كيف نَشْفى مِن حُبّ بيروت؟
سؤال محمود درويش، وهو في الأصل "كيف نَشفى من حبّ تونس،" قابلٌ للتحوير، عبر استبدال اسم المدينة العربيّة المعشوقة بأخرى؛ فالاستبدال جائزٌ لتداخل حلقات التهجير ــــ الفلسطينيّ إلى العاصمتين العربيتين، ومنهما ــــ كما تتداخل حكاياتُ الحكواتيين العرب القدامى، وتنتهي كلٌّ منها بولادةِ أخرى.
الإجابة عن السؤال بسيطة وحازمة في آنٍ: إنّه حبٌّ لا شفاءَ منه، كالقدر الذي يرمينا بمفاجآت مؤلمةٍ أو سعيدة.
أسبابُ طرح السؤال كثيرة، بينها ذلك الكمُّ الهائلُ من العتب والغضب على المدينة؛ وهو كمٌّ يتدفّق في كتابات ساكنيها، والمغتربين عنها، وفي تعليقاتهم وأحاديثِهم. العتب والغضب هنا ــــ في الغالب ــــ وجهٌ آخرُ للتعبير عن حبٍّ لا نستطيع قتلَه، ولا نعرف كيف نتصالحُ معه: إنّه هروبٌ من التعامل مع عجزنا عن المشاركة في صياغة مدينتنا.
ثمّة إشكاليّةٌ في علاقتنا ببيروت، لم يعانِها أبناءُ الأجيال السابقة الذي رأوْا في هذه المدينة "ستَّ الدنيا،" و"سيّدةَ العواصم،" و"مدينةَ المثقّفين والحرّيّات،" و"مساحةً للفنون والنضال والجواسيس." أمُّ التناقضات تسيطر على أجيالٍ احتضنتْها بيروت، واحتضنتْ بيروت. والحضور الذي حقّقته حقباتُهم ــــ قبل مرحلة التسعينيّات ــــ بحلوها ومرِّها، بعزِّها وحربها ــــ ما زال ماثلًا في مكانٍ ما؛ فيما يسيطر خطابٌ لدى الجيل الشابّ الحاليّ يرى في ما حققه السابقون محضَ هزائم، ولا يتنبّه إلى ما ورِثته بيروت من تجاربهم.
بعد إيقاف الحرب... من التسعينيّات
جاءت مرحلةُ ما بعد الحرب لتحاول إعادةَ صياغة علاقتنا بالمدينة الرمز. وبدأ الهدمُ تحت مسمّى "مشروع اقتصاديّ جديد" بعدما كان نتيجةً لحروب طاحنة. كثيرون وضّبوا حقائبَهم ورحلوا، بعدما ضاقت بيروتُ "الجديدةُ" بهم، فأقلموا أنفسَهم وتجاربَهم على التعايش مع المدن التي هاجروا إليها، بما يجعلهم يحبّونها ولا يتلفّظون فيها بكلمة "لا."
هنا يكمن سببٌ أوّلُ للاستمرار في حبّ بيروت: إنّها المدينة التي يمكن أيَّ فردٍ فيها أن يقول، بصوت عالٍ وحادّ: لا للتاجر، أو لا للسياسيّ، أو لا للناشط، أو لا للصحافيّ. "لا" عقلانيّة، أو "لا" مراهقة، أو "لا" مشاكسة، أو "لا" بنّاءة، أو "لا" مدمِّرة.
بيروت مدينةٌ للجميع، تمتدّ خارج حدودها المرسومة في السجلّات العقاريّة. إنّها عالمُ التناقضات. وهذه التناقضات لا يَفصل واحدَها عن الآخر سوى غشاءٍ رقيق: يكفي أن يرفعَه المرءُ كي ينتقلَ من عالمٍ إلى آخر. هذه هي الحال، مثلًا، في منطقة بدارو: على ضفّةٍ، مقاهٍ وملاهٍ للطبقة الوسطى ليلًا؛ وعلى الضفّة الأخرى، نهارًا، تعجّ الطريقُ بفقراء يأتون للإفادة من الطبابة العسكريّة!
لماذا الشفاءُ من حبّ بيروت مستحيل؟
ربّما نجد جوابًا في القاهرة، المدينةِ التي تلبس اسمَها بامتياز. يقول المصوِّرُ السينمائيّ اللبنانيّ باسم فيّاض في مقابلة تلفزيونيّة عن فيلم آخر أيّام المدينة (إخراج تامر سعيد): "القاهرة مستحيلٌ أن تطوِّعَها... عليك أن تصوِّر[ها] كما تريد هي. إنْ رضختَ لها، تعطيكَ الكثير. إنْ صارعتَها، ستخسر." هذا الاستنتاج يُلخِّص المسألة: هنالك مدنٌ علينا أن نَخضع لها. وبيروت، كما القاهرة والعواصم العربيّة التي شهدتْ نهضةً ثمّ حضورًا ثقافيًّا ملحوظًا، مدنٌ علينا أن نَخضعَ لمزاجها، ولذاكرتها. ذلك لأنّ مصارعتَها ستكون أشبهَ بعمليّات تشويهها، الجاريةِ على أيدي سياسيّيها وهيئاتها الاقتصاديّة ومقاوليها.
وعلى الرغم من أنّ بيروت حادّةُ المزاج ومتعِبة، فإنّها مدينةٌ مفتوحةٌ على تجاربَ مختلفة. مختبرٌ هي، يلتقي فيه المختلفون، سياسيًّا واجتماعيًّا، فيتعاركون، أو ينجزون مشاريعَ مشتركةً. إنّها مدينةٌ للتحاور، مدينةُ البيوتِ المفتوحة شرفاتُها على البحر، لا مدينةُ العمارات التي تسدّ الهواءَ عن الآخرين أو تُقفل شرفاتِها بأطُرٍ زجاجيّة تمنع رميَ سلامٍ صباحيّ على الجيران.
الفينيق والرماد
حين تُقفل صحيفةٌ في بيروت، تنتعش أروقةُ المدينة بمحاولاتٍ لملء الفراغ. قد تكون هذه المحاولاتُ أقلَّ وقعًا وفاعليّة، لكنّها تريد أن تكبحَ تمدّدَ ذلك الفراغ. وحين يُقفل مقهًى يولَد آخرُ يتّسع لكثيرين. وحين يخبو نجمُ مشفًى يرتفع آخر. وبرغم فعل الجرّافات في هدم البيوت القديمة، ثمّة بيوتٌ عصيّةٌ على الهدم. بيروت هي ذلك المقهى المهجور الذي لا تتراكم على طاولاته طبقاتُ الغبار، ولا يأكله العفنُ، بل يستعيد حيويّتَه وبريقَه حين يعود إليه الروّادُ في موعدٍ يُضرب على عجل.
لم تنتهِ بيروت حين أُريد لها ذلك. لم تنتهِ مع ولادة مراكز أخرى للخدمات، أو لاقتصاد الوساطة في العالم العربيّ، أو للإعلام. ولم تنتعش الثقافةُ في العالم العربيّ حين جرت محاولاتُ نقل عواصمها من بيروت والقاهرة والشام إلى أماكن أخرى.
هذه المدينة، منذ هُدمتْ أسوارُها وانتعش ميناؤها مع حملة إبراهيم باشا، مدينةٌ متعدّدة: إحدى المساحات العربيّة الإجباريّة لنهضةٍ محتملة.
بيروت هي مساحة لذاكرةٍ جماعيّة، يستعيد كلُّ فرد فيها طبقةً من طبقاتها، بحسب أفكاره وخياراته وأهوائه. موريس هالباوش، المؤسِّسُ الأوّل لدراسات الذاكرة الجماعيّة، كتب أنّ "التاريخ ليس كلَّ الماضي، بل إنّه ليس كلَّ ما تبقّى من الماضي. فإلى جانب التاريخ المكتوب، ثمّة تاريخٌ حيٌّ يتمدّد ويتجدّد عبر الزمن. فيه يمكن أن نعثر على عدد كبير من التيّارات القديمة التي لم تختفِ إلّا ظاهريًّا."(1) من هنا تحديدًا يمكننا أن نفهم، مثلًا، نجاحَ مؤسّسة فنّيّة ثقافيّة وترفيهيّة كـ"مترو المدينة"؛ فهي تستعيد ــــ في ما تقدّمه ــــ ذاكرةً عربيّةً بيروتيّةً غناءً ومسرحًا: يولد في القاهرة في بدايات القرن العشرين، ويمتدّ إلى بيروت حتّى الحرب الأهليّة، ثمّ ينطلق مع تجاربَ فنّيّةٍ حديثة.
يشكّل "مترو المدينة" وأمثالُه مؤسّساتٍ تستعيد، بأطرِها ووجهتها، بيروتَ الأكثر رسوخًا في الذاكرة: مدينةً للثقافة والنضال والترفيه. وهذه ترجمةٌ لما كتبتْه أستاذةُ علم الاجتماع الأميركيّة، إيونا إروين زاريكا، من أنّه "لا يمكن اختصارُ الذاكرة الجماعيّة بمجموعة من الصلات المباشرة مع الماضي؛ إنّها غالبًا التعبيرُ عن حقيقة الماضي، وهو تعبيرٌ يكوِّن الجماعة ويعلِّمها."(2)
الروائيّ والباحث المصريّ جمال الغيطاني لجأ إلى ذاكرته من أجل استعادة "المسافر خانة." وأعاد ــــ في كتابٍ/وثيقةٍ بهذا العنوان(3) ــــ تركيبَ حياة هذا المبنى التاريخيّ الإسلاميّ الذي احترق في القاهرة سنة 1998، أيْ في مرحلة تميّزتْ بسطوة مشروعٍ اقتصاديّ ليبراليّ يرمي إلى حرق كلّ ما تكتنزه الذاكرةُ، التي تدرك أنّ كنوز التاريخ ملْكٌ عامّ، لا عقاراتٌ لحفنةٍ من رجال الأعمال. وثيقة الغيطاني لا تعيد بناءَ المبنى في مكانه بالطبع، لكنّها تمنع مسحَه من الذاكرة. وإنّ تمرينًا مماثلًا قد يُسهم في إعادة صياغة علاقتنا ببيروت، كي نصير مشاركين حقيقيين في صناعة مدينتنا، ما دمنا لا نجيد مغادرتَها.
بيروت
1- Maurice Halbawch, La mémoire collective, PUF, Paris, 1950, p 113.
2 - Zarecka Iwona Irwin, Frames of Remembrance, the Dynamics of Collective Memory (New Brunswick and London: Transaction Publishers, 1993), p 57.
3- جمال الغيطاني، المسافر خانة، محاولة للبناء من الذاكرة (القاهرة: دار الشروق، 2007).