لم أكد أفتحُ عينيّ وأتمطّى بتلذّذٍ حتّى سمعتُ صوتَ ضجّةٍ آتيةٍ من الشارع. كانت الشمس تخترق نسيجَ الستارة المخرّمة، وترمي بظلالها على رفوف المكتبة المعلّقة فوق الجدار. لطالما جعلني هذا المشهدُ أبقى في السرير دقائقَ إضافيّة، أتأمّل تلك التشكيلات الغريبة. وها أنا أتأمّلها اليوم بعد غياب ثلاث سنوات عن الوطن؛ كما تأمّلتُ البارحة، وأنا في طريقي إلى منزلنا، صورًا لشبابٍ في زيّهم العسكريّ موزّعةً على طول الشارع، تزيّنها الأضواءُ وعباراتُ الثناء: "الشهيد البطل،" "الشهيد المجاهد،" "أسد الصحراء..." إلخ.
كنتُ أنظر إليهم وفي حلقي غصّةٌ استمرّت طوالَ الطريق الذي بدا أطولَ وأضيقَ ممّا كان عليه قبل سنوات. بدأتِ الجلبة تتصاعد، ما استفزّ فضولي وجعلني أنهض وأنظر إلى الخارج، لأرى سيّارةً للشرطة، ومجموعةً من الناس تتحلّق حولها وأمام باب جارنا "أبو طلال،" ولأُفاجأ بأمّي تخرج من بين الجموع متّجهةً نحو البيت. ما إنْ فتحتُ لها البابً حتّى احتضنتني وقبّلتني كأنّي وصلتُ لتوّي من السفر. أسعدني أنّني أملك الكثير من الوقت للجلوس معها؛ فأبي وأختي "خالدة" ذهبا إلى العمل باكرًا. لذا كنتُ على موعد مع فنجان القهوة وسيجارة الصباح الأولى، والدردشة اللذيذة التي حلمتُ بها مرارًا.
أثناء تحضيرها القهوة، رَوَت لي ما حصل في الخارج. خلاصة الحديث: "أبو طلال مات! لكنّه لم يمُت ميتة ربّه." ما فسّر لي سبب وجود سيّارة الشرطة هناك.
وضعتْ أمي الصينيّة وما عليها في الركن المشمس من الصالون. ورأيتُ البخارَ يتصاعد من ركوة القهوة، ويتراقص متسلّقًا شعاعَ الشّمس المتسلّل من النافذة المطلّة على بيت رفيقة الطفولة والمراهَقَة، "آمنة،" التي كَسَرَتْ قلبي يومًا، وجعلتني أكفر بالحبّ والغرام. بعد أن أشعلتْ سيجارة، وقدّمتْ إليّ واحدةً مثلها، قالت بتأثّر: "أخشى أنّ أمّ طلال ستلحق بزوجها. المسكينة أُغميَ عليها، ونقلوها إلى المشفى." ثمّ أضافت، بعد أنْ نفثتْ ما في صدرها من دخان: "يبدو أنّ قمر نفّذتْ وعيدها." لاحظتِ استغرابي من استنتاجها، فضحِكتْ موضِّحة: "أقسمتْ أنّها ستقتله. أهل الحارة جميعهم سمعوها حين كانت تتوعّده بأعلى صوتها، وهو ينهال عليها ضربًا بواسطة حزامه الجلديّ." أخذتْ مجّة من سيجارتها، وتابعتْ: "كان يضربها باستمرار. ووصل به الأمر ذات يوم إلى التهديد بذبحها كما يفعل الدواعش." وقبل أن أسألها كيف قُتلَ، قالت: "وجدوه مضرّجًا بدمائه على أرض المطبخ. وفي صدره عدّةُ طعنات."
ما الذي يدفع رجلًا إلى جَلد ابنته بهذه الطريقة؟ كدتُ أسأل. إلّا أنني لم أرغب في سماع المزيد، برغم التشويق الذي شاب كلماتِها. فقاطعتُها، وسألتُها عن آمنة. وعرفتُ أنّها تزوّجتْ منذ أشهر قليلة ضابطًا برتبة عقيد، ورحلتْ معه إلى دمشق. ولكنْ لم يمضِ على زواجهما قرابة الشهر حتّى أصبحتْ "أرملة الشهيد." وعادتِ المسكينة إلى بيت أهلها مكسورةَ الروح. وهي الآن حبيسةُ غرفتها، لا تخرج منها إلّا للضرورات.
لم أستطع تخيُّلَ آمنة مكسورةَ الروح؛ فصورة الفتاة المتمرّدة التي عرفتُها لا تفارقني. آمنة التي قالَت لي يومًا، بقصد مشاكستي: "دورانُ الأرضِ سببُه ضحكُ النساء. متى توقفنَ عن الضحك توقفت عن الدوران." كيف لامرأةٍ مثلها أن تنكسر؟!
فجأةً، دوّى انفجارٌ اهتزّت له نوافذُ البيت وأبوابُه. فشعرتُ بالرعب، وكدتُ أنبطح أرضًا، لولا يد أمّي التي أمسكتْ بي قائلةً: "لا تخف. هذه قذيفة هاون، ربما سقطتْ في الحيّ المجاور." قالت ذلك كأنّها تحدّثني عن شيءٍ حصلَ في الماضي، بينما دويّ الانفجار لا يزال يتردّد في أذنيّ، والهلعُ بادٍ عليّ. ثمّ سألتني، وهي تداعب فنجانَ قهوتها بسبّابتها، إنْ كانت باريس جميلةً كمدينتنا. ابتسمتُ لحركتها، ولغرابة السؤال وتوقيتِه، وقلتُ ألاطفُها: "أجمل الأماكن تلك التي تكونين فيها يا ستّ الستّات." لكنها كانت تنتظر إجابة أخرى، فقلت: "لا أستطيع مقارنةَ أيّ مدينة بمدينتي، ليس لأنّها الأجمل أو الأفضل، بل لأنّها ببساطة مدينتي. مدينتي التي فيها أهلي وناسي وذكرياتي. مدينتي التي تكوّنتْ خلايا جسدي من ترابِها." ثمّ استرسلتُ:
"أحببتُ باريس ووجدتُها جميلة. إلّا أنني لم أحبّ الباريسيين كثيرًا. أحببتُ اجتماعَ العالم كلّه فيها. أحببتُ الحريّة التي يعيشها الناسُ هناك. أحببتُ كونها مُتْحَفًا مفتوحًا في الهواء الطلق، ومدينةَ الكثير من الفنّانين والأدباء والفلاسفة والعشّاق."
وأضفتُ بعد برهة من الصمت، وبعد أن تأمّلتُ وجهها اللطيف: "وأحببتُ نساءها الجميلات." ضحكَت تلك الضحكة التي أُحبّها. وقالت بملعنة الأمهات: "ما شفنا شي!" فوعدتُها أن ترى في الزيارة القادمة الكثير من الأشياء.
***
بقيتُ في البيت طيلة النهار. واستمتعتُ بمساعدتِها في تجهيز طعام الغداء. كانت سعيدةً بوجودي قربها، وابتسامتُها تزيّنُ وجهها، برغم جريمة القتل التي حدثتْ على بعد أمتار. حتّى إنّها أطلقتْ العديدَ من النكات، فضحكتُ من قلبي، وأنا أراقبُها وقد بدت لي صبيّةً جميلةً تتراقص بين يديها أدواتُ المطبخ والفواكه والخضار، كأنّها تنبض بالحياة. وبدأتْ تُوكل إليّ بعضَ الأعمال البسيطة على شكل أوامر: "اغسلْ حبّات البندورة. ضَعْ ملحًا في المملحة. افرمْ رأسًا من البصل وباقةً من البقدونس." وكنتُ أنفّذُ ما تأمرني به بسعادة غامرة.
أثناء ذلك كانت تُخبرني عن أحوال العائلة والأقارب والأصدقاء. فاكتشفتُ أنّ عائلتنا انقسمتْ، كالكثير من العائلات السوريّة، بين مؤيّد ومعارض؛ وأنّ قريبًا لنا أصبح مقاتلًا، فأطلق لحيتَه وانضمّ إلى الفصائل الإسلاميّة التي تعادي الدولة والنظام؛ وأنّ آخر ــــ ابنَ عمّه ــــ تطوّع في الجيش، علمًا أنّه مثلي وحيدٌ لأبويه. أمّا أحمد، صديقُ طفولتي، فقد طلّق زوجته لأنّ إخوتها من "الشبّيحة" كما قال. واكتشفتُ أنّ الكثير من معارفنا غادروا البلاد على عجل، وانقطعتْ أخبارهم برغم سهولة التواصل في هذا الزمان.
وعرفتُ أنّ خلافاتٍ منغِّصة حصلتْ بين أمّي وأبي بسبب السياسة: فأمّي تعتبر نفسَها مواليةً للنظام، كبقيّة أفراد عائلتها، بينما أبي يرفع راية المعارضة، لكنّه يفرّق بين المرتزقة وبين أبناء البلد الذين، كما قال، "ارتكبوا خطأً جسيمًا بتسليم أعناقهم لشيوخ الخليج والأمريكان." وكان يكرّر دائمًا بقهر: "كان يجب أن تبقى الثورة سلميّة؛ فالسّلاح مقتلها." ولم تكن أمّي لتهتمّ لآرائه، لولا اعتقادها أنّ أختي "خالدة" تتأثّر بكلامه، إذ "كلُّ فتاة بأبيها معجبة،" كما تُردّد حين تسمعها تتفوّه بما تدعوه "سخافات."
***
كانت روائح البصل المقليّ بزيت الزيتون، مع اللحمة والبهارات، قد بدأتْ تنتشر في فضاء المطبخ، عندما صاحت والدتي بفرح الأطفال: "جاءتِ الكهرباء!" ركضتْ كي تشغّل المضخّة من أجل رفع الماء إلى الخزّانات، بعد أن نصحتني بشحن جوّالي الذي أهدتني إيّاه بعد وصولي من السفر بساعات. وبينما هي تضع بعض قطع الثياب في الغسّالة وتشغّلها، كلّفتني بمراقبة الطبخة، قبل أن تركض ثانيةً باتّجاه غرفة النوم لتأتي بالمكواة، وتبدأ بِكيّ الملابس أمام التلفاز، الذي أضاءت شاشتُه من تلقاء ذاتها عند عودة التيّار الكهربائيّ.
كانت القناة الرسميّة تعرض صورًا لجنودٍ سوريين أثناء اقتحامهم بعضَ مواقع المسلّحين، ترافقها موسيقى حماسيّة. وكانت أميّ تراقب المشهد، وفي يدها المكواة، تحرِّكها ذهابًا إيابًا فوق قطعة الثياب، كأنّها تشارك الفرقة الموسيقيّة العزفَ على هذه الأداة!
تذكّرتُ كيف تعرض معظمُ القنوات التلفزيونيّة في أوروبا مثلَ هذه الصور، مع تعليقات تشير إلى الجرائم التي يرتكبها النظام. فسألتُها إنْ كانت تشاهد الأخبار على قنوات أخرى. "لا أثق إلّا بهذه القناة،" قالت بحدّة، قبل أن تضيف: "هل أكلوا عقلكَ أنتَ أيضًا؟" فلم أجبها. لذا وضعت المكواة جانبًا، وسألتني ثانيةً: "هل أكلوا عقلك هناك؟" قلت: "لم يأكلوا عقلي يا أمي، أنا هناك من أجل الدراسة ولا وقت لديّ لغير ذلك. ولكنْ، ألا تعتقدين أنّ هناك روايةً أخرى غير التي تريْنها على هذه القناة؟" قالت من دون تردّد: "لا تهمّني الرواياتُ الأُخرى. ما يهمّني هو أن تعود بلادُنا كما كانت. أن يعود الأمان وتعود الحياة الطبيعية." قلت: "ولكنْ، على المرء أن يفكّر أحيانًا..." فقاطعتني: "إنْ كان كتفكير والدكَ وأختكَ، فالأفضل ألّا يفكّر." سألتُها: "من برأيكِ بدأ هذا العنف؟" ثمّ شعرتُ بالندم، لأنّني لم أرغب حقًّا في خوض نقاش سياسيّ معها. غير أنّ الأوان كان قد فات. أجابتني بهدوء شديد هذه المرّة، وهي تشدّد على كلّ حرف: "لا يهمّني من بدأ هذا العنف. ماذا سأستفيد اليوم لو عرفتُ من بدأ هذا العنف؟!" ثمّ عادَت تتكلّم بلهجتها الطبيعيّة: "ماذا كانت ستستفيد أمُّنا حوّاء لو عرفتْ أنّ هابيل هو مَنْ قتل قابيل، لا العكس كما تقول الحكاية؟ هل كانَت ستزغرد مِن فَرط سعادتها؟ هل كانت ستوزّع الحلوى على جيرانها وترقص فَرَحًا؟"
كان جوابها كافيًا بالنسبة إليّ. جوابُ أمٍّ تخافُ على أبنائها، وتتمنّى أن تتوقّف الحربُ بأيّ شكل، كي لا تخسرَ ابنًا آخر. اقتربتُ منها، وضممتُها إلى صدري. ومن خلال دموعها قالت: "لا أحد يعرف معنى الحرب كالأمّهات."
كان موقفًا تراجيديًّا. لكنّ القدر أبى إلّا أن يُحولَّه إلى كوميديا؛ فأمّي التي كانت تغرق في حضني كيمامة أليفة، انتفضتْ بكلّيّتها قائلةً، وهي تشمّ الهواءَ: "احترقت الطبخة." ثمّ ركضَت إلى المطبخ وأنا في إثرِها، لنجد الدخانَ يملأ المكان. وبالفعل، تحوّلتِ الطبخة إلى شيءٍ من المستحيل التعاملُ معه كطعام. وعندما عبّرتُ عن أسفي، باعتباري المسبِّبَ لهذا الخطأ الشنيع، ضمّتني من جديد وهوّنت عليّ الأمر. ثم أخذت جوّالها لتتّصل بالوالد، وتخاطبه وهي تغمزني مشيرةً إلى شاشة التلفاز: "أبو خالد، جيب معك أكل جاهز حلوان انتصاراتنا اليوم." وسمعتُ صوتَ والدي من الطرف الآخر: "حاضر، حاضر، أمرك، أمر عيونك. ساعة ونكون في البيت أنا وخالدة."
بعد أقلّ من ساعة فُتح البابُ الخارجيّ، وظهر أبي وخالدة يحملان أكياسًا مليئةً بالطيّبات. وحول المائدة قصَّت أمّي عليهما حادثة مقتل جارنا، "أبو طلال." ولم تَغفل عن اتّهام قمر. كذلك أفشَت سرَّ احتراق الطبخة، ورفضتْ أن تُلقي اللومَ عليّ. ثمّ دار النقاش الذي تبيّن لي أنّه نقاشٌ مزمنٌ بين السوريين: عن الثورة (بمفهوم أبي وخالدة) والأزمة (بمفهوم أمّي). وكان الصوت العالي سيّد الموقف. استغربتُ كيف يعيش هؤلاء تحت سقف واحد، وأبديتُ خوفي الجدّيّ على مستقبل العائلة، واقترحتُ ألّا يفتحوا أحاديثَ السياسة في البيت. إلّا أنّ أبي عارضني قائلًا: "طالما يجمعنا الحبّ لن تفرّقنا السياسة."
***
كانت إجازتي قصيرة، لذا حاولتُ خلال أيّامها القليلة الالتقاءَ بأكبر عدد ممكن من الأقارب والأصدقاء والمعارف. وكنتُ سعيدًا بالأحاديث التي دارت بيننا، وبروح النكتة التي لم تتمكّن منها الحرب. زرتُ الكثيرَ من الأماكن. ومشيتُ في شوارع المدينة التي اشتقتُ إليها. وهالني عددُ أوراق النعي المنتشرة كالفطر فوق الجدران. كما هالني عددُ المقاهي المليئة بالشباب والصبايا والنراجيل المشرّعة والسجائر التي تكاد لا تخلو من فمِ كلّ شابٍّ وفتاة. لم أنتقد اندفاعهم وانشغالهم بالحياة رغم الحرب الطاحنة، لكنّني تساءلتُ ألف مرّة: "من أين يأتي بالنقود هؤلاء؟"
كذلك رأيتُ ــــ على هذه الضفّة ــــ الجانبَ المأساويّ من الحرب: المقابرَ التي غصّت بالقبور الجديدة. الجرحى ومبتوري الأطراف. الحزن في عيون كلّ من قابلتهم ولو ادّعوا غير هذا؛ فالعيون نوافذ تطلّ على أعماق الإنسان. وبرغم ذلك، عندما سألني أحدُ الأصدقاء عن المستقبل قلت: "سنأخذ العِبَر وسننهض من جديد."
"وإنْ لم نأخذ العِبَر؟" سألني ثانيةً. فأجبته بما لا أحب مجرّدَ التفكير فيه: "عندها سنكون شعبًا غير جدير بهذه البلاد، ونستحقّ الفناء."
***
في اليومين الأخيرين جلستُ جلسةً طويلةً مع خالدة. واكتشفتُ أنّ موقفها المُعَارض هشٌّ ومبنيّ على العاطفة؛ فحبيبها مُعارضٌ، وهي تتعاطف معه بكلّ بساطة، لا مع "الثورة." وعزّزَ موقفَها هذا موقفُ الوالد الذي سهرتُ معه، أيضًا، سهرةً طويلة، ذكّرني فيها بأيّام طفولتي ومشاغباتي ومغامراتي العاطفيّة. أمّا آمنة، فلم أستطع مقابلتها بسبب انعزالها التامّ. لكنّ أمّها زارتني، وأخبرتني أنّها حامل وتعيش صراعًا رهيبًا بسبب الجنين الذي اكتشفتْه في أحشائها، وهي تفكّر بالتخلّص منه قبل أن يعلم أهل زوجها بالأمر. أسفتُ لحالها، واكتفيتُ بالصمت. إلّا أنّ الحزن فعل فعله وبقيتُ لساعاتٍ أشعر بالاختناق.
***
لا أحبّ لحظاتِ الوداع. تربكني دموعُ أمّي، ورجفةُ صوت أبي، وتلويحةُ يد أختي، ونظراتُ الأصدقاء. "الوداع فاتحة للقاء جديد": هكذا حاولتُ أن أفلسف الأمر. لكنْ، هيهات أن تخدع قلبك! لذا، حين جاء وقتُ الفراق أنهيتُ هذا الطقس بأسرع ما يمكن، وخرجتُ من بيتنا وحارتنا مع حقائبي، تلاحقني نظراتُ الأحبّة وضجيجُ الشارع وضحكاتُ أطفال الحيّ.
اللاذقيّة