نشرت الآداب في عددها التاسع من سنة 2002، ملفًّا بعنوان "ناجي العلي: سحر الكرامة."
نختار من الملفّ نصًّا يؤرّخ لسيرة الفنان، كتبه صديقه سليمان الشيخ*، اعتزازًا بناجي الذي اغتالته في لندن أيدي السوء والعمالة في 29 آب سنة 1987.
فنّان الفكرة والفطرة
المعروف أنّ فنّ الكاريكاتور فنٌّ تشكيليٌّ يضخِّم السلبيّات في الشخصيّات والمواقف، بأسلوب نقديّ ساخر. لكنّ الفنّ الإبداعيّ كان دائمًا يتجاوز القواعدَ والنظريّاتِ والتحديدات ليبتدع إضافاتِه وتعديلاته وابتكاراته، لأنّ المبدع بطبيعته توّاق دائمًا إلى كسر الرتابة والتكرار.
ناجي العلي هو من أولئك الفنّانين الذين تعاملوا مع هذا الفنّ بتجريبيّة منفتحة تراعي القواعدَ أحيانًا، لكنّها لا تَركن إليها ولا تستمرّ على منهجيّة واحدة ثابتة مدرسيّة. فقد كان مسكونًا بالفكرة أكثر من غيرها، أيْ إنّه كان على استعداد لأن لا يلتزِم القواعدَ الفنّيّة أمام إلحاح الفكرة. إنّه ــــ في كثير من أعماله ــــ فنّانُ الفكرة والفطرة، قبل أن يكون فنّان المقاييس وموجبات الخطوط والنّسَب والتشريح والإضاءات والظلال.
صحيح أنّهم يقولون: إنِ اتّسعت الرؤيةُ ضاقت العبارة. ومع ذلك فإنّ ناجي فنّان كان همُّه الأساس هو التعبير في أبسط وأوضحِ (وأحيانًا أعمق) الأشكال والأقوال. وقد أخذتْ أشكاله تستوي وتنضج تدريجًا نتيجة التكرار، أو بفعل الخبرة وتراكمِ التجارب. ومع ذلك فإنّ الفنّ من حيث الشكلُ والتجويدُ فيه لم يكن هاجسَه ولا دافعَه الأساسَ للإقبال على العمل.
هذه المقالة تحاول أن ترسم بعضَ المحطّات من حياة ناجي العلي الفنّيّة الثريّة المتنوّعةِ العطاءات والتجارب. ولكنْ ينبغي القول إنّ حمأةَ العمل اليوميّ ومتطلّباته، والتفاعل مع الأحداث، وتسجيلَ موقف منها، كلّ ذلك كان لا يتيح لناجي التخطيطَ الباردَ من أجل إيجاد فواصل بين "مرحلةٍ" وأُخرى في تجسيداته الفنّيّة. فقد كان ثمّة تداخلٌ دائم التشابك بين ما هو واقعيّ ورمزيّ وتجريديّ ومباشر وفجّ وشكليّ، لأنّ المهمّ والأساس في كلّ ذلك هو الفكرة أو الموقف.
"مَسرحةٌ" لم تفارقه أبدًا
كانت وسيلةُ ناجي الأولى للتعبير عمّا تكوّنَ لديه من مشاعر ناجمة عن النكبة هي النقدَ والسخرية، وذلك من طريق ارتجال بعض العروض المسرحيّة، ومسرحةِ بعضِ المواقف والاسكتشات وتقديمِها مع زميله إبراهيم الناطور (أبو خليل) في بعض المخيّمات والنوادي في منطقة صيدا، وأحيانًا ــــ بل وأساسًا ــــ في مقهى محمّد كريم (أبو مازن) في مخيّم عين الحلوة. وكثيرًا ما كانت تتحوّل جلساتُ لعب الورق (الشّدّة) والمسامرات بين روّاد المقهى إلى هزليّات مسرحيّة نقديّة قلّما وفّرتْ نظامًا عربيًّا. ولم تَقتصر على ما يتأتّى عفوَ الخاطر، بل إنّني شَهدتُ بنفسي بعضَ ما كان قد تمّ تحضيرُه من فقرات. كان ذلك في بداية الستّينيّات، وبعد عودة ناجي من عمله في مجال الخراطة والميكانيك من مدينة جدّة بالسعوديّة، التي عمل في إحدى شركاتها اعتبارًا من عام 1957 وحتى نهاية 1959.
وبقيتْ حالةُ المسرحة مقيمةً في ذهن الفنّان، وتَطفو على مساحة نتاجاته الإبداعيّة الكاريكاتوريّة بين فترة وأخرى. صحيح أنّ قلّة الإمكانيّات، وصعوبةَ الاستمرار في تقديم نمط واحد متكرّر من هذا النوع من المسرحة، إضافةً إلى العقبات الأمنيّة الراصدة والرافضة لأيّ نشاطٍ من هذا النوع، أَسهمتْ جميعُها في توقيف التوجّه العلميّ والتطبيقيّ الواسع لمثل هذا النشاط، خصوصًا في شكله الجماهيريّ. إلّا أنّ حالة المسرحة لم تغادر ذهنَ ناجي وبقيتْ جزءًا من تكوينه الإبداعيّ ونتاجاته المتلاحقة في فنّ الكاريكاتور. وكانت تبرز واضحةً في بعض ما يرتجله من مواقف و"قفشات" واسكتشات نقديّة سريعة وابنةِ ساعتِها، خصوصًا في المقهى أو السجن وحسب الظروف المتاحة.
في السجن
أتاحت توقيفاتُ السجن والاعتقال المتكرّرة لناجي وصحبه من حركة القوميّين العرب، الذين كانت السلطاتُ اللبنانيّة تعتبرهم من محرّضي ناس المخيّمات الفلسطينيّية على التظاهر ضدّ مشاريع مشبوهة، وقتًا وتفكيرًا لناجي كي يوالي التعبيرَ عن المعاناة التي يعيشها هو وشعبُه. فأخذت تخطيطاتُ الرسم تتوالى في التجسّد على أيّة وسيلة متاحة، ومن بينها جدرانُ السجن نفسه، أو عُلبِ السكاير. وأوّل رسم تمّ الاحتفاظُ به ونشره على علبة سكاير كان رسمَ زميله في النضال والاعتقال سعيد صالح الأسدي (أبو صالح). وحسب ما جاء في كتاب كامل التراب الفلسطيني – من أجل هذا قتلوني لمحمود كلّم، فإنّ الرسم أُنجز في شهر آذار (مارس) من عام 1961، ويظهر فيه وجهُ أبو صالح معلّقًا على صليب، كما يبرز فيه الهلالُ على جانب أُذنه اليسرى. وكانت تلك من اللوحات التعبيريّة الرمزيّة الأولى لناجي.
عندما حضر غسّان كنفاني
زار الشهيد غسّان كنفاني مخيّمَ عين الحلوة، فانتقى أربعَ لوحاتٍ للفنّان ناجي، ونشرها لاحقًا في مجلّة الحرِّيّة بتاريخ 25/9/1961، وبشّر في مقال مُرفق مع تلك اللوحات بالوعود التي تَعد بها ريشةُ ناجي. فذَكر تحت عنوان "ينتظر أن نأتي" ما يلي: "إنّ الحدّة التي تتّسم بها خطوطُه، وإنّ قساوة اللون الراعبة، وإنّ الانصباب في موضوع معين، تُدلّل على كلّ ما يجيش في صدره بشكلٍ أكثرَ من كافٍ." وقد تميّزت هذه اللوحاتُ بوحدات تعبيريّة رمزيّة واضحةِ الأبعاد والمرامي، إلّا أنّها خلت من التعليق أو التوقيع.
الأكاديميّة اللبنانيّة
كانت التخطيطاتُ الأكاديميّة للجسد، ولاسيّما الجسد الإنسانيّ (وقد شاهدتُ بعضَها ذات يوم من عام 1961 في غرفته بمخيّم عين الحلوة)، من نتاج التحاقه بالأكاديميّة اللبنانيّة للرسم في عام 1960. والحقّ أنّ ناجي لم يداوم في هذه الأكاديميّة بشكل منتظم، نتيجةً للملاحقات والاعتقالات التي كان يتعرّض لها بين فترة وأخرى. ورغم ذلك فإنّ التحاقه بها أفاده في قبوله مُدرّسًا لمادّة الرسم في الكلّيّة الجعفريّة في مدينة صور الجنوبيّة اللبنانيّة. فأمضى هناك حوالى عامين دراسيّين، أيْ منذ 1961 وحتى 1963. وقد أثمرتْ هذه المدّةُ بدايةَ مشاريع فنّيّة مع طلاّبه. وفي هذا الصدد يروي السيّد حسين شرف الدين، مديرُ الكلّيّة الجعفريّة في تلك الفترة، أنّ ناجي احتار في كيفيّة التعامل مع العرض الذي جاءه للالتحاق بمجلّة الطليعة في الكويت في عام 1963، وقال ناجي: "لقد بدأتُ مع بعض تلاميذي وتلميذاتي مشاريعَ فنّيّةً كنتُ آمل أن تضيف جديدًا إلى الحياة الفنّيّة، ومن المؤلم لي أن تتوقّف بعد مغادرتي." ثم أضاف: "على كلٍّ، آمل أن أُعوّض عن ذلك بإقامة علاقة جيّدة مع قُرّاء المجلّة التي سألتحق بها. ورأيي سأُعبّر عنه، إنْ كنتُ هنا أو هناك. وداعًا."
من المؤكّد أنّ الدراسة الأكاديميّة للطلّاب وتدريس الفنّ تركا أثرهما في نتاجات ناجي في تلك المرحلة خصوصًا، وفي بدايات عمله في الطليعة الكويتيّة في عام 1963. ويبدو هذا جليًّا في لوحاته التعبيريّة التجريديّة الرامزة التي رَسمها لرواية العبيد أو اللوتس الأحمر الميّت لغسّان كنفاني ــــ وهي من أوائل الروايات التي كتَبَها غسّان في عام 1961 ولم تُنشر في كتاب حتّى الآن. ونشر ناجي لوحاتِه مع كلّ عدد من أعداد المجلّة تضمّن فصلًا أو قسمًا من الرواية، اعتبارًا من العدد رقم 32 الصادر في 22/5/1963، حتّى العدد رقم 48 المؤرّخ في 11/9/1963. كما رسم رسمًا معبّرًا أيضًا مع قصّة لغسّان حملتْ عنوان "صمتٌ ونعالٌ وقبرٌ صغير" ونُشرت في المجلّة نفسها في 17/9/1963.
مع مرور الزمن، أخذت تأثيراتُ المرحلة الأكاديميّة تَبهت في ذهن ناجي، خصوصًا أنّ عمله كرسّام ومُخرج ومُحرّر في مجلّة الطليعة كان يفرض عليه أن يَبذل جهدًا مضاعفًا، وسرعةً في الإنجاز كي يراعي متطلّباتِ صدور المطبوعة أسبوعيًّا. ولكي يعود إلى طبعه وطبيعته المتمرِّدة، فقد أخذ يستعيد تركيزَه على الفكرة المباشرة في أعماله الكاريكاتوريّة التي أخذ يوالي نشرها في المجلّة ــــ حتى ولو كانت تحتوي على ضعفٍ أو اختلالٍ فنّيٍّ.
"كوفيّتي مال أَقل"!
في ستّينيّات القرن العشرين وحتّى سبعينيّاته، كانت بلدانُ الخليج العربيّ تتعرّض لهجمة من قِبَل نظام الشاه في طهران. وكانت ظاهرةُ تسلّل مئات، بل آلاف الإيرانيّين، من المشاكل اليوميّة المعقّدة التي كانت تواجهها تلك البلدان. ووصل الأمر بنظام الشاه إلى المطالبة بإلحاق البحرين تحديدًا بإيران. ولم يُحسم هذا الأمرُ إلّا بعد استفتاء شعبيّ أشرفت عليه الأممُ المتّحدة، وأَكّد فيه البحرينيّون عروبتهم وأَفشلوا مخطّطاتِ الشاه.
تجاوب ناجي العلي مع الدعوة التي تشدّد على عروبة أقطار الخليج، وأَبرز في في لوحاته المتكرّرة شخصيّةَ المتسلّل الإيرانيّ إلى هذه الأقطار، وجعله مادّةً تناولها بالنقد والسخرية، لا من منطلق واقعه الطبقيّ الرثّ بل لكونه أداةً في يد النظام الشاهنشاهيّ ولما يمثّله من خطر قوميّ واضح. فبعضُ الأفراد،على سبيل المثال، كانوا، على الرّغم من استقرارهم وإثرائهم، ينطقون بلغةٍ فيها عجمة وتكسير، فالتقط ناجي هذا الجانب وبنى عليه متوالياتٍ استعاد فيها جانبَ المسرحة الذي تحدّثنا عنه. وكانت عبارة "أنا كوفيّتي مال أَقل،" أي "أنا كويتيّ درجة أولى،" من العناوين البارزة في التجسيد والتعبير الكاريكاتوريّ. ونتيجةً لذلك تلقّى ناجي تهديداتٍ هاتفيّةً ورسائل تتوعّده بالقتل. ولكنّه استمرّ متبنّيًا قضايا وطنيّةً وقوميّةً وإنسانيّةً كثيرة، معلنًا بوضوح انحيازَه إلى الفقراء، وبأنّه ضدّ المتاجرة بقوت الناس ومصالحهم.
"ناجي" والصليب وحنظلة
كان من الطبيعيّ أن يبحث ناجي الفنّان عن توقيع مناسب يعبّر عنه ويضعه على لوحاته الكاريكاتوريّة، فاختار توقيعَ "ناجي" في البداية، وهي مرحلة تلت الرسم بلا توقيع. وهكذا حملت لوحاتُه في مجلّة الطليعة، خصوصًا تلك التي رسمها عام 1963 لتعبّر عن رواية العبيد لغسّان كنفاني، توقيعَ "ناجي."
ثم أخذ يَبحث عن رمز آخر، فاختار رمزَ الفداء والافتداء والصّلب، مع توقيعه باسمه أو من دونه، ووضع الصليب ضمن دائرة أو في مستطيلٍ غير متساوي الأضلاع. وقد رافقته فكرةُ الصّلب، ولاسيّما أنّها حصلتْ بسبب قضيّة كبيرة. ولوحتُه الأولى المنشورة عن أبي صالح جسّدتْ ذلك، وبقي معناها يتردّد في ذهنه وفي لوحاته. وهكذا ثبّتَ ناجي توقيعَه، واستبدل الاسم بالرمز، في الشهرين الأخيرين من عام 1966. فحملت أعمالُه التي نشرها في مجلّة الحرّيّة وصحيفة اليوم اللبنانيّتَين توقيع الصليب، وكذلك كان الحال مع أعماله التي نشرها في مجلّة الطليعة الكويتيّة بعد أن عادت إلى الصدور وعاد ناجي للعمل فيها.
بقي هذا التوقيع مستمرًّا، إلى أن تفتّق ذهنُ ناجي بعد هزيمة 1967 عن رمزه وممثّله وممثّل ضميره اليقظ والحيّ: حنظلة؛ فكرّسه في أعماله في جريدة السياسة الكويتيّة اعتبارًا من 13 تمّوز (يوليو) من عام 1969، بعد أن انتقل للعمل في هذه الصحيفة بدءًا من عام 1969. وأرفقَ رسمه لحنظلة ــــ وكان يُشبه الضفدعة في البداية ــــ ببيان برّر فيه اتّخاذَه هذه الخطوة الجديدةَ وهذا الرمز الجديد. وبقي هذا الرمزُ حاضرًا في الأذهان وفي بعض الأعمال التي يُعاد نشرُها للفنّان، أو في بعض أعمال فنّانين آخرين، حتى بعد إطلاق النار عليه في 22/7/1987، ثمّ استشهاده في 29/8/1987. وإذا كان حنظلة قد وُلدَ بدون قرص الشوك على رأسه، فإنّه أخذ يكتسبه تدريجًا، وأخذ يكتسب ملامح شبهَ ثابتة: فعُمره 10 سنوات، وهو حافي القدمَين، ثوبُه قصيرٌ مرقّع، وثمّة شوك نافر على رأسه.
نقلٌ أم استيحاء؟
وُلد ناجي وعاش في بيئة شعبيّة، فاستوعبَ وردّد وعايش بعضَ فنونها الشعبيّة، كالأهازيج والأمثال والأقوال والمواويل والحِكَم والأشعار والموشّحات والألعاب والأزجال، وكان لذلك وغيرِه نصيبٌ كبيرٌ في أعماله. ولكنّه كان أيضًا يتابع الإنجازات والأعمالَ الفنّيّة التي كان يخطّها زملاؤه، مستفيدًا وناقدًا أيضًا. وأَذكر في هذا المجال أنّنا حضرنا معرضًا معًا لأحد فنّاني الكاريكاتير العرب المشهورين في نهاية الستّينيّات، فناقش وحاور وذكر ملاحظاتٍ بحضور ذلك الفنّان، ثمّ فاجأنا في اليوم التالي بإحضار مجموعة كتب لفنّانين عالميّين في فنّ الكاريكاتير، وأَطلعنا على لوحاتٍ لهم سبقتنا الدهشةُ في الإعلان عن مدى "الاستحياء" و"التشابه" بين رسوم وأفكار فنّاننا العربيّ، ورسومِ وأفكارِ ما أَنجزه الفنّانون الآخرون!
وبعد...
كما بشّر ناجي في بيانه المنشور مع ولادة حنظلة، فإنّ هذا الحنظلة مازال حيًّا، حتى بعد إزاحة صاحبه عن مسرح الحياة. فلقد تداخّل وتآخى واندغم واندمج مع آلاف الأطفال وغير الأطفال الذين هم في المكان المتقدِّم من المعركة: يدفعون، ويضحّون، علّ ما حلم وبَشّر به وجسّده ناجي العلي يتحقّق ويقوم.
صيدا
* سليمان الشيخ: كاتب فلسطينيّ. كان صديقًا لناجي العلي. من أعماله: ما لم يُعرف من أدب غسّان كنفاني (1985).