مذيعة ومعدّة برامج من لبنان. حائزة ماجستير في علم النفس التربويّ.
وقفتْ ملاك وهي تراقب ابنتَها، التي بلغت التاسعةَ من العمر، وأصبحتْ جاهزةً لـ"تقليد دينيّ" يسري في عائلتها. بكت وهي تتأمّل الحاضرين يهنّئون جنى في حفل ارتدائها الحجاب. يظنّون دموعَ أمّها فرحًا، وهي وحدها مَن يتذوّق مرارةَ البكاء.
في تلك اللحظة، عاد الزمنُ بملاك إلى ما قبل أن تبصر النور؛ فتمنّت لو امتلكتْ حقَّ اختيار الرحم الذي تودّ استيطانَه، والحياةِ التي ترغب في عيشها. أعادتها الذكرياتُ إلى أبيها أحمد، الذي فَرض عليها ارتداءَ الحجاب من دون حوارٍ أو نقاش.
آمرًا لا ناصحًا، وبغضبٍ عارمٍ، كان يردِّد على مسامعها: "ارتدي اللون الأسود. يجب ألّا يراكِ الغرباءُ بالألوان الفاقعة. لا تدعي الشيطانَ يوسوس لكِ ويسمِّم عقلك. إبقي ملاكًا كما أسميتُكِ"!
ــــ لكنّني، يا أبي، كلّما ارتديتُ الأسودَ ازدادت عيونُ المعجبين من حولي؛ فالأسود من أكثر الألوان التي تليق بي.
رمقها بنظرة غضب. ودّت لو تستطيع إعارتَه حواسَّها؛ فلربّما استطاعت تغييرَ نظرته. وكلّما أخفقتْ في التقرّب إليه، ازدادت ثورتُها الداخليّة اتّقادًا؛ ثورتَها التي أبقتها حبيسةَ قلبها وعقلها... إلّا مرةً واحدة!
فعندما بلغت الثامنة عشرة خطّطتْ للسفر. جمعت المالَ، وكانت حجّتُها أنّها نجحتْ في الامتحانات الرسميّة بدرجة امتياز. أمّا سرًّا، فكان مشروعُها خلعَ الحجاب! نعم، خلْعَه في مكانٍ لا يعرفُها أحدٌ فيه، حتّى الهواءُ والشجر.
ــــ سامحْني يا الله على ما سأفعله. لكنْ، ألا يحقُّ لي أن أشعر بتطايرِ شعري في فضاءِ كونِكَ؟ لن تحرقَني بتلك النار التي لطالما أخافني أبي بها! لم يعطني أبي وعلماءُ الدين الذين صادفتُهم حقَّ السؤال! أعلمُ أنّك كما خلقتَهم خلقتَ آخرين، ودودين، منفتحين. لكنّ الحظّ لم يسعفْني لأقابلهم.
حطّت الطائرةُ في اسطنبول. سارعتْ وأمَّها إلى الفندق. أربعةُ أيّام ليست كافيةً، لكنّها ستكون خطوةً أولى على طريق الحرّيّة.
ــــ أمّي، سأنزل إلى السوق.
ــــ لا تتأخّري. ولا تحْدثي ضجّة؛ أريد أن أنام لأنّ رأسي يؤلمني.
غطّت أمّها في نوم عميق على أثر عقاقير الأعصاب التي تناولتْها. سارعتْ ملاك إلى فتح حقيبة أحلامها. ارتدت فستانَها الأسودَ القصير. أسدلتْ شعرَها الأسودَ الطويل. توجّهتْ نحو الباب. عادت إلى رأسها، من جديد، حكايةُ ابنة خالتها التي خلعت الحجابَ، فنبذتْها عائلتُها، فانتحرتْ. طردتْ تلك القصةَ من رأسها. فتحت الباب. خرجتْ. وقع مفتاحُ الغرفة من يدها المرتجفة. سارعتْ إلى التقاطه. قلبُها كاد يتوقّف. ارتسم وجهُ أبيها أمامها. أعادت فتحَ الباب. أغلقتْه من الداخل. خلعتْ ثوبَها. استحمّت. خلدتْ إلى النوم باكيةً.
استيقظتْ من غفلة أفكارها على صوت أبيها: "اذهبي وهنّئي جنى. عليكِ أن تفخري بها في هذا اليوم العظيم!"
توجّهتْ نحو صغيرتها وهي تهمس لها: "هو واجبٌ يا ابنتي، عليكِ الاقتداءُ به. لكنْ، إنْ قرّرتِ أن تسدلي شعرك يومًا فسأساعدُكِ."
نظرتْ ابنتها إليها وهي تبتسم: "ماما، أريد شوكولا."
بيروت
