يُشكّل استخدامُ شبكات التواصل الاجتماعيّ إحدى العادات اليوميّة لدى غالبيّة الناس، فيصرفون عليها أوقاتًا متفاوتةً: ينشرون عبرها صورًا، أو يشاركون أصدقاءهم أخبارَهم، أو يكتبون فيها الموضوعاتِ التي يختارونها. ونتيجةً لذلك، صارت هذه الشبكاتُ "مجتمعًا رقميًّا" يلتقي فيه أشخاصٌ من مختلف الأعمار، قبل أن تتحوّل إلى مجال لاهتمام البحث العلميّ والصحافة. في هذه المقالة، نعالج بعضَ جوانب استخدام كبار السنّ لهذه الشبكات، وتحديدًا الفايسبوك.
لماذا كبارُ السنّ؟
كلّما عبّرنا عن اهتمامنا البحثيّ باستخدام كبار السنّ تلك الشبكات، وُوجِهنا بالسخرية. والحقّ أنّ استبعادَ دراسة كبار السنّ لا يقتصر على استبعاد معرفة استخدامهم للتكنولوجيا، بل ييشمل قضايا حياتيّةً متنوّعةً أخرى. وقد توصّلتْ د. مهى زراقط[1] إلى أنّ قضايا كبار السنّ عامّةً لا تحظى باهتمام الصحافة اللبنانيّة، وأنّ المعالجات المقدَّمة تُظهِرهم مرضى مقْعَدين ومنبوذين (من أهلهم أنفسهم).
فهل كبارُ السنّ غائبون عن شبكات التواصل الاجتماعيّ؟ وهل هم حقًا فئة منطوية على نفسها ومنبوذة؟
التقدّم في السنّ، والتطوّر
أثار موضوعُ قدرة كبار السنّ على التطوّر جدلًا واسعًا بين الباحثين في مجال علم النفس. ففي بعض الكتب ما يفيد بأنّهم عاجزون عن التوافق مع الظروف المتغيّرة، وأنّهم كثيرو الكلام عن الماضي، منسحبون من الحاضر ومن العلاقات الاجتماعيّة. وهذا هو التوجّه الذي تميل د. هدى قناوي إلى تبنّيه في كتابها سيكولوجيّة المسنّين.[2]
لكنّ هذا التوجّه لقي اعتراضَ باحثين آخرين أمثال Vincent Caradec، الذي شدّد على ضرورة عدم الوقوع في التعميم بسبب وجود فروق كبيرة بين كبار السنّ أنفسهم.[3]
وكان ملحق Les Clés de Demain، التابع لجريدةLe Monde ، قد نشر في أيّار 2018 مُحصّلةَ البرنامج الحكوميّ الفرنسيّ، وهو بعنوان مخطّط استثمار المهارات. وجاء في المقال أنّ الأفراد الذين تتراوح أعمارُهم بين 60 و65 سنةً لم يحتاجوا أكثرَ من بضع ساعات تدريب كي يتعلّموا استخدامَ الإنترنت من دون مساعدةٍ لاحقة. أمّا من زاد عمرُهم عن 80 سنة، فقد تعلّموا استخدامَ تطبيقات الانترنت، ولكنهم احتاجوا إلى شخص يبقى إلى جانبهم لمساعدتهم.[4]
كما أنّ ملحق Marketing Client، شريكَ جريدة Les Echosالفرنسيّة، نشر في آب 2017 مقالًا جاء فيه أنّ الوقت الذي يمضيه كبارُ السنّ على الإنترنت يتجاوز الوقتَ الذي يمضيه الشبابُ بساعة، وأنّهم لم يعودوا غرباءَ عن الويب.[5]
هذا وتسمح لي صداقتي لعدد من كبار السنّ على هذه الشبكة بالقول إنّ المُسنّين ليسوا عاجزين عن مواكبة التكنولوجيا، ولا انطوائيين كما قد يتخيّل البعض، ولكنْ قد تواجههم صعوباتٌ أثناء استخدامها.
دوافع... وعوائق
لكبار السنّ (كما لسِواهم) حاجاتٌ اتصاليّة. فهم يحتاجون إلى الاتصال بعائلاتهم وأصدقائهم، بعد انسلاخ أبنائهم وبناتهم عنهم عادةً، فيتراجع تواصلُهم التقليدي (الوجاهيّ) معهم لصالح التواصل عبر الهاتف أو شبكاتِ التواصل. وكثيرًا ما نسمع أنّهم فتحوا حسابًا على الفايسبوك لأنّ أبناءهم موجودون في هذه الشبكة، ولأنهم يرغبون في رؤية الصور والبوستات التي ينشرونها والتعليقِ عليها.
وهناك العديد من العوامل المُحفِّزة الأخرى على استخدام كبار السنّ للفايسبوك. ففضولُهم المعرفيّ، وحاجتُهم إلى الشعور بالانتماء إلى مجتمعهم الذي ينتشر فيه استخدامُ الإنترنت والفايسبوك، شجّعا العديدَ منهم على استخدام هذه التطبيقات. لقد منحهم الانضمامُ إلى جماعة مستخدمي الفايسبوك فرصةً أكبرَ لمواكبة التطوّر، وأشْعرهم بأنّهم متفاعلون مع العالم وأنّهم ليسوا على الهامش.
ثمّ إنّ كبارَ السنّ المتوقفين عن العمل قد يجدون في الفايسبوك وسيلةً لملء أوقات فراغهم بالتسلية، والكتابة، والتحدّث مع الآخرين.
لكنْ يُلاحَظ أحيانًا في صفحات بعضهم تصريحٌ واضحٌ بالصعوبات التقنيّة أثناء استخدام الفايسبوك. كأن تكتبَ مستخدِمةٌ مسنّةٌ ما يأتي: "أعتذرُ منكم، أصدقائي. لا أستطيع الردّ على تعليقاتكم على المنشور السابق لأنني حذفتُه بكسبة زرٍّ خاطئة. لا أعرف ما الذي حصل." وقد يواجه كبارُ السنّ صعوباتٍ في الكتابة عبر الهاتف بشكلٍ خاصّ؛ فعلى سبيل المثال كتب مستخدمٌ ذات مرّة: "أكتب كلمة (رءيس) بهذا الشكل لأنني لم أجد كرسيَّ الياء على الهاتف."
هذه الصعوبات وغيرُها تُعزى إلى انتماء الكبار إلى جيلٍ لم يعتَدْ وجودَ مثل هذه الأدوات في شبابه. وقد اعتُمد هذا التفسير، المسمّى "تأثير الجيل،" بعد أن أثبت الباحثان Baltes وSchaie سنة 1974 عدمَ صحّة الاعتقاد بتراجع ذكاء الإنسان مع تقدّمه في السنّ.
ماذا يفعل كبارُ السنّ على الفايسبوك؟
كجزءٍ من عملي البحثيّ في فحص تفاعل كبار السنّ على الفايسبوك، أرسلتُ طلباتِ صداقة إلى بعضهم، وسُمح لي بمتابعة نشاطاتهم. وبناءً على هذه المتابعة يمكن تصنيفُ نشاطهم على صفحاتهم الخاصّة كما يأتي:
ــــ الإدلاءُ بمواقفهم من قضايا الشأن العامّ.
ــــ نشرُ صورهم مع عائلاتهم وأصدقائهم.
ــــ سردُ ذكرياتٍ عاشوها.
ــــ نشرُ صور وعبارات تهنئة ومواساة وغير ذلك من مناسبات "الواجب الاجتماعيّ."
ــــ سردُ أخبار طريفة أو نشرُ صور مضحكة.
ــــ الحديث عن نشاطات ثقافيّة (كالدعوة إلى توقيع كتاب، أو ندوة...).
خاتمة
بناءً على ما تقدّم، نؤكّد أنّ كبار السنّ ليسوا فئةً بعيدةً عن الفايسبوك وشبكاتِ التواصل الاجتماعيّ الأخرى، بل هم فئةٌ حاضرة وناشطة تستخدم المنصّاتِ الاجتماعيّةَ الإلكترونيّة لأهداف عدّة وبأساليب متباينة. فهم يمتلكون القدرةَ على تعلّم استخدامها، ويقومون بتطوير أدائهم مع الوقت، وإنْ واجهوا صعوباتٍ تقنيّة.
ويبقى اختلافُ درجة التطوّر من شخصٍ إلى آخر مرتبطًا باختلاف أسلوب التعامل مع هذه الصعوبات واستعداد الفرد للتأقلم مع الجديد. ولمّا كان الاستخدامُ يتفاوت ضمن أفراد الفئة العمريّة نفسها، فإنّ ذلك ينبغي أن يَدفعنا إلى المزيد من البحث من أجل تحديد أنماط الاستخدام المختلفة والعوامل التي تفسّر ذلك التفاوت.
بيروت
[1] "تهميش قضايا المسنّين في الصحافة اللبنانيّة. أيُّ دور للصحافيّ؟", مؤتمر "العمر الثالث: التحوّلات، الحقوق، السياسات". مركز الأبحاث في معهد العلوم الإجتماعيّة، الجامعة اللبنانيّة، الفرع الثالث، شباط 2014.
[2] صدر عن مركز التنمية البشريّة والمعلومات في الجيزة، 1987
[3] Vincent Caradec, «Personnes âgées et objets technologiques: une perspective en termes de logiques d'usage,» Revue française de sociologie, n° 42-1, 2001, P 117 – 148
[4] Mounir Mahjoubi, « Tous les secteurs et métiers exigent un minimum de bagage numérique, » Le Monde, 16 mai 2018. https://lesclesdedemain.lemonde.fr/dossiers/tous-ensemble-sur-la-route-du-numerique_f-217.html
[5] https://marketingclient.lesechos.fr/decryptage/les-seniors-des-millenials-poivre-et-sel/