انتظرتْ جدّتي إغفاءةَ أُمّي على الأريكة قبالتَها، فأسلمتِ الروح. طريحةً على فراش المشفى بقيتْ يوميْن، عجزَ خلالَهما الدكتور برّاق عن تشخيص حالها، ما حدا بأُمّي إلى اتّهامِ أكَلَة الفوارغ المحشيّة!
لَم يَطُلْ نشيجُنا على فراقِ جدّتي، إذ كان علينا أن نستجمع قوانا الخائرة بغيةَ تحضيرِ جنازةٍ تليق بها. غَصّت القاعةُ الفسيحةُ، المُلحقةُ بالجامع، بأفواجِ المُعزّين المتقاطرين من منطقة "البسطة" وجوارِها لإلقاءِ النظرة الأخيرة على فوز، التي اشتُهرتْ بكياستها. وليس أبلغَ على كياستها مِن عُلب الهدايا التي لا تزال موضَّبةً في خزانتها المعطّرة بالخُزامى في انتظارِ أن يُزَفَّ خبرُ عرسٍ أَو عقيقةٍ في الحيّ. كما أنّ أطباقها الشهيّة كانت موضعَ انتظارِ سكّانِ البناية، التي شاركناها الإقامةَ فيها بعد رحيل أبي. وقد تناقلت الألسنُ في مرفأ بيروت، مقرِّ عملِ جدّي فؤاد الذي لم أعرفْه، أنّ الأخير كان يَقصدُ المرفأَ يوميًّا محمَّلًا بمطبقيّاتٍ ملآنةٍ بالأطعمة الشهيّة، حتى حسدَه مديرُه؛ ولمّا همّت جدّتي بإضافةِ كمِّ المطبقيّاتِ لدفعه إلى مصادقةِ رئيسِه وتيسير أمورِه، رفضَ اقتراحَها على غير عادتِه، قائلًا وهو يتثنّى في مشيه: "مطبقيّاتُ فوز خاصّةٌ بفؤاد."
هام جدّي بفوز. منحها كلَّ الصلاحيّات، ولم يعقِّبْ أو يعلِّقْ على ما تتلفّظ أو تأتي به. كان دوامُ عمله المنهِك يجعلَه يُقْبلُ عليها عطشانًا للوصال. ولطالما استرجعتْ أمّي وخالتي فصولًا من قصّةِ هيامِ "فؤادِي" (كما تناديه فوز)، وبينَها فصلٌ عن سوقٍ بعيدةٍ كان أبوهما يأمرُهما بالذهاب إليها لشراءِ حَبِّ المُغربيّة، على الرغم من توفّرِه في الدكّان المحاذي للبيت، وذلك كي ينفردَ بالصَّهباء. مرّةً ضاقت أمّي بطلبِه ذرعًا، فأقنعتْ خالتي بجلبِ الحَبّ من الدكّان القريب. لكنْ قابَلَهما جدّي، حين طرقَتا البابَ بعدَ دقائق، مرتديًا سرواله الداخليّ، وصرفَهما مُحمَّلتيْن بالنقودِ للتحلّي بالبوظة، قائلًا بحزم: "لا تعودا قبلَ أن يسودَّ لساناكما من البوظة!" فصدّقتاه، وأمضتا ساعةً تتفحّص كلٌّ منهما لسانَها في عينَي الثانية، وساعةً أخرى تختلقان روايةً تبرِّرُ لأبيهما سببَ عودتِهما بلسانيْن أحمريْن.
لاحظتْ فوز، منذ بداية ارتباطِها بفؤاد، أنّه يشعر بعقدةِ نقصٍ من رفعةِ شأنِ أخيه، الحاج عمر، بينما هو يلاحقُ الرزقَ القليلَ بصعوبة. فلم تعيّرْه بفقره، وانحنت على ماكينةِ الخياطة تُصمّم فساتينَ نساءِ "البَسطة،" حتى تحسّنَت أوضاعُهما.
فارق "فؤادي" الحياةَ قبل أن يشيبَ، مهجوسًا بجِماع فوز، ومُولِيًا ظهرَه لخلفتِه. تركَ المرحومُ شقّةً واسعةً، كان قد تنازل عنها لفوز (منذ أن بارحا غرفتَهما الضيّقةَ)، تعبيرًا عن امتنانه لها، وأورثَها حصّتَه مِن كراءِ نصفِ الدكّان الذي اشتراه بعدَ أن تحسّن وضعُه المادّيّ. فبقيت الصهباءُ تُفَصِّل الليراتِ على مقاسِ مصاريفِ الابنتين، من دونِ أَن تغفلَ عن جمالِها وإطلالاتِها.
***
"اللّهمَّ نقِّها من الخطايا كما يُنقّى الثوبُ الأبيضُ من الدنس، وأَبدِلْها أهلًا خيرًا من أهلِها، ودارًا خيرًا من دارِها، وجيرانًا خيرًا من جيرانِها...": هكذا رثى الشيخ عثمان جدّتي متأثِّرًا، فيما مكبِّرُ الصوت يفْضَح حشرجتَه وتنهيداتِه. أيقظني ذو اللحيةِ المشذّبة مِن تفكّري في موت جدّتي، بعد أن عجّل في الدعاء اتِّقاءً للنظراتِ المُستغربة فيضَ حزنِه. الشيخ أرملُ في سنِ جدّتي، يقطنُ المنزلَ الأرضيَّ في البنايةِ حيث شقّتُها، ولطالما طَرقتُ بابَه لتسليمِه طبيخَها في رمضان.
كنتُ مقرّبةً إلى جدّتي حَدَّ مشاركتها سريرَها في مراهقتي. ولفرطِ إعجابي بها اخترتُها موضوعًا لمشروعي الجامعيّ في التصوير الفوتوغرافيّ، لا سيّما أنّ الشيخوخة لم تضيّعْ أُنوثتَها. التقطتُ بعدستي سلسلةً من الصور، كانت فيها واقفةً بدلالٍ؛ معتمرةً قبّعةً بيضاءَ، تنسدل منها خصلاتٌ من شعرها الأصهب؛ ومرتديةً فستانًا من الحرير، قصيرَ الكمَّين، مُلتصقًا بجسدها الأبيض. وفي المقابل، لم تبخَل عليَّ جدّتي بنصائحها على مرِّ السنين. ومن مآثرِها: "ادهني وجهَكِ بخليطِ الزنكِ والزيتِ لتنضيرِه، وشعرَكِ بالبيْضِ وزيتِ الزيتون قبل غسلِه بالشامبو. رشّي العطرَ على مكامنِ النبض* لتطويلِ أثرِه. مرِّري مرطِّبَ الجسم على ثدييْكِ. اختاري الأزياءَ التي تُبرز خصرَكِ" (فالخصرُ في عرفِ جدّتي يَختصرُ المرأةَ، ومِن حركتِه تُستشفُّ طبائعُها، وإليه تعودُ مهمّةُ جذبِ العيون). وفوز نوّرَتني إلى أنّ الحبّ والزواج فعلان مختلفان، وأنّ الحُبّ الصادق لا ينضب.
أمضت فوز سنواتِها الأخيرة جالسةً على الشرفة متأنّقةً، تُنْعمُ النظرَ إلى حبال الغسيل في شقّةِ الشيخ الأرضيّة.
بيروت
* حيث يُستشعر النبض باللمس كالرقبة والصدر والمعصم وخلف الركبة.