
وأذْكر أيضًا أنّه كانت في الحيّ أرملةٌ لها ثلاثةُ أولاد، ولا معيلَ لهم. فتكفّل حمدان بإعالة هذه الأسرة، وأدخل الأولادَ إلى المدرسة.
وفي أحد الأيّام، وكان قد تزوّج، عمد مع رفاقه إلى توزيع كمّيّة من السكّر على المحتاجين بعد نفاد هذه السلعة من السوق. ثمّ جاء بهم إلى بيته، وقال لزوجته: "الشباب بدهم شاي." نادته إلى المطبخ وقالت: "لكنْ لا سكّر عندنا." سمع أحدُ الشباب ذلك، فأتى بحصّته، وقال لحمدان: "اقسمْها بيني وبينك."
لم يكن حمدان، إذن، ليُؤْثر نفسَه على غيره. فساعد المحتاجَ، وعاد المريضَ. وكانت في الحيّ عادة: كلُّ مَن يعود المريضَ يضع تحت وسادته ما يستطيع من الدراهم مساعدةً له؛ فإذا تعافى سدّدها. غير أنّ حمدان لم يقبل أن يستردَّ ما سمحتْ به نفسُه.
حمدان وعمليّةُ التابلاين
لبسالته وانضباطه، اختارته الجبهةُ الشعبيّة لكي يقود عمليّةَ تفجير أنابيب التابلاين في الجولان السوريّ المحتلّ. استُدعيَ إلى مكتبها في دمشق، فانطلقَ من بعلبكّ، برفقة أحد اعضاء الجبهة ("البكراوي"). ورافقهم عبد العزيز صلح، عبر الطرق الجبليّة، إلى الداخل السوريّ، ومن ثمّ إلى مكتب "الجبهة." هناك، علم أنّه سيقود العمليّة، بمشاركة عنصريْن رآهما لأوّل مرّة، وكانا خبيريْن بمنطقة العمليّة.
انطلقتْ مجموعةُ الأربعة مساءً إلى حيث كانت تنتظرهم التجهيزاتُ ولوازمُ العمليّة. اقتربتْ لحظةُ التفجير، فتوجّه حمدان على رأس المجموعة، بخطًى ثابتةٍ وإرادةٍ فولاذيّة. كان سلاحُ المجموعة الفرديّ رشّاش "كارلو."حين بلغوا الموقع، تقدّم أبو جهاد ليضعَ العبوةَ الناسفة التي ستعمل بواسطة وصلةٍ من الفتيل المتفجّر. ابتعد عشرين مترًا تقريبًا، وأشعل الفتيلَ يدويًّا، فقذفتْه قوّةُ الانفجار أمتارًا، وسقطَ منه السلاح. قال لرفاقه إنّ عليه البحثَ عن سلاحه، إذ لن يتركه للصهاينة. اقتحم حمدان كثافةَ الدخان واللهب، وعاد كتلةً سوداءَ لا يظهر منها إلّا بصيصُ عينيه. وكان ممسكًا سلاحَه بيمينه، وهو يقول:
"الثائر لا يتخلّى عن حياته،" أيْ سلاحه.
كان يحدّثني، كلّما التقينا، عن العمليّات العسكريّة التي تنفّذها "الجبهة،" ولم ينسبْ يومًا أيَّ عمل ٍإليه شخصيًّا، أو يذكرْ مشاركتَه فيه، بل كان يكتفي بمدح المجموعة التي نفّذتْه ويصفهم بـ"الأبطال." وبين وقت وآخر، كنّا نلتقيه في جلسة تدريبيّة عن فنون القتال والمواجهة وزرعِ العبوات الناسفة وكيفيّةِ صناعة المولوتوف، ونتحيّن الفرصة لنطبّق عمليًّا ما تدرّبنا عليه. وفي ذلك الوقت، أطْلعنا على العمليّة المهمّة التي نفّذها مع البكراوي، أيْ عمليّة التابلاين.
حمدان وخطف ُالطائرة الكو يتيّة
تعرّضت الجبهةُ الشعبيّة لضائقةٍ مادّيّةٍ قاسية، فكانت عمليّةُ خطف الطائرة الكويتيّة وإجبارها على الهبوط في مطار دمشق الدوليّ مقابل خمسة ملايين دولار.
وقتَها، استُدعي أبو جهاد، وأُبلغ بأنه سيشارك في عمليّة، وبأنّ موجباتِها تستدعي أن يضعَ على عينيه نظّارات، وأن يرتدي بذلة. وكانت تلك هي المرّةَ الأولى في حياته التي يرتدي فيها ثيابًا كهذه.
ذهبنا إلى السوق، وتسوّقنا الثيابَ المطلوبة. وأثناء تدريبه على عقد ربطة العنق، أعلمَنا بأنّه سيشارك في عمليّة عسكريّة لا يعرف عنها شيئًا أبدًا إلّا قبيل تنفيذها، وذلك حرصًا على سلامة الخطّة المرسومة. التقيناه بعد نجاح العمليّة، فحافظ على السرّيّة، التي هي من أولويّات النجاح.
حمدان وعمليّةُ الشريط الحدوديّ
يروي أبو كفاح، يدُ أبي جهاد اليمنى، وشارك معه في أغلب العمليّات التي نُفذّتْ، تفاصيلَ عمليّة عند الشريط الحدوديّ الفاصل بين لبنان وفلسطين. يقول:
"كنّا نقيم نقاطَ مراقبة بالقرب من الشريط الحدوديّ، بين الصخور والأشجار الكثيفة، لمراقبة آليّات العدوّ. ولم تكن لدينا وسائلُ نقل، فكنّا نحمل سلاحَنا وعتادَناعلى ظهورنا، ونتجاوز مواقعَ الجيش اللبنانيّ الذي كان يعوِّق تحرّكاتِنا. رصدنا مجنزرةً وسيّارةً ودبّابةً على الطريق الواصل إلى مستعمرة الخالصة (كريات شمونة) القريبة من القرى السبع اللبنانيّة المحتلّة. شارك في العمليّة: أبو جهاد، وأنا خالد الرفاعي (أبو كفاح)، ويوسف الحطّيني، وأبو حسين زلط، وثلاثة رفاق آخرين لا تحْضرني أسماؤهم. أجهزْنا على الدوريّة، التي لم ينجُ منها إلّا قائدُها، ودمّرنا الآليّات، وشوهدت النيرانُ تندلع من المجنزرة والدبّابة."
يتابع أبو كفاح:
"تزامنتْ هذه العمليّة، التي جرت شتاء العام 1970، مع ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبيّة قبل 3 أعوام (1967). المفارقة أنّ حمدان أعطى توجيهاتِه إلى رامي قذيفة الـ ب 7 بأن لا يضغط على الزناد إلّا بعد تلقّي الإشارة، ولكنّ الرامي (أبو عُقاب) عندما تأكّد أنّ رمايته محْكمة، ضغط الزنادَ، واندلعت النيرانُ في المجنزرة. كان أبو عقاب ينتظر العقوبة لأنّه خالف التعليمات، ولكنّ حمدان كافأه على صنيعه."
حمدان وعمليّاتٌ أخرى ضدّ العدوّ الإسرائيليّ والمصالح الأميركيّة
وعن عمليّاتٍ أخرى قام بها حمدان، يكمل أبو كفاح:
"قمنا بعمليّة استطلاع في أرض العبّاسيّة بقيادة أبي جهاد (حمدان). وكان على مقربة من المجيديّة، القريبةِ من قرية الغجر، مركزٌ لتجمّع جيش العدوّ وآليّاته وناقلاتِ جنوده. صادفَ وقتها وجودُ بعض رعاة الأغنام في المنطقة عينها، فأصدر أبو جهاد التوجيهات بعدم تنفيذ العمليّة حفاظًا على أرواح الرعاة أوّلًا، وكي لا يكتشفونا ثانيًا، تحسّبًا من أن يكون العدوُّ قد استخدمهم لهذا الهدف."
ويؤكّد أبو كفاح أنّ حمدان شارك في تنفيذ 18 عمليّةً ناجحةً في صفوف الجبهة، توزّعتْ بين عمليّات ميدانيّة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ وعمليّات اختطاف طائرات. ويتابع:
"وتطبيقًا لشعار وراء العدوّ في كلّ مكان، اتّخذت الجبهةُ الشعبيّةُ قرارًا بضرب المصالح الأميركيّة أينما وُجدتْ. فكانت عمليّة النقطة الرابعة الواقعة على طريق بعلبكّ ــــ زحلة، وهو موقع زراعيّ تابع للجامعة الأميركيّة في بيروت، يعمل فيه عددٌ لا يستهان به من المدنيّين اللبنانيّين. كان الهدف تفجير الآليّات الموجودة في المرآب. رُصد الموقع، وحُدّدتْ محتوياتُه، بالإضافة إلى الوقت الذي يغيب عنه العاملون فيه. كان التنفيذ في شهر أيّار، يومَ الأربعاء، قبيلَ منتصف الليل. في هذه العمليّة، شاركتْ قيادةُ بعلبكّ في الجبهة الشعبيّة بحضورها الفعليّ على الأرض. تقدّمت المجموعةُ المولجة بالتفجير، والمؤلّفة من أبي جهاد يعاونُه رفيقان وصلا المرآب، وقاموا بعمليّة التفخيخ والتفجير، التي أدّت إلى عطب الآليّات وإحراقها."
ويكمل أبو كفاح:
"لكنّ الموقع عاد بعد مدّة إلى نشاطه المعهود. فرصدنا خزّانَ المياه الذي يغذّي المزرعة التابعة للجامعة الأميركيّة، وتأكّدنا من جديد من عدم وجود أحد من العاملين أو الحرّاس، وفجّرناه. لم يشاركْ أبو جهاد في هذه العمليّة بناءً على رغبتنا في أن يكون التخطيط والتوجيه منه وأن يَسمح لنا بالتنفيذ. وقد أدّت العمليّتان أهدافهما."
ما يتذكّره رفاقُ حمدان عنه أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة
يقول الرفيق حسن (أبو ثائر):
"مع بدء أحداث العام 1975 في لبنان، طلب حزبُ العمل الاشتراكيّ العربيّ من الجبهة الشعبيّة أن يتولّى أبو جهاد المسؤوليّة العسكريّة في صفوفه، فكان له ما أراد. وقد شارك الحزب مع القوّات المشتركة في حرب الجبل، والكرك زحلة (منطقة الحمّار)، وعيون السيمان (تلّة الجامع)."
ويتابع أبو ثائر:
"كان حمدان دائمًا يأخذ المواقع المتقدّمة أثناء اجتماعات قيادة القوّات المشتركة اللبنانيّة ــــ الفلسطينيّة. ففي موقع الحَمّار (وهي منطقة جبليّة في أعالي مدينة زحلة كان يسيطر عليها حزبُ الكتائب اللبنانيّة)، وردًّا على استشهاد أربعة رفاقٍ من حزب العمل والجبهة الشعبيّة والحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، اتَّخذت القوّاتُ المشتركة قرارًا بعملٍ عسكريٍّ ثأرًا للشهداء ومن أجل سحب جثثهم. تحدّدتْ ساعةُ الصفر. لكنْ، قبلها بساعات، عقدتْ قيادةُ القوّات المشتركة اجتماعًا بحضوري، ألغت فيه قرارَها بعد تدخّل قيادة حركة فتح. وكان أبو جهاد ومجموعته في الموقع المتّفق عليه ينتظرون ساعةَ الصفر. تركتُ الاجتماع وذهبتُ بمعيّة أحد الرفاق (اسمُه "الدحدوح") الذي يعرف مكانَ وجود مجموعة الحزب، وانطلقنا تحت جنح الظلام بين سيرٍ وزحفٍ حتّى وصلنا قبل موعد الانطلاق بنصف ساعة تقريبًا. وأبلغتُ أبا جهاد بأنَّ العملية أُلغيت. فثارت ثائرتُه وقال: "لِمَ الاستكانةُ وجثثُ رفاقنا في أرض الاشتباك؟""
ويختم أبو ثائر كلامَه:
"كان لا بدَّ من الالتزام بقرار الحزب. وهذا دأبُ القوّات المشتركة في أغلب المواقع: تتراجع في آخر لحظة، كماحصل لمخيّم تلّ الزعتر؛ فبعدما تقرّر العملُ على فتح طريق الإمداد الدائم إليه، وحُدّدت ْساعة الصفر، لم تأتِ القوّات المشتركة إلى موقعها، فسقط تل الزعتر في صباح اليوم الثاني. وحدث ذلك في التمام والكمال في عيون السيمان، إذ تُركتْ مجموعةُ الحزب، بقيادة أبي جهاد، في الموقع المتقدّم في تلّة الجامع؛ فقد كانت مهمّتهم تقضي بمنع تقدّم القوّات المهاجمة، لكنهم تُركوا بلا إمدادات وتموين لأكثر من يوم. وأبى أبو جهاد ورفاقه،على الرغم من كلّ الظروف القاسية، التخلّي عن موقعهم حتّى انتهت المعارك وسُحبت القوّات من عيون السيمان."
ويروي "الدحدوح":
"يغتنم أهالي دير الأحمر فترةَ هدوء الاشتباكات فيأتون بعلبكَّ لشراءالموادّ الغذائيّة. وذات يوم، وصلتْ سيّارةٌ تُقل ّأربعة رجال إلى مستودع سمير حليحل في ساحة ناصر، فحملوا ما يحتاجون من موادّ تموينيّة، وهمّوا بالعودة. لكنّ مجموعة من المارقين اعترضت السيّارة واقتادتها إلى أطراف المدينة لمصادرة التموين وما في حوزة الرجال من الأموال."
ويكمل الدحدوح:
"علم حزبُ العمل الاشتراكيّ العربيّ بهذه الفعلة الشنيعة. فأسرع أبو جهاد على رأس مجموعة من الحزب، ولاحق المارقين، وحاصرهم، وفرض عليهم إعادةَ كلّ المصادرات إلى أصحابها. ثمّ واكب السيارة ومن فيها إلى أطراف بلدة ايعات، المحاذية لدير الأحمر، وراقبهم حتىى غابوا عن ناظريْه."
ويختم الدحدوح:
"في أواخر العام 1976، وبعد دخول القوّات السوريّة إلى لبنان بشهرين، اعتُقل حمدان، واقتيد إلى المعتقلات السوريّة، حيث دام احتجازه أحد عشر شهرًا. ثم أطلق سراحُه بتسوية."
كيف استُشهد حمدان؟
الشهيد رياض طه
يروي خالد (أبو سليمان) ما يأتي:
"في العام 1980 جاء اليوم المشؤوم، وهو يومُ استشهاد نقيب الصحافة اللبنانيّة رياض طه، ونقلِ جثمانِه من بيروت إلى الهرمل، مرورًا ببعلبكّ. كان أبو جهاد على رأس مجموعة من الجبهة الشعبيّة المشاركة في المأتم، ولم يحملْ سلاحًا كعادته باستثناء مسدّسه الخاصّ. عند وصول الجثمان أمام معسكر الجليل، توقّف برهةً، ثمّ تابع سيره، ومشت وراءه السيّاراتُ العسكريّة. وقبل الاقتراب من أوتيل بلميرا [المواجِه لقلعة بعلبكّ]، حدث أكثرُ من إشكال مع عناصر من حركة أمل، فتجاوزه حمدان بمرونته المعهودة، حتى وصل الموكب إلى الفندق."
ويتابع خالد:
"هناك، احتدم الاشتباك ُبين عناصر المقاومة الفلسطينيّة بسلاحهم الفرديّ، وأنصار حركة أمل المستعدّين والكامنين والمزوَّدين بالأسلحة اللازمة. وكان رأسُ أبي جهاد هو الهدفَ المباشر؛ فقد كان عند تخريج أيّة دورة عسكريّة يُنهيها بمسيرة عسكريّة تجوب شوارعَ بعلبك، وهو ما اعتُبر تحدّيًا، فاغتنم خصومُه الفرصة لتصفية الحسابات. فاستُشهد ثلاثة كانوا مع حمدان: واحد من الجبهة الشعبيّة، واثنان من جبهة النضال الشعبيّ الفلسطينيّ. وأصيب حمدان إصابة شلّت حركته، وبقي وحيدًا."
ويكمل خالد:
"قُطعت الطرقُ المؤدّية إلى فندق بلميرا، واستحال وصولُ أيّة قوّة إمداديّة إلى الموقع. كانت الخطة جدّ مُحْكمة؛ فالمسلّحون جاءوا من كلّ حدبٍ وصوب، وتمركزوا على أسطح البنايات المجاورة. ثمّ انتقلت الاشتباكات إلى داخل المدينة، وتحوّلتْ بعلبكّ إلى ساحة للقتال والقذائف والقنص لمدة ثلاثة أيّام. وساعد على ذلك رفعُ حواجز الجيش السوريّ من الطرقات، وبعد اليوم الثالث أعيدت كما كانت.
ويختم:
"بقي أبو جهاد يصارعُ الموت أكثرَ من أربع ساعات؛ فقد مَنعتْ كثافةُ نيران المسلّحين ورصاصُ القنص النساءَ من سحبه، فقضى مضرَّجًا بالدماء. وكان قد وصل رئيسُ الحكومة آنذاك، الدكتور سليم الحصّ، ولم يتمكّن من وقف الاشتباكات؛ كما مُنعتْ سيّاراتُ الصليب الأحمر من الوصول إلى بلميرا. وبعد تواصلٍ حثيثٍ بين قيادة المقاومة الفلسطينيّة والقوّات السوريّة نُقلتْ جثّةُ حمدان مساءً إلى معسكر الجليل، حيث مكتبُ الجبهة الشعبيّة. وفي اليوم التالي، وكانت الاشتباكات لا تزال على حالها، نَقلت الجثمانَ كتيبةٌ من الجيش السوريّ وأوصلته إلى المقبرة، حيث وُوري الثَّرى."
***
باستشهاد أبي جهاد، تكرّرتْ مشهديّةُ الطبيب الأرجنتينيّ الثائر تشي جيفارا. وهنا أردّد ما كان يقوله أبو جهاد، بلهجته البدويّة،عن غيفارا (بكلمات أحمد فؤاد نجم وغناء الشيخ إمام):
"مات الجَدَعْ فوق مدفعه جوّا الغاباتْ
جسّد نضاله بمصرعه ومِن سُكاتْ."
هذا غيضٌ من فيضٍ من سيرة هذا المناضل الذي ترك اغتيالُه حسرةً في كلّ مَن عرفه، وبخاصّةٍ رفاقه الذين لم يتمكّنوا من الكلام عنه على الرغم من مرور37 عامًاعلى استشهاده لأنه لم يكن بمقدورهم نجدتُه ولا المشاركةُ في دفنه.
بعلبك