مع كلّ أزمةٍ سياسيّةٍ في الداخل العربيّ، أو مشروعِ هجرةٍ الى الخارج، يبادر العربُ إلى طرح السؤال عن هويّتهم وثقافتهم، وكأنّنا جماعةٌ لا جذورَ تاريخيّةً لها ـــ لا لغةً، ولا ثقافةً جامعة. ولعلّ أمّةً لم تَعرفْ، في العصر الحديث، أزمة ثقافيّة حادّة، كالتي تعرفها أمّةُ العرب منذ عقود ـــ بدءًا بإشكاليّة اللغة، وصولًا إلى الصراعات الدينيّة والطائفيّة، مرورًا بالتنكّر للهويّة والثقافة الوطنيّة والقوميّة.
عرّف تايلر(1) (1871) ثقافةَ الشعوب بأنّها مجموعُ العادات والتقاليد والمبادئ والمعارف والقوانين والفنون التي يكتسبها الفردُ في مجتمعه. وطوّرتْ منظمة اليونسكو(2) (1982) هذا التعريفَ، معتبرةً أنّ الثقافة هي جميعُ السمات الروحيّة والمادّيّة والفكريّة والعاطفيّة التي تميِّز مجتمعًا بعينه أو فئةً اجتماعيّةً بعينها، وتجعل منه كائنًا يتميّز بالعقلانيّة والقدرةِ على النقد والالتزامِ الأخلاقيّ. ويرى عالمُ النفس الروسيّ ليف فيكوتسكي(3) (1978) أنّ الثقافة تنتقل من جيلٍ إلى آخر عن طريق اللغة والرموز والإشارات وأدواتٍ مادّيّةٍ أخرى، وعن طريق التفاعل مع الآخر. وهو يرى أيضًا أنّ تطور الفرد وبنائه لشخصيته نتاجٌ لتعلّمه عن طريق هذا التفاعل الاجتماعيّ.
استنادًا إلى هذه التعريفات، يمكن القول إنّ ثقافة الفرد هي نتاجٌ لموروثٍ اجتماعيّ ينتقل من جيلٍ إلى آخر، شأنَ العادات والتقاليد واللغة والتاريخ والقيم. وهي أيضًا نتاجٌ لعلاقة الفرد الطبيعيّة بالمجتمع الذي يعيش فيه، ولتفاعله مع الأدوات الثقافيّة التي تميّزهذا المجتمعَ وتساعدُه على تطوير معارفه ومهاراته وسلوكيّاته وسماته الشخصيّة.
تحيلنا هذه التعريفاتُ على جملة تساؤلات عن كيفيّة تفاعلِ المُهاجِر مع المجتمعات المتعدّدة الثقافات، والعواملِ التي قد تحُول دون إحساسه بانتمائه إلى ثقافته الأمّ. وهذه التساؤلات وغيرُها أصبحتْ مقلقةً في ظلّ ضياع الهويّة الذي يعانيه بعضُ المهاجرين، وبخاصّةٍ العرب. بين الاندماج والانصهار والانكفاء، يعيش هؤلاء حالة صراع تتمحور حول الهويّة واللغة والثقافة والوطن الأمّ والوطن البديل. ويترافق هذا مع تعديل الغرب في السنوات الأخيرة لسياساته الخاصّة بإدارة التعدّديّة الثقافيّة واللغويّة، ليفرضَ ثقافةَ مجتمعه ولغتَه على الأقلّيّات المهاجرة؛ ولئن دأبتْ فرنسا على هذا منذ زمن، فثمّة اليوم تغييراتٌ جذريّةٌ في سياسات هولندا وسويسرا وبريطانيا وغيرها لصالح صهر المهاجرين في المجتمعات المضيفة، ولا سيّما مع تصاعد موجة "رُهاب الإسلام."
الجدير ذكرُه إنّ السياسات الغربيّة ليست وحدَها المسؤولة عن الصراع الداخليّ الذي يعانيه المُهاجرالعربيّ. فإذا كانت هذه السياسات قد فَرضتْ عليه، مثلًا، لغةَ المجتمع البديل، فإنّها لم تمنعْه من المحافظة على لغته؛ بل إنّ بعض هذه السياسات ركّز على أهمّيّة الحفاظ على اللغة الأمّ، شأن مقاطعة كيبك (الفرنسيّة) التي أقرّت حديثًا في سياستها الصادرة عن وزارة الهجرة والتعدّديّة والدمج(4) (2016) أهمّيّة معرفة المُهاجر وتقديره للغته الأمّ شرطًا أساسًا لتعلّم الفرنسيّة بسهولةٍ أكبر.
لكنْ قبل التساؤل عن الصراع على الثقافة والهويّة التي يعيشها المهاجر، فلننصتْ إلى بعض الأحاديث المتداولة بين أفرادٍ عربٍ داخل البلاد العربيّة. ليس مغالاةً القولُ إنّ أكثر من نصف هؤلاء يتحدّثون لغةً غير لغتهم، ومعظمُهم ـــ وبخاصةٍ الحديثو السنّ ـــ لا يجيدون العربيّة. أمّا مدى معرفتهم باللغة البديلة (الإنكليزيّة عادةً)، فهذا موضوعٌ آخر يتعلّق بما سنسمّيه "الأحاديّة اللغويّة الناقصة" لكون كثيرين منهم يختصرون اللغة البديلة بما ينطقون به فقط ويجهلون عمقَها وبعدَها الثقافيّيْن.
كيف نتفاعل مع المجتمع البديل؟
تأخذ علاقة المُهاجر بالمجتمع البديل أشكالًا ثلاثة: الاندماج والانصهار والانكفاء.
الاندماج هو الحالة المُثلى. فهو تفاعلُ الفرد مع المجتمع البديل بشكلٍ إيجابيّ، بمعنى التعرّف إلى مكوّناته الاجتماعيّة، والتكيّفِ معها، وتقديرِها؛ إضافةً إلى المحافظة على ثقافته ولغته. والاندماج يؤدّي حتمًا إلى ثنائيّةٍ لغويّةٍ إيجابيّة، وإلى الانفتاح على الثقافات الأخرى واكتسابها؛ كما يساهم في التفاعل الإيجابيّ مع العولمة الاقتصاديّة والعلميّة والفكريّة، بما يفيد المجتمعَ البديلَ والمجتمعَ الأمّ معًا. ويترافق الاندماجُ مع حالةٍ من التوازن والتقبّل الذاتيّ، إذ لا اندماجَ من دون حصانةٍ ثقافيّةٍ ولغويّةٍ تدفع المرءَ إلى الاعتزاز بموروثه الثقافيّ واللغويّ.
أمّا الانصهار فيعني انسلاخَ الفرد عن ثقافته ولغته الأمّ، واكتسابَه المكوّناتِ الاجتماعيّة والثقافيّة واللغويّة الخاصّةَ بالمجتمع البديل. وهو ينجم عن تشوّش الفرد في تقدير هوّيته الذاتية والوطنيّة والقوميّة ومجملِ موروثه الحضاريّ واللغويّ.
وأمّا الانكفاء فهو عكسُ الانصهار. إنّه رفضُ التكيّفِ والاندماجِ، ورفضُ التعرّف إلى المجتمع الجديد وتقبّلِه، نتيجةً في الغالب لتعصّب الفرد لثقافته تعصبًا مطلقًا. ويُقابَل هذا الانكفاءُ بانكفاءٍ وسلبيّةٍ من الآخر.
كيف نفسّر هذا التفاعل؟
تَعتبر كوريلسكي(5) (2014) أنّ العلاقة بين الفرد والمجتمع ليست أحاديّةً أو ثنائيّةَ الوجهة، ولا تقتصر على الفعل وردّة الفعل، بل هي علاقةٌ دائريّة. وهذا يعني أنّ الفرد يَستحضر، أثناء تفاعله مع الآخر، قيمَه وقناعاتِه وموروثَه وتحليلَه الشخصيَّ للعلاقة، إضافةً إلى تأثير العوامل الخارجيّة المرتبطة بسياقها. وفي الإطار نفسه، تجد مدرسة بالو ألتو(6) أنّ الفرد يحتلّ أثناء تفاعله مع الآخر وضعيّاتٍ تختلف باختلاف نوع العلاقة، التي تكون مكمّلةً أو تماثليّة. تتّسم العلاقةُ الأولى بمستوييْن:سلطويّ يحتلّه أحدُ الطرفين، وتابع (أو خاضع) يحتلّه الطرفُ الثاني؛ فإذا تقبّل كلٌّ مستواه، ثبتت العلاقةُ، إلى أن يعمل أحدُهما على تغييرها لصالحه. أمّا العلاقة التماثليّة فعادلةٌ، وتؤدّي إلى احترامٍ متبادلٍ بين الطرفين.
عند تطبيق هذا التعريف على أشكال التفاعل السابقة، يمكننا القولُ إنّ الاندماج في المجتمع يأتي من علاقةٍ تماثليّة، إذ لا يحتلّ الفردُ الذي ينتمي إلى الأقليّة مستوًى متدنّيًا تجاه الآخر الذي يأتي من ثقافة الأكثريّة، بل يشعر نفسَه في توازنٍ معه من حيث الموروثُ الثقافيّ والحقوقُ والواجباتُ والمواطنة. وهذا يتطلّب من الطرفين تقديرَ الذات، بكل ما تمثّله من لغةٍ وتاريخ، وتقديرَ الآخر بكلّ خلفيّاته.
أمّا الانصهار فيَنتج من علاقةٍ مكمّلةٍ يحتلّ فيها المهاجرُ مستوى الخضوع للثقافة البديلة المتسلّطة بسبب إحساسه بدونيّته تجاه الآخر إلى حدّ تماهيه معه، كأنْ يتباهى بتحدّثِه بلغة هذا الآخر من دون أن يجيد لغته العربيّة ذاتها. وتكون هذه العلاقة ثابتةً إذا لم يعمل أحدُ الطرفين على تغييرها.
وأمّا الانكفاء فقد يأتي من صراع دائم مع الثقافة الأخرى على احتلال المستوى الأعلى في العلاقة التماثليّة لأنّ كلًّا منهما يرى نفسَه جديرًا به دون الآخر؛ أو قد يأتي من احتلال المُهاجِر وثقافته للمستوى المتدنّي في العلاقة بفرضٍ قسريٍّ من لدن الآخر.
هكذا، تؤثّر نظرةُ الفرد إلى نفسه، ومدى معرفته واعتداده بثقافته الأمّ، في أسلوب تفاعلِه مع الآخر، وتاليًا في فعاليّة دوره تجاه المجتمع البديل والمجتمع الأمّ. فبين الاندماج والانصهار والانكفاء، تُبنى حضاراتٌ أو تُحتضر ثقافات. إنّه سؤالٌ حول تموضع الفرد بالنسبة إلى ثقافته وثقافةِ الآخر. وكثير من العرب، في الداخل أو الخارج، عن وعيٍ أو من دونه، يعملون على تغييب ملامح ثقافتهم. واكتسابُ بعضهم للثقافة الأخرى، كما ألمعنا سابقًا، لا يتعدّى القشورَ؛ فمن لا يملك حصانةً فكريّةً، لا يمكنه الغوصُ في البعد التاريخيّ والحضاريّ للثقافة الغربيّة، ويبقى دائمًا على مفترق طريقٍ بين ثقافتين.
إنّ الثقافة، كما جاء في البداية، تنتقل من جيلٍ إلى آخر. والخشية هي أن يرث الجيلُ الجديدُعن الطبقة النخبويّة فشلَها وتبعيّتَها لكلّ أشكال الاستعمار، وأن يرثَ شعاراتِها الزائفة حول الثقافة والهويّة والدولة الوطنيّة. والخشية أيضًا أن يصبح هذا الجيلُ غريبًا داخل وطنه الأمّ، كما هو غريبٌ خارجه.
قطر
2- انظر موقع منظمة اليونسكو
3- L S Vygotsky, Mind in Society : The Development of Higher Psychological Processes (London, Royaume-Uni : Harvard University Press), 1978.
5- F Kourilsky-Belliard, Du désir au plaisir de changer: comprendre et provoquer le changement (France: Dunod).
6- Ecole de Palo Alto
أصحاب المقاربة المنهجيّة أو النظاميّة في مجال العلاقات الإنسانيّة