وُلدتُ في مدينة رام الله لعائلةٍ أرثوذوكسيّة. لكنْ لم يكن الدينُ أو الطائفة حينها أساسًا للفلسطينيّ أو مركزًا، بل كان الاحتلالُ هو همَّه المركزيّ.
وقتذاك، كانت الاحتفالاتُ الدينيّة هي المناسبة التي يحتفي بها الجميع، ويقدِّم الكشّافةُ استعراضًا للفرح. وفي العام 1978 تحوّلتْ هذه الاحتفالاتُ إلى مناسبةٍ وطنيّة إثر استهداف المستوطنين سيّارةَ رئيس بلديّة رام الله، الراحل كريم خلف، ورئيس بلديّة نابلس المناضل بسّام الشكعة، إذ كان الاحتفال الذي رُفع فيه العلمُ الفلسطينيّ قد تحوّل الى مواجهةٍ مباشرةٍ مع الاحتلال.
ما بعد أوسلو (1993)، وتفتُّتِ النسيج الوطنيّ والاجتماعيّ، أخذتْ عمليّةُ نهش الأرض الفلسطينيّة، عبر الاستيطان والمصادرة، تتصاعد يوميًّا. ولم تُحرّك السلطةُ الفلسطينيّةُ ساكنًا، بل غرقتْ في المفاوضات العبثيّة مع العدوّ.
ومع هذا التصاعد برزتْ قضيّةُ بيع أراضي الوقف الأرثوذوكسيّ المسيحيّ إلى الاحتلال، فيما واصل الأرثوذوكسُ العرب الفلسطينيّون نضالَهم منذ عقود من أجل تعريب رأس الكنيسة من احتلالها اليونانيّ، وراحت تتبلور أطرٌ تَرفع هذا النضالَ إلى المستوى الوطنيّ الشعبيّ.
فلقد أفضت التراكماتُ النضاليّة إلى متغيّرين أساسيّين، كنتُ شاهدةً عليهما:1) المؤتمر الوطنيّ الأوّل لدعم القضيّة الأرثوذوكسيّة، و2) أحداث 6/1/2018 التي جرى فيها التصدّي للبطرك اليونانيّ ثيوفيليوس بغية منعه من دخول مدينة بيت لحم بسبب ضلوعه في بيع أراضي الوقف إلى العدوّ.
***
كان المؤتمر الوطنيّ الأوّل لدعم القضيّة الأرثوذوكسيّة (بيت لحم، 1/10/2017) هو الحجرَ الأساسَ لمأسسة هذا النضال كنضالٍ وطنيّ. وقد جاء بدعوةٍ من القوى الوطنيّة والمجلس المركزيّ الأرثوذوكسيّ، وبمشاركةِ فلسطينيّين من أقصى شمال فلسطين إلى جنوبها، من دون اعتبارٍ للطائفة أو الدين، وعُقد تحت شعار "أوقاف الكنيسة الأرثوذوكسيّة قضيّةُ أرضٍ ووطنٍ وانتماءٍ وهويّة." وهو بذلك شكّل، للمرّة الأولى، عنوانًا واضحًا وأداةً فاعلةً لتأسيس نضالٍ وطنيٍّ من أجل استعادة الكنيسة التي سرقها اليونانُ بالتعاون الكامل مع الاحتلال الاسرائيليّ.
في هذا المؤتمر كان صوتُنا واحدًا: "فليرحلْ وليُعزلْ هذا البطرك، وليُسْتعَد الوقفُ الأرثوذوكسيّ الفلسطينيّ!" كما طالبنا بأن تتّخذ السلطتان الفلسطينيّة والأردنيّة موقفًا حازمًا من البطرك وحاشيته.
يقول الحكيم جورج حبش: "إنّني في حالة انسجامٍ مع قوميّتي العربيّة، ومسيحيّتي، وثقافتي الإسلاميّة، وماركسيّتي التقدميّة." واليوم، مع تصاعد النضال الوطنيّ، فإنّ هذه المقولة تعبِّر أكثر من أيّ وقتٍ مضى عن رؤيتي لجوهر العمليّة النضاليّة من أجل تحرير الكنيسة من رأسها اليونانيّ الفاسد، بما يمثّله البطرك ثيوفيليوس من خيانةٍ لأمانة الحفاظ على الوقف الأرثوذوكسيّ؛ فالوقف هو وقفُ المسيحيّين الفلسطينيّين، وأرضٌ فلسطينيّةٌ ينبغي على رأس الكنيسة الحفاظُ عليها، لا تسليمُها إلى الاحتلال مقابل مكافآتٍ زهيدة.
وعليه، فقد شكّل المؤتمرُ الوطنيّ الأرثوذوكسيّ خطوةً مركزيّةً وأساسيّةً في رفع مستوى وتيرة نضالنا إلى مستوى النضال الوطنيّ. فتبنّته القوى الوطنيّة والإسلاميّة، بحيث أصبحت مسألةُ الوقف الأرثوذوكسيّ مسألةً وطنيّةً جامعة، لا مسألةً طائفيّةً معزولة.
***
جاء يوم 6/1 ليشكّل الاختبارَ الثاني لمدى جدّيّة نضالنا وجذريّته، إذ كان الميدان هو القولَ الفصلَ في هذه المسألة. فالتصدّي للموكب البطريركيّ هو تصدٍّ لموكبِ خائن، بدلالاته الوطنيّة لا الدينيّة؛ إذ ليست مشكلتُنا مع رجال الدين، ولا مع مَن يقيم الصلاة، بل مع مَن يَستخدم هذه العباءةَ ليمارس أدوارَ الخيانة. ومن هنا كان التحرّك في الشارع، وكان ذلك اليومُ المفصليّ في رفع مستوى النضال الوطنيّ.
كان يومًا مشهودًا بالنسبة إلينا، ومختلطًا بالكثير من المشاعر والمواقف. تجمّع الفلسطينيّون والفلسطينيّات منذ الصباح، على الرغم من علمهم المسبّق أنّ انعقاده لن يكون قبل الحادية عشرة؛ فحجمُ المهمّة والمسؤوليّة جعل الجميع يأتي باكرًا. وكان الفلسطينيّون من عكا والجليل واللدّ ويافا أولَ الحاضرين، فيما امتنع رؤساءُ بلديّات بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور من استقبال البطرك اليونانيّ وفق التقليد المتّبع. وكذلك فعلتْ فِرقُ الكشّافة، إذ قاطعتْه هي الأخرى، واستعدّت لاحتفالٍ شعبيٍّ بعيدًا عنه.
وقفنا في البرد الشديد، والهتافاتُ الوطنيّة تتصاعد ضدّ البطرك، وتطالب السلطةَ الفلسطينيّة باتّخاذ موقف. وكان في انتظارنا المئاتُ من أفراد الأمن الفلسطينيّ، مجهَّزين بأدوات القمع المعتادة، التي وصلتْ إلى حدّ وجود كلاب شرطة تنتظر في سيّاراتهم بهدف حماية موكب البطرك وتأمين عبوره! وفي محاولةٍ لتضليلنا واستغلال الظروف الجوّيّة الباردة، تأجّل عبورُ البطرك. غير أنّ إصرارنا تزايد مع اشتداد البرد وهطول المطر. إلى أن جاء البطرك بحماية المزيد من عناصر الأمن الفلسطينيّ لتأمين عبوره، ووُضعت المصدّاتُ والحواجزُ أمامنا.
عند وصول الموكب، ومن دون أيّ ترتيبٍ مسبّق، اندفع الجميعُ نحو السيّارات، وتحديدًا سيّارة البطرك المصفَّحة. وعلى قاعدة ما تيسّر بين الأيدي من أحذيةٍ وبيْضٍ وغير ذلك، تصدّى الفلسطينيّون لهذا البطرك الفاسد. وقد نَقلتْ عدساتُ الإعلام والصحفيّين ذلك المشهدَ، ليشكّل الحدثَ الأبرزَ في مسيرة نضالنا لاستعادة وقفنا الفلسطينيّ الأرثوذوكسيّ وتعريب رأس الكنيسة من احتلالها اليونانيّ. وللمرة الأولى منذ 500 عام يُكسر هذا التقليدُ الاستعماريّ العثمانيّ ــــ اليونانيّ، ويُعلَن احتفالُ الميلاد الفلسطينيّ بامتياز.
هذا التحرّك هو تحرّكٌ وطنيٌّ للقوى الوطنيّة والإسلاميّة بقيادة المسيحيّين الأرثوذوكس. وهو نضالٌ مستحقٌّ وضروريّ، أتاح لنا اليوم قوّةً وتنظيمًا أكبر في مواجهة الاحتلال ومعاونيه.
فلسطين