(حاوره: بشّار اللقيس)
هنا نص الحوار الذي أجرته مجلة الآداب مع رئيس "حركة الشعب" الأستاذ نجاح واكيم. وواكيم نائب في الندوة البرلمانيّة اللبنانية بين العاميْن 1972 و2000. من كتبه: الأيادي السود (1998)، والوهم والأمل (2002).
* أستاذ نجاح، بدايةً من أيّ زاويةٍ تنظر إلى الحراك؟ وكيف تفسّر ما وقع في الأيّام القليلة الماضية؟
- أنظرُ إلى الحراك من ثلاث زوايا. الزاوية الأولى تنطلق من حقيقة أنّه كان يستحيل ألّا تنفجر الحالةُ الاجتماعيّةُ – الاقتصاديّة. فثمّة شعبٌ لا يجد ما يأكلُه، ولكنّه يرى - بأمّ العين - فجورَ الطبقة السياسيّةِ الماليّة في النهب والبذخ والإسراف. شعبٌ فقيرٌ جائعٌ ينظر مِن حوله، فيرى مسؤولًا في الدولة يصرف على "صاحبته" 16 مليون دولار، وآخرَ يدفع في حفلة زواجِ ابنه 5 ملايين دولار، ووفدًا "رسميًّا" إلى الأمم المتحدة مكوّنًا من 63 شخصًا ذاهبين في رحلةٍ أشبهَ ما تكون برحلةِ "شمّ هوا للعيْلة والأصحاب" (في حين أنّ وفد الصين الشعبيّة لا يتجاوز 17 شخصًا!). الانفجار كان حتميًّا بالتأكيد.
أمّا الزاوية الثانية فهي أنّ الحراك أثبت أنّ هناك نظامًا قد انتهى. كثيرون كانوا يروّجون أنّ هذا النظام لا يمكن إسقاطُه بزعم "أنّ اللبنانيين طائفيّون." وإذ باللبنانيين، في لحظةٍ واحدة، يجتاحون كلَّ العوائق والسدودِ الطائفيّة، ويُرْبكون المسؤولين الطائفيين. وعندما ينادي معظمُ المشاركين في الحراك بقانونٍ انتخابيّ وطنيّ لاطائفيّ، فهذا يعكس انهيارَ "قيمٍ" أساسيّةٍ في هذا النظام الطائفيّ، ويعكس سعيَ الناس إلى نظام بديل.
وأمّا الزاوية الثالثة فتتعلّق بدور الولايات المتحدة التي ساهمتْ في الإعداد لهذا الانفجار. ربّما لم تكن تتوقّعُه بهذا الشكل أو الزخم لأنّها لم تكن قادرةً على قياس درجة حرارة الاحتقان عند الناس. الولايات المتحدة، قبل حصول هذا الحَراك، أعدّت مناخًا من اليأس والاحباط، نجم عن ضغوطها الماليّة على لبنان. فإذا كانت حالةُ الإفلاس هي ما فجّر الأمورَ اليوم، فإنّ الإفلاسَ سبق أن ضرب لبنانَ منذ العام 2002 (نتيجةً لسياسات أمريكا التي نفّذها رفيق الحريري) من دون أن تنفجر الأمور آنذاك لأنّ أمريكا أوعزتْ إلى جماعاتها بضخّ الأموال في الاقتصاد اللبنانيّ. فلماذا انتقل الأمريكان الآن إلى هذه الحالة من الضغط؟ في رأيي حاول الأمريكيون تهيئةَ المناخ، ومن ثمّ عملوا على تظهير صورة أنّ الشعب اللبنانيّ كلّه في جهة، وأنّ المقاومة في جهةٍ أخرى مضادّة.
* هل من خللٍ في سياسة المقاومة هنا؟
- طبعًا. كان من المفروض أن تعمل المقاومة على تظهيرِ مشهدٍ مختلف: أنّ المقاومة والشعب اللبنانيّ معًا في جهة، ومَن يريد تجويعَه من جماعات أمريكا في جهةٍ أخرى! أعتقد أنّه كان، في هذه النقطة تحديدًا، خطأ سياسيّ، وعملانيّ، وعلى مستوى إخراج المشهد بشكل نهائيّ، من طرف المقاومة.
الطبقة السياسية مختلفة في ما بينها، لكنّها تحاول أن تجرّ الناسَ إلى الفتنة الطائفيّة. لذا فإنّ أيَّ "دعسة ناقصة" من أيٍّ من قادة الحَراك الحقيقيين يمكن أن تؤدّي بالناس إلى الهاوية أو الدم. وأنا أؤكد هنا أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها تعمل على جرّ الساحة إلى الدم من أجل محاصرة المقاومة. وفي هذه النقطة تحديدًا أختلفُ مع حزب الله، وإنْ كنتُ أتفقُ معه على العناوين الاستراتيجيّة في حماية المقاومة وغير ذلك من المسائل.
أنا أُجلّ الإخوة في المقاومة، وأحترمُهم، وأحترم إنجازَ المقاومة التي لولا دورُها ودورُ حزب الله تحديدًا لما وصلتْ "إسرائيل" إلى مرحلة الارتداع عن الاعتداء على لبنان - - وهذه ليست مسألةً تفصيليّةً. ولولا حزبُ الله لكان وضعُ القضيّة الفلسطينيّة أكثرَ من مأساويّ. لكنّ "صديقَكَ مَن صَدَقَكَ لا مَن صدّقك!" وأنا قلتُ للإخوة في حزب الله إنّ أمريكا نجحتْ، أو هي تعمل على إنجاح تظهير صورةِ أنّ الشعب اللبنانيّ في ساحة، و"الشيعة" أو حزبَ الله في جهة أخرى.
وبالعودة إلى بداية حديثنا، فإنني ألخّص بالقول إنّ ثمّة زوايا ثلاثًا أو جوانبَ ثلاثةً للحَراك الشعبيّ اللبناني: شعبٌ انفجر، ونظامٌ سياسيّ مهترئ، وولاياتٌ متحدة تحاول تجييرَ الحراك لصالحها.
*النظام مهتزّ، ولكنّنا ما زلنا نفتقد البديل! أين اليسار؟
- عندما نحكي عن البديل، فإنّنا نتحدّث عن أمريْن. الأول نظريّ، ويختصّ بالرؤية البديلة للحلّ، وهي ليست صعبةً أبدًا.
فعلى صعيد حلّ الأزمة الماليّة، من المعروف أنّ نسبةَ الديْن العامّ مقارنةً بالناتج المحلّيّ بلغتْ 220%، وأنّ العجزَ في ميزان المدفوعات بلغ 18 مليار دولار. الحلّ الذي نطرحُه في هذا المجال يكمن عند القضاء، الذي لا يقوم بواجبه أصلًا. على القضاء المباشرةُ بالحجز الاحتياطيّ على ثروات الفاسدين، ومنعِهم من السفر، وحينها سنستحصل على 25 مليار دولار فورًا! لماذا لا يقوم القضاءُ بواجبه؟ الإجابة بسيطة: لأنّه مُعيّنٌ من قِبل السياسيين الفاسدين!
أمّا على صعيد أزمة النظام السياسيّ، فحلُّنا المقترَح نظريًّا هو: حكومة انتقاليّة، بصلاحيّات تشريعيّة، تضع قانونًا للانتخاب بحسبِ ما يقول الدستورُ يكون وطنيًّا غير طائفيّ. عندها نكون قد بدأنا بإعادة بناء الدولة على أسس جديدة. هذا في الجانب النظريّ.
لكنّ إشكاليّة البديل عمليّةٌ أكثر منها نظريّة. إنّ جزءًا رئيسًا من أزمة البلد كامنٌ في "القوى التقدّميّة." كلّ قوة من هذه القوى تجد أنّها لا يمكن أن تنتصرَ على قوى السلطة من دون الانتصار على القوّة الأخرى. أو لنقل إنّ هذه الأحزاب لا تستطيع الانتصارَ على السلطة، فتكاد تحصر ردودَ أفعالها بنقد الأحزاب الأخرى! وهذا يدلّ، للأسف، على قِصر نظرٍ وضيقِ رؤية. هذا من دون الحديث عن "استماتة" بعض اليسار في التقاط الفتات المُلقى من موائد السلطة. وأنا هنا لا أريد ذكر أمثلة وهي كثيرة.
لقد بذلنا في "حركة الشعب" جهودًا جبّارةً بين العاميْن 2000 و 2015. بذلنا قرابةَ ثماني محاولات. وكنّا دومًا نفاجأ بطعونٍ في الظهر قبل أن تثمرَ هذه المحاولات شيئًا، أو قبل خروجها إلى العلن أحيانًا! وهذا ما أحدث إحباطًا في عموم جمهور هذه البيئة التقدميّة. لذا فإني أقول لكَ، صراحةً، إنّ الأزمة كبيرة في هذه الناحية، إلى درجة أنني لم أعد أرى إمكانيةً لتوحّد هذه الأحزاب نظرًا إلى انعدام الثقة بينها.
طبعًا هذا لا يعني أن نتجمّد. بل نحن الآن في طور جمع شخصيّاتٍ وفعّاليّاتٍ نقابيّة وسياسيّة وشعبيّة من أجل تشكيل نواةٍ تُسهم في وصول هذا الحراك نحو أهدافه.
* الحراك على الأرض يحتاج إلى وجودكم، أستاذ نجاح. لماذا لم نجدْكم على الأرض إلى اليوم؟
- أتلقّى منذ اليوم الأول للحراك اتصالاتٍ مباشرة، وأُطلب لإجراء مقابلاتٍ مباشرة، ونحو ذلك. قد يفرح المرءُ بالْتمامِ الناس وتأييدهم، لكنّني اخترتُ ألّا أنزلَ إلى الشارع، مع العلم أنّ "حركة الشعب" موجودةٌ على الأرض منذ اليوم الأوّل للحَراك، وبشكلٍ فاعلٍ وواعٍ. وقد تناقشتُ مع الرفاق في الحركة في موضوع "النزول،" ووجدتُ أنّ ذلك لن يفيدَ ما لم أكن جزءًا من كتلةٍ تَجْمع القوى المناهضة للطائفيّة والرجعيّة والسياسات الأمريكيّة وتسهم في وصول الناس إلى أهدافهم. فمن دون هذه الكتلة لن أكون فاعلًا في تحقيق هذه الغاية.
لا أعتقد أنّ الحراك سينتهي في غضون أسبوعٍ أو أسبوعيْن. لذا أرى أنّ الأولويّة هي في إيجاد هذه الكتلة التاريخيّة التي تتصدّى لمهمة الإنقاذ والتغيير الحقيقيّ.
نتواصل هذه الأيّام مع "نادي القضاة" - - وهذه مجموعة جيّدة، دورُها هو الضغطُ على القضاة من أجل القيام بواجباتهم. إنّ من واجبات النيابة العامّة القيامَ بالبحث والتحرّي، وفتحَ أيّ ملفّ ورد فيه إخبارٌ، ولو عبر شاشة التلفاز. لكنْ على الرغم من كلّ ما حدث، لا تزال هذه النيابةُ العامّة، ولا يزال الجسمُ القضائيّ، في منأًى عمّا يحصل في البلاد. فهل يُعقل ذلك؟
"نادي القضاة" جهة جيّدة، إذًا. ويجب أن تكون هناك جهاتٌ أخرى، تقوم بأدوار مختلفة ومتكاملة، لا أن تكرّرَ الكلامَ نفسَه، من أجل تحقيق الهدف نفسه. خذ مثالًا آخر: كثيرون يتحدّثون عن قانونٍ مدنيّ خارج القيد الطائفيّ، لكنْ لا يبدو أنّ ثمّة خارطةً واضحةً في هذا الشأن يحملها المعنيّون في الحراك.
ما أريدُ قولَه هو أنّ مطالبَ الناس المحقّة يجب أن تترافقَ مع الأدوات الأمينة والجديرة بحملها وإيصالها إلى أهدافها النهائيّة. من هنا، كنتُ عند موقفي بعدم "الاستعراض" الشخصيّ في الشارع، وأن أنأى بنفسي عن "التهريج" هناك.
* ماذا عن مشاركتكم في "هيئة تنسيق الثورة" التي تضمّ عددًا من الأحزاب المريبة، أو هي في موضع إشكالٍ لجهة تمويلها ومرجعيّتِها وموقعِها من الصراع مع العدوّ الصهيونيّ؟ كيف تفسّر وجود "حركة الشعب" وهذه الأحزاب على جدول العمل المشترك ذاته؟!
- في التعاطي مع هذه الأزمة، يجب ألّا نتركَ المجموعاتِ المختلفةَ في الحَراك. نحن الآن نرفع مطالبَ شعبيّة: مثل استرداد المال المسروق، والتأسيس لقانون انتخاب خارج القيد الطائفيّ. وهذا يقتضي تشكيلَ حكومة وطنيّة تتطلّع نحو اللاطائفيّة. لذا، فقبل أن تسألني: "مع مَن تعمل؟" اسألْني: "ما هو برنامج العمل؟"
نحن نحدِّد تحالفَنا وافتراقَنا بناءً على برنامج العمل. وبرنامجُ العمل اليوم هو الذي يفرز الحراكَ ومكوّناتِه سياسيًّا. لا نريد أن نقودَ أحدًا، كما لا نريد لأحدٍ أن يقودنا. فلنعملْ، إذًا، على برنامج سياسيّ واضح، حتى نمشي خلفه كلّنا، لا بحسب المكوِّنات والتقاطعات العقائديّة. هكذا نفهم السياسة. ومن هنا، أوصيتُ الرفيقات والرفاق في "حركة الشعب" بالانفتاح على جميع مَن يقبل هذه المطالب.
*هل سيستطيع الحَراك أن يخلقَ جوًّا جديدًا على مستوى الإطار النظريّ للناس؟
- أطراف السلطة جميعها تعيش خوفًا من هذا الحَراك. من هنا ستلاحظ أنّ الخطاب الطائفيّ أتى من غير جهة. يضاف إلى ذلك ما قامت به بعضُ القوى في ساحة رياض الصلح وعند منطقة "الرينغ" أجّج المسألةَ الطائفيّة والتمترسَ الطائفيّ. ذلك لأنّ المواطن العاديّ متى شعر أنّ منهج عمل القوى "الأخرى" يستند إلى السلاح والقوّة، فقد يَتْبع تلقائيًّا طائفتَه وبندقيّتَها الطائفيّة. الشعب دائمًا وأبدًا ينقسم أو يجتمع بحسب الخيارات التي تضعها أمامه. فإذا طرحتَ أمامه المسألةَ بشكل طبقيّ، أو قيميّ، نابعٍ من وجعه، فسيتعاطى معك بطريقة مختلفة عمّا لو طرحتَ المسألةَ أمامه بشكلٍ طائفيّ.
*إلى أين سينتهي الحراك؟
- ثقافتُنا، نحن اللبنانيين، استهلاكيّة. وربّما يعود ذلك إلى كون مجتمعنا مجتمعًا استهلاكيًّا لا إنتاجيًّا. لهذا الأمر مضارُّه، إذ يعمل الشعبُ حاليًّا وفق منطق "الضربة الواحدة القاضية": فإمّا أن يعلو إلى الأعلى، أو يرتدَّ إلى القاع منكسرًا. لذا، فمن يتصوّر أنّ هذا الحراك، وفي غضون 15 يومًا لا غير، سيحقّق كلَّ الآمال، سيصاب بالخيبة حتمًا.
في المقابل، فإنّ من يقول إنّ هذا الحراك لن يُحقّقَ شيئًا، لم يعِ شيئًا بالتأكيد. لقد شكّل هذا الحراكُ بدايةً قويّة. قد تهدأ هذه البداية قليلًا فترةَ تشكيل الحكومة. وربّما يستمرّ الهدوءُ إلى ما بعد تشكيل الحكومة لو جاء رئيسُ الوزراء المكلَّف بأسماءٍ لا تستفِزّ الشارع، أو بشخصيّاتٍ تكنوقراطيّة. لكنْ، عند أوّل مشكلٍ تواجهه الحكومةُ، ستُفتح أسئلةُ الشارع، وسيعود غضبُ الناس إلى جذوته.
إنّ السياسة الاقتصاديّة التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة هي التي يجب أن تتغيّر. إنّ على الاقتصاد أن يمسي منتِجًا، لا ريعيًّا. كما أنّ النظام الطائفيّ انتهى، وهذا ما يجب أن نعيَه جميعًا. التحوّل قادم، لكنّه مقترِنٌ بمَن سيوجِّه، وبمن سيقود هذا الحَراكَ، بوعيٍ وتؤدة، نحو ما ينبغي أن يصل إليه.
بيروت