في ذاك المقهى اللطيف، على غير موعد، سمعتُهما يتحاوران. بما يشبه الاستراقَ، أصغيتُ باهتمام. وعلى غير المعتاد، حفظتُ معظمَ ما قالاه.
***
- قبل بضع سنين، على الملأ، خالفَني الرأيَ أحدُ الزملاء في تحديد المعنى الدقيق لأحد المصطلحات الأدبيّة. فقد استَشهد بمرجعٍ نقديّ مهمّ كي يَدعم رأيَه. أمام عدد غير قليل من الزملاء، معلّمي اللغة والأدب العربيّين، فَعَلَ ذلك، بصوتٍ جهير، ونطْقٍ واضح، وابتسامةِ مَن كان هو والثقةُ توأمَيْن.
* والنتيجة؟
- كدتُ أشكّ في معلوماتي، لكنّي ابتسمتُ باستغراب. بعد يومين، تذكّرتُ الموقف. فعدتُ إلى المرجع نفسه؛ فالتجارب علّمتْنا أن نخفّف من الجزم في رأيٍ أو معلومة، وإنْ كانا ضمن مجال تخصُّصنا، وأن نتروّى وننحازَ إلى الفحص والتدقيق.
* وماذا وجدتَ؟
- وجدتُ أنّ الكاتب يذكر معلوماتٍ تختلف تمامًا عمّا ذكره الزميل المخطِّئ "المصوِّب"!
* عجيب ومزعج! أجدكَ تذكّرني بما حصل معي.
- هات!
* في بدايات عملي التدريسيّ في المدرسة الثانويّة، زاملَنا في تدريس اللغة العربيّة والأدب العربيّ معلّمٌ يكبرني بسنواتٍ غير قليلة، سبق أن تولّى تدريسَ أترابي. كان من بين أبرز عاداته ومُتَعِه أن يبرهنَ لطلّابه أنّ زميله الذي درَّسَهم قبْلَه أدنى منه معرفةً!
- صبيانيّة! عُقَد!
* لا شكّ لديّ في ذلك. ثمّ شاءت الظروفُ أن يتولّى تدريسَ طلبةٍ سبَقَ أن درّستُ معظمَهم على مدار سنتين.
- يا ساتر!
* بصوتٍ آمرٍ عالٍ، خلال إحدى الحصص، طلب إلى الطلبة أن يشطبوا من دفاترهم ما نقلوه عنّي في العام الفائت، لأنّ بعضَه "غيرُ صحيح." وشرع يشرح موضوعَ الجُمَل الطلبيّة.
- وماذا كانت نقطة الخلاف؟
* "الجناية" التي ارتكبتُها أنّي ذكرتُ لطلبتي أنّ جملة النداء إنشائيّة طلبيّة.
- يا لَلهول!
* حين شَرَعَ يتحدّث عن موضوع الطلَب من زاوية بلاغيّة، لم يكتب الطَلَبةُ شيئًا ممّا نطق به. وحين عبّر عن استنكاره للأمر، لفتتِ انتباهَه إحدى الطالبات المهذَّبات إلى أنّ هذا الموضوع قد عالجه المعلّمُ السابق (أنا) بمادّةٍ من عشرين سطرًا. طلب إليها أن يعاين ما في أوراقها، فقرأ ما فيه، واكتشف الجريمة! وكان ما كان.
- وبعد ذلك؟
* بعد انتهاء الدرس، حين هبط "العلّامةُ" إلى غرفة المعلّمين، بدأ يتحدّث في الموضوع ويخطّئني.
- على مَسمعٍ مِن سائر الزملاء؟
* أجل، يا رجل! بلا خجل! وخلال تَناقُشنا في الموضوع، هو بصوته الجهير، وأنا بصوتي الخفيض، استخدم مرارًا كلمتَه الأثيرةَ البغيضةَ "كَلّا" بحدّةٍ مزعجة، وحاول أن يسخّف مَراجعي لأنّها "ليست من عُمَد الكتب"!
- يا سلام! وكيف انتهى الأمر؟
* تفاقمت الأمور، إذ انخرط في النقاش زملاء آخرون. وما لست أنساه أنّ ذاك الزميل قال بثقة العارف: "كلّا! غير صحيح! هذه قضيّة عالجها ابنُ جِنّيّ في الخصائص، وكذلك عبّاس حسن صاحبُ النحو الوافي."
- وهل فحصتَ؟
* على الرغم من صغر سنّي آنذاك، وحيائي الذي عُرِفتُ به، فقد استأتُ من سلوكه، وقلت في سرّي: "واللهِ لَأُلاحقنّ العَيّار!" استعرتُ الخصائص من مكتبة الجامعة، فلم أجد فيه أيَّ تطرُّقٍ إلى موضوعنا الخِلافيّ!
- إذًا لماذا ذكر زميلُك هذا الكتاب؟
* تلك هي عادةُ مَن يتلفّظ بأسماءِ مَراجع ضخمة ودراساتٍ مُهِمّة كي يَظهر أمام الآخرين بمَظهر العلّامة الفَهّامة.
- عقدة نقص؟
* أنت قلت.
- وماذا عن الكتاب الآخَر، النحو الوافي؟
* عدتُ إليه، فوجدتُ صاحبَه يقول إنّ النحاة يعتبرون حرفَ النداء مع المنادى جملةً فعليّةً إنشائيّةً للطلب، على الرغم من أنّها في الأصل جملةٌ خبريّة! وأنت تعرف أنّ النحاةَ يعتبرون المنادى بمنزلة مفعول به لفعل مقدَّر وفاعل مستتر حَلَّ محلَّهما حرفُ النداء.
- باعتبار أنّ "يا أخانا" معناها أو أصلها: "أنادي أخانا."
* تمامًا. وقد وجدتُ عبّاس حسن في ذاك الموضع يقول إنّه "لا قيمة للخلاف في أصل الجملة الندائيّة؛ فالذي يعنينا هو أنّها صارت فعليّةً تفيد الإنشاءَ الطلبيّ، وأنّها تركت حالتها الأولى الخبريّة."
- وهل نقلتَ لزميلكَ ما وجدتَ؟
* كان واقفًا في غرفة المعلّمين. اقتربتُ منه. وبكلام مقتضَب، وبصوت ذي نبرة شبه حياديّة لم يسمعْه سوانا، أخبرتُه بما وجدتُ، وذكرتُ له رقْمَ الصفحة من النحو الوافي.
- وماذا قال؟
* نظر إليّ نظرةً لا تفسيرَ لها، وأدار ظهرَه وغادر غرفة المعلّمين. وفيما بعد، لم يتطرّق إطلاقًا إلى ذاك الموضوع!
- مستغرَبٌ أمرُ هؤلاء! لا يعترفون بخطأ، ولا يراعون زمالةً، ولا يَرعَوْن زميلًا فَتِيًّا في بداية طريقه.
* ولا يعرفون اعتمادَ الشكّ في مجال العلم، ولا يتبنَّوْن تعابيرَ الاحتراس وتوخّي الحذر مثل: أظنّ، ربّما، من المحتمَل، على الأغلب...
- أكثر ما يتقنون التفوّهَ به: كلّا، أبدًا، لا شكّ، إطلاقًا،...
* والله لو تجنّبوا التبجُّحَ والادّعاء، لَما وَجدوا في قلوبنا إلّا المودّةَ والاحترامَ لهم.
***
وانقطع الرجُلان عن الحديث، وسمعتُهما يطلبان من النادلة فنجانَيْ قهوة، وحمدتُ الله أنّهما لم ينتبها إلى متابعتي لهما، وأنّهما لا يعرفان أنّي مثلهما أدرِّس اللغةَ والأدب العربيّين، وأنّ ذاكرتي الانتقائيّة كانت فعّالة جدًّا في تلك الدقائق.
اكتفيتُ بما سمعتُ، فانسللتُ من المقهى بهدوء حاملًا حقيبتي الصغيرة، محمَّلًا بمادّة كتابيّة افترضتُ أنّها قد تُغري بالنشر.
عبلّين (فلسطين)