لا يطيق بعضُ الحكّام العرب الصبرَ على انتظار ابتلاع الشعوب "كبسولةَ" التطبيع للشفاء من "مرض" الكرامة المزمن. ولهذه الغاية، لا بدّ من وضع آلتهم الإعلاميّة الجبّارة في خدمة ذلك الهدف "النبيل." هكذا استيقظ القومُ في أبو ظبي فجأةً، هذا العامَ، على شخصيّةٍ تاريخيّةٍ تُدعى محيي الدين ابن عربي (1165 - 1240) وقرّروا تقديمَ مسلسلٍ تلفزيونيّ عنها، ولسانُ حالهم: "الشيخُ الأكبر" رمزٌ للانفتاح والحكمة وقبولِ الآخر، فلماذا لا نستعيدُ سيرتَه التي ألهمتْنا المضيَّ قدُمًا نحو "سلام الشجعان"؟ والمسلسل عنوانُه: مقامات العشق، من كتابة محمد البطوش، وإخراج أحمد إبراهيم أحمد، وبطولة مصطفى الخاني ويوسف الخال (2019).
بديهيٌّ القولُ إنّ من حق أيّ أمّةٍ أو دولة أو جماعة جعْلَ الفنّ سلاحًا تدافع به عن قضاياها التي ترى أنّها محقّة... لكنْ شرطَ ألّا يكون ذلك عن طريق الخداع والتزوير والانتقائيّة. فهل توافر هذا الشرطُ هنا؟ أمْ أنّ التجارب السابقة تثبت العكس؟
السلام ليس خيارًا حكيمًا دومًا. و"الحكمة" التي أملتْ ذلك الخيارَ تقتضي، هي ذاتُها، الحربَ على جبهاتٍ أخرى. لذا كان البحثُ في العام الماضي عن شخصيّةٍ مغايرةٍ تمامًا، مع الاعتماد دائمًا على الكاتب نفسه (الأردنيّ محمد البطوش). يومَها، وُفّقتْ "أبو ظبي للإعلام" في العثور على شخصيّةٍ تاريخيّةٍ أخرى، لم تدخلْ حربًا إلّا انتصرتْ فيها. فلم تجد المحطّةُ ضيرًا في إقحامها في الحرب المفتوحةِ على قطر، والمستترةِ مع عُمان، والباردةِ مع إيران. والشخصيّة هي المهلّب بن أبي صفرة الأزديّ.
والمهلّب هو "فارسٌ من دبا،" كما يُطلق عليه صنّاعُ المسلسل.[1] ولكنّ دبا التاريخيّة تنقسم اليوم إلى ثلاثة أجزاء: دبا الفُجيْرة، التابعة لإمارة الفُجيْرة؛ ودبا الحصن، التابعة لإمارة الشارقة في دولة الإمارات العربيّة المتحدة؛ ودبا البيعة (أو ولاية دبا)، التابعة لمحافظة مسندم في سلطنة عُمان. ولم يسبقْ أن نسب أحدٌ تلك الشخصيّةَ الجدليّة، صاحبةَ التاريخ الحافل، إلى غيرِ عُمان. وهكذا اشتعل الخلافُ بين الجارتيْن قبل عرض المسلسل، الذي استبقته السلطنةُ بعقْد ندوةٍ تاريخيّةٍ لإثبات أحقيّتِها في نسبة ذلك القائد إليها ورفضها "سرقَتَه"!
لا ينفي المسلسلُ الحقيقةَ التاريخيّةَ المعروفة عن كون الجغرافيا العُمانيّة هي الموطنَ التاريخيَّ للخوارج، انطلاقًا من حادثة إعلان "لقيط بن مالك" نفسَه ملكًا على الأزديّين، وتمرّدِه على الخليفة أبي بكر الصدّيق، ورفضِه دفعَ الجزية إلى بيت مال المسلمين، معلنًا أنّ الزكاة في عرفه هي ذهابُ مال أغنياء الأزد إلى فقرائهم، وصولًا إلى قيام الخوارج في وجه عليّ بن أبي طالب بعد معركة صفّين، رفضًا لتحكيم عَمْرو بن العاص وأبي موسى الأشعريّ. ومعلوم أنّ ثمَّة رأيًا عامًّا خليجيًّا لا يمكن تجاهلُه، وإنْ لم يرتقِ إلى مرتبة الموقف الرسميّ المعلن، يقوم على الربط بين أمرين:
- "وسطيّةِ" عُمان اليوم، وتمايزِها عن "أشقّائها" في مجلس التعاون، وذلك في مقاربة ملفّاتٍ كثيرةٍ (ليس بينها ملفُّ التطبيع مع العدوّ الإسرائيليّ للأسف).
- واستقلاليّتِها في أغلب المراحل التاريخيّة، منذ عهد الخلفاء الراشدين وصولًا إلى الحقبتيْن الأمويّة والعبّاسيّة، مع التنظير للأمر كأنّه سياقٌ تاريخيٌّ واحد، حافلٌ بشقّ عصا الطاعة، والخروجِ على وليّ الأمر، والخروجِ تاليًا من الإسلام.
غير أنّ ثمّة التباسًا هنا بين المنطقيْن لم يتكفّلْ أحدٌ بشرحه. وهو التباسٌ لا حلَّ له إلّا بالتنازل عن إماراتيّة المهلّب، أو عُمانيّة لقيط! فهل يستقيم أن يَخرج "ظالم" الحكيم، وابنُه الشجاعُ والمحنّك "المهلّب،" و"لقيط" المتمرّدُ الذي أخذته العزّةُ بالإثم، ومَن أتى بعده من الخوارج، من بطن قبيلةٍ واحدةٍ وأصلٍ واحد وبقعةٍ جغرافيَّةٍ محدَّدة، وفي زمانٍ واحد، وبَعد هذا يكون الأوَّلُ إماراتيًّا والثاني عُمانيًّا؟!
المهلّب هو "فارسٌ من دبا،" كما يُطلق عليه صنّاعُ المسلسل
وليس معلومًا إنْ كان اختيارُ قطريّ بن الفُجاءة، دون غيره من أعلام الخوارج، ليكون الشخصيّةَ الثانيةَ في المسلسل من حيث الأهميّة بعد المهلّب ناجمًا عن صداقةٍ حقيقيّةٍ وطيدة ربطتْ بين الرجلين فعلًا، قبل أن تفرّقَهما السياسةُ لاحقًا، أو هو مجرّدُ رسالةٍ سياسيّةٍ أخرى أراد صنّاعُ المسلسل توجيهَها. فثمّة رأيٌ يعتبر أنّ قطريّ بن الفُجاءة هو اسمُ الرجل، يقابله رأيٌ آخر يعتبر أنّه لقبٌ ناتجٌ من مولده في موضعٍ بين البحرين وعُمان يقال له "الأعدان" (وهي اليوم "المعدان") الواقعة شمال دولة قطر. ويغدو سوءُ الظنّ مبرَّرًا حين نعرف أنّ قطريًّا أخذتْه العزّةُ بالأثم، هو أيضًا، حين اعتبر نفسَه أشجعَ فرسان العرب وأشعرَهم. ولا يتبقّى أمام المُشاهِد سوى المفاضلة:
- بين موقف المهلّب الذي يفضِّل أن يكون في آخر جيش وليّ الأمر على أن يكون قائدًا في جيش غيره؛
- وبين امتعاض قطريّ بن الفجاءة من جعله وصديقه في مؤخّرة الجيش، وتكليفِهما إعادةَ الهاربين ومداواةَ الجرحى، وهما على ما هما عليه من البسالة والشجاعة والخبرة في فنون القتال (الحلقة التاسعة). وهذا الامتعاض سيَنتج منه خروجُ "قطريّ" في النهاية من جيش المسلمين، وانضمامُه إلى نافع بن الأزرق، مؤسّسِ الخوارج.
وكما "أتقن" صنَّاعُ المسلسل اختيارَ الشخصيّة التي تَخدم طرحَهم، فقد "أتقنوا" اختيارَ المرحلة الزمنيّة أيضًا. فمن محاسن "الصدف" أنّ الفرسَ حضروا هنا أيضًا. وقد حضروا كمعتدين، وكخطرٍ حقيقيٍّ داهم، فتصدّى بعضُ العرب "الشجعان" لمهمَّة التحضير لمواجهتهم، و"تخاذل" البعضُ الآخر. ولعلَّ هؤلاء المتخاذلين هم أنفسهم من يضايقون تاجرَيْن، يهوديًّا ونصرانيًّا (إسرائيل وأميركا مثلًا؟!) لم يأتيا إلى سوق البصرة إلّا سعيًا إلى تحصيل رزقهما الحلال، فلم ينصفْهما غيرُ والد المهلّب، "ظالم بن سارق،" الذي حاضَرَ في التجّار، مذكّرًا إيَّاهم بأنّ محمّدًا وعيسى وموسى جاءوا برسالةٍ واحدة، هدًى للناس كي يهنأوا بعيشهم، ويحلَّ عليهم السلام (الحلقة الثامنة). فَيا لَمَكر التاريخ حين يعيد نفسَه!
كما أنَّ ثمَّة التباسًا آخر لا يمكن فصلُه عن تأرجح بعض دول الخليج بين الليبراليّة، بنسختها المهجَّنة، وبين الدين، بنسخته الأكثر تشدّدًا. فمقولةُ المسلسل الأساسيّة يمكن استخلاصُها من "محاضرات" ظالم بن سارق، الذي لا ينفكّ على امتداد حلقات المسلسل يهجو الحروبَ، وينتقد الدعوةَ إلى الإسلام بحدّ السيف، ويدعو إلى إعمال العقل وتكريسِ قيم التسامح والتعايش؛ في حين أنّ المسلسل قائمٌ أصلًا على تمجيد قائدٍ عسكريٍّ عُرِفَ ببطشه وقسوته. فهل يريدنا صنّاعُ المسلسل أن نعتنق الإسلامَ على مذهب المهلّب، أمْ على مذهب أبيه؟ وهل هم يمتلكون أصلاً إجابةً حاسمةً على هذا السؤال؟
بيروت
[1] المهلّب بن أبي صفرة - فارس من دبا. قصَّة وسيناريو وحوار: محمد البطوش. إخراج: محمد لطفي. إنتاج: مؤسّسة أبو ظبي للإعلام (2018). تمثيل: معتصم النهار (المهلّب)، منذر رياحنة (قطَري بن الفجاءة)، خالد القيش (ظالم)، روبين عيسى (أم المهلّب)، جلال شموط (الفجاءة)، علاء قاسم (لقيط).