"سناء، إحنا بنشعر معك بلغة مشتركة لأنّك بتحكي لغتنا... مع إنّك مش أسيرة مثلنا!"
هكذا خاطبني أحدُ الأسرى من رفاق وليد [دقّة]، الذي أمضى حتى الآن أكثرَ من عشرين عامًا في السجن.
كانت العلاقاتُ الواسعةُ التي تربطني بأسرى كثيرين، من كلّ الفصائل الفلسطينيّة، تشكّل بالنسبة إليّ مصدرَ فخرٍ واعتزاز، وهم الذين وهبوا أعمارَهم إيمانًا بفلسطين. ولم أكن لأبني هذه العلاقات لولا معرفتي بوليد ــ ــ فارتباطي به هو الذي ربطني بهم. وهم لم يتردّدوا لحظةً في التوجّه إليّ بما يحتاجونه. وكنتُ سعيدةً بما أقدّمه إليهم، وأقدّر عاليًا معاناتَهم ومعاناةَ أهلهم، التي قال عنها وليد ذاتَ مرّة: "إنّها معاناةٌ تكفي وحدها لبناء وطن."
***
وليد محورُ حياتي كلّها. معه، لا أشعر بأنّني أعيش مشاعرَ إنسانيّةً بالغةَ الرقيّ فحسب، بل أشعر أيضًا بأنني إنسانةٌ مُنتجة، تعمل لصالح شعبها، ولا تكتفي بالتفرّج عليه.
تعرّفتُ إلى وليد عام 1996. كنتُ حينها أكتب إلى صحيفة الصُبّار (ما زالت تصدر في يافا)، وكانت كتاباتي تتناول أوضاعَ الأسرى وشؤونَهم. وقد يعود اهتمامي بالأسرى إلى تأثّري بوالدي، الذي أُسِر ثلاث مرّاتٍ، قضى في إحداها أربعةَ أعوامٍ في الأسر إلى جانب عمّي (شقيقه)؛ كما أنّنا اختبرنا اعتقالَ شقيقي للمرّة الأولى، ولم يكن قد تجاوز الرابعة عشرة، بتهمة محاولة قتل عملاء وتمزيقِ العلم الإسرائيليّ.
من عقد قران وليد وسناء في سجن عسقلان
كنتُ أستقي أخبارَ الأسرى من الأستاذ عبد الرحيم عراقي، رئيسِ "جمعية أنصار السجين" آنذاك، وكان من الأسرى المحكوم عليهم بالسجن المؤبَّد، لكنّه حُرِّر بعد سبعة عشر عامًا في عمليّةٍ لتبادل الأسرى جرت سنة 1985. بعد إطلاق سراحه اقترح عليّ أن أستقي أخبارَ الأسرى من الأسرى أنفسهم، وأعطاني اسمَ وليد، واسمَ أسيرٍ آخر، كي أزورَهما. فاخترتُ زيارةَ وليد.
أثناء زيارتي الأولى، شدّتني إليه ثقافتُه الواسعة، وتفكيرُه العمليّ الذي يدير به شؤونَه وشؤونَ السجن. سألتُه يومها إنْ كان يحتاج إلى أيّ شيء، فقال على الفور: "طبعًا، أحتاج إلى كتاب الحرب والإستراتيجيّة للكاتب الإسرائيليّ يوشفاط أركابي." عدتُ إلى زيارته بعد شهرين، ومعي الكتاب. لكنّه خلال تلك الفترة كان قد أرسل إليّ، مع أحد أقاربه، مقالةً بعنوان "رأيٌ حول ترشيح عربيّ لرئاسة الحكومة" كي أنشرها في صحيفة كلّ العرب؛ وهذا ما فعلتُه.
كنتُ أحاول دائمًا أن أوفّر له الكتبَ قدر المستطاع؛ فوليد لا "يقرأ" الكتبَ وإنّما يلتهمها بشهيّة ونهم. وكنتُ ألاحظ غرقَه في أمور السجن وهمومِ الأسرى، فينسى الاعتناءَ بنفسه. وكنتُ أعمل بنفسي على أرشفةِ ما يكتبه؛ فهناك رسائلُنا الخاصة، مقابل مقالاتٍ سمّيناها "أمور العمل" لأنّها تتناول كافّة المواضيع المتعلّقة بالوضع الفلسطينيّ، ومنها: رسائل إلى مؤسسات حقوقيّة وأعضاء كنيست، مناشدات، برامج نضاليّة تخصّ حياةَ السجون، ... وكنت أجد متعةً في العودة إلى مقالاته، وإنْ مضى على نشرها أعوامٌ طويلة.
يعاني الأسرى شوقًا مريرًا في انتظار زيارة محبّيهم. وعلى الرغم من الفرح الذي يلمسونه أثناء كلّ زيارة، فإنّ الاحتلال يسعى إلى إذلالهم كي يقلِّل من رغبتهم في زيارةٍ جديدة. في زيارتي الأخيرة إلى وليد، رنّ جهازُ التفتيش معلنًا وجودَ قطعةٍ معدنيّةٍ في حذائي، فأمرني الضابطُ الصهيونيُّ بخلعه من أجل فحصه. ثمّ حضر ضبّاطُ الاستخبارات التابعون للسجن لفحص حذائي، فشتمتُهم وصرختُ: "أنا لا أفكّر فيكم عندما أشتري ملابسي وأحذيتي!"
أخرجوني من غرفة التفتيش بهذه الحجّة، ومنعوني من الزيارة لأنّني رفضتُ أن يُجْروا تفتيشًا لجسمي. في النهاية تمكّنتُ من زيارة وليد من دون الخضوع للتفتيش.
***
من أين تأتي قوّتُنا، نحن الذين ننتظر خارج هذه الأسوار؟
نستمدّها من القابعين خلفها. فمثلما أنّ القضبان لم ولن تعرقل مسارَهم النضاليّ، فإنّ سياسات الإذلال والمهانة الصهيونيّة لن تمنعنا من زيارتهم.
الطيرة المثلث (فلسطين)