لعلّ أوّل صفةٍ تُلازم واقعةَ كربلاء هي أنّها مفتوحة على الأزمنة، وأنّها متجدّدة، ليس فقط في معانيها الإنسانيّة وأفكارها الدينيّة والسياسيّة، بل في كونها أيضًا أرضًا خصبةً لتعدّد أساليب إحياء ذكراها: بدءًا باختلاف التيّارات الفكريّة في المذهب الواحد، وليس انتهاءً بالعجز عن رأب الصدْع الذي تخلِّفه تبايناتُ الشعائر المُستحدَثة، والعجز أيضًا عن خلق بدائل متجدّدة.
أبرزُ ما يميّز الشعائرَ الحسينيّة هو أنّها منصهرة في الفكر الشيعيّ، أو مترجِمة له، في مجتمعٍ متعدِّد المذاهب والثقافات. وبهذا، يمثّل تطبيقُها تماسكًا جماعيًّا للشيعة، واعترافًا علنيًّا بالانتماء إلى المذهب وأفكاره ومظلوميّاته.
وهذا الاعتراف ذو بُعديْن، ثقافيّ واجتماعيّ، ناتجيْن من الحاجة إلى خلق مساحةٍ، مكشوفةٍ ومتجانسةٍ ومريحةٍ، للتعبير عن الحزن، من خلال مجالس العزاء واللطميّات ورفعِ اللافتات والمسيرات والموائد الممتدّة على الطرق وغيرها. وهذه الممارسات تلعب دورًا في ملء الفراغ الروحيّ لدى الكثير من الناس، وتعدُّ نوعًا من العون الجماعيّ على الحزن.
***
تنجم هذه الشعائرُ جميعُها عن مفهوم "البذل." وهذا المفهوم لا يقتصر عند الشيعة على تقديم الدماء والأرواح (مستمدًّا "شرعيّتَه" الثوريّةَ والفكريّةَ من عاشوراء) فحسب، بل هو البذلُ في المحبّة والتعاطف والمواساة أيضًا. فصَنْعة الإمام الحسين، يومَ العاشر من محرّم، ولّدَتْ في القاموس الجمعيّ الشيعيّ مفهومًا مُطلقًا للبذل: منذ خياره السير في طريق مواجهة الظلم، وحتّى استشهاده.
***
شعائر كثيرة، مختزَنَةٌ في الحزن الجماعيّ، تستثمرُها بيئاتُ الشيعة في أشكالٍ كثيرة. قد يختلفون في ما بينهم في أساليبها، فيتّفق عددٌ من الفقهاء (كالسيّد علي الخامنئي، والسيّد علي السيستاني، والسيّد محمد حسين فضل الله،...) على أنّ كلَّ ما يؤذي النفسَ (شأن التطبير، وضربِ الجسد بالجنازير، والمشي على الجمر...) خارجٌ عن سياق الشعائر، وأنّ مبرّراته لا تنطلق من حزنٍ واعٍ، بل من اندفاع عاطفيّ غير مدروس؛ لكنّ فقهاء آخرين يختلفون في تلقّف الشعائر غير المنصوصة وفهمها وتبريرها.
شعائر كثيرة، مختزَنَةٌ في الحزن الجماعيّ، تستثمرُها بيئاتُ الشيعة
بالتوازي مع ذلك، استطاعت المآتمُ الحسينيّة، وإنْ بوتيرةٍ بطيئةٍ، ولدى مَجالسَ قليلة، أنْ تجدِّد في مضامين الخُطَب الحسينيّة، بما يتماشى مع تطوّر المجتمعات الراهنة وقواعدِها الفكريّة والفلسفيّة، وذلك من خلال مقاربة مفاهيم عاشوراء وفقًا لِما يجري من أحداثٍ اليومَ. ليس ذلك وحسب؛ بل استطاعت أيضًا تحميلَ ناسِ اليوم ليس فقط وزرَ التقصير في حقّ إمامِهم المقتول، الحسينِ بنِ عليّ، بل وزرَ التقصير الراهن أيضًا عن كلّ حقٍّ أو إعانةٍ أو مناهضةِ فسادٍ أو ثورةٍ على الظلم.
مثلُ هذه المقاربة جعل المفاهيمَ العاشورائيّةَ أقربَ إلى فهم العامّة، وساعد أيضًا في "تهذيب" بعض الشعائر لدى عددٍ منهم، وإنْ بنِسبٍ غير عالية. إلّا أنّ إلقاءَ الضوء على هذه النِّسب، سعيًا إلى "تحسين" إحياء عاشوراء، قد يساعد على رفعها.
***
شرّعتْ خياراتُ الإمام الحسين طريقَ السير من النجف إلى كربلاء. وهذه الخيارات أسّستْ لسيرورةٍ فرديّةٍ بعد استشهاده، يحاسِب الشخصُ نفسَه عليها إنْ قصّر فيها. مثالًا على ذلك: شعيرةُ زيارة الأربعين، أو مشهدُ "المشّاية" ــ وهم الذين يَقصدون حرمَ الإمام الحسين مشيًا على الأقدام.
على أنّ هذه الشعيرة الاجتماعيّة لم تصْدرْ من عاشوراءَ وحدها، وإنّما صدرتْ كذلك من النفس الخطّاءة من منظور الإدراك الدينيّ العميق. وهكذا ينصهر الماشون في الحالة الشعوريّة نفسِها، فيأخذُهم الطريقُ إلى "حالة اكتفاءٍ وتطهّرٍ من الذنوب." ومن ثمّ يتحوَّل مفهومُ "البذل" من الجهاد إلى تسخير الجسد لسيْر الأربعين، في محاولةٍ لتذليل عقبة التاريخ الذي سبقهم ولم يتمكّنوا من اللحاق بإمامهم لنصرته. فكأنّ المشي نفسَه صار كفّارةً عن ذنْب في موسم البكاء.
كذلك الأمر بالنسبة إلى خدمة الزائرين، التي يختارها عددٌ كبيرٌ من الموالين لآل البيت، معتبرين أنّها خدمةٌ للإمام الحسين، كي يكسبوا قبولَه بعضويّتهم في عداد الساعين إلى رضا الله، حتى في أبسط سلوكيّاتهم: كصبغ الأحذية وتدليكِ الأقدام وتوزيعِ المناشف الورقيّة، أو حتى تنظيف الطريق بالمكنسة. والبذل سيُترجم أيضًا في كرم الضيافة والموائد المصنوعة على حبِّ الحسين.
***
لكنّ الأهمَّ من ذلك كلَّه هو ضرورةُ تطوير مفهوم "ممارسة الشعائر" وطُرقِها، وعدمُ حصرها بالمآتم ــ ليس تقليلًا من أهميّة هذه المآتم وحاجتِها، وإنّما لخلق فعاليّات جديدة استكمالًا لها. ومن أهمِّ ما يجب أن يُدرَجَ كشعيرةٍ حسينيّةٍ هو الحثُّ على مناهضة الفساد في وجه أيٍّ كان، لا الاستسلامُ لمجرّدِ أنْ لا حيلةَ لأحدٍ في التغيير، أو لأنّ الفساد مرتبط بزُمرٍ يحبِّها أو قريبةٍ منه.
ضاحية بيروت الجنوبيّة