أوقفتْني في الحيّ صبيّةٌ في مُقتبل الورد، والندى في عينيْها لم يزل نديًّا طريًّا:
ــــــــ أرأيتَ ما وقع؟
ــــــــــ انهارَ الجدار!
ـــــــــــ بل سقطت الدارُ على ساكنيها، وما تبقّى إلّا بعضٌ من جدارٍ وهذا الحجر.
ــــــــــ كأنّهم لم يأتوا قبل نزول المطر.
ــــــــــ كانوا مُنشغلين بترميمِ كمنْجةٍ بلا وتَر.
***
ذاب طيفُ الصبيّة في أديم الحيّ، أو هكذا خُيّل إليّ، عندما كانت الشمسُ وراء المئذنة. ولاح، بوجهٍ شاحبٍ، ذاك القمر. واستيقظتْ أمام عينيَّ، من خلف الأسوار والشجر، مدائنُ تَسكنُني وأستقصي فيها الخبَر.
لمدائننا ما يشتهيه الفؤادُ ويعشقُه النظر. غير أنّنا، بحكمةِ عمِّنا أبي الطيّب المتنبّي، نحترف الخطايا ونُجافي الجنانَ ونرضى بالدجَن.
***
لبيروتَ ما تُضاهي به باريسَ ومدريدَ ولندن: دارُ طباعةٍ وحضارةٌ وفنون. عروسٌ هي بين الصبايا. سوى أنّ اللوحة التي تراها ليست هي، بل تقليدٌ بأصباغٍ ـــ تقادمتْ مع مرّ السنين ـــ لرسّامٍ لا يَعرف لغةَ الألوان فيها ولا كُنهَ الجمال. لو عاد خليل حاوي إلى زماننا لاستنهض ألعازرَ مِن رقدته لِيقرأَ سرَّ العقمِ فينا، ويلتمسَ الدواءَ من شرّ السقَم.
***
يتوق الفتى لدمشقَ الشام. هنا يتعانقُ الناقوسُ والآذان، وتنعم الحاراتُ بسكينةٍ وسلام:
"سلامٌ مِن صبا بردى أرقُّ ودمعٌ لا يكفكَفُ يا دمشقُ"
يُسائلني ممدوح عدوان، ذات ليلةٍ صيفيّةٍ على شاطئ هذا المحيط، عن وجعِ القبيلة: أين تكمن الفجيعة، أفي الشاعر أمْ في القصيدة؟ وأجاب، متأمِّلًا نارًا كنّا قد أوقدناها لنستدفئَ بها:
"سيجتمع الغريبُ مع القريب فينا ليخُطّا معًا فرمانَ الوقيعة."
***
بأمّ عيني رأيتُهم يَدكّون صدورَ الأبيات وينكثون أَعجازَها، ويرمون بقوافٍ وزحافاتٍ وعللٍ على قارعة الطريق. فيقول سائلي من عمق ذاتي: ما هذه بغدادُ لِتثأرَ من مُريديها، فلا يُسَرّ من رآها يا سامرّاء!
زينةٌ هذه القصيدة يا صاحبي عبد الوهاب البيّاتي، وما هي بقُرطُبةَ ولا الزهراء حتّى تَتلوّنَ الاستعارةُ قاتمةً سوداءَ بين أصابع أبينا بدر شاكر السيّاب. ولسوف لن يرضاها الفُراتُ موّالًا، ولا دِجلةُ نغمًا.
***
في جوف الليل حسبتُ الكنانةَ قد نامت حالمةً على صدرِ نِيلها، فإذا بها ترفعُ شكواها لطيره، وقد جفّت السقيا من مآقيها، والساحةُ غادرتْ محِبّيها. قلِقٌ فتاها على أُمّةٍ لا تبتسم لِصبحٍ، ولا تُغنّي عندما يأتي المساء. إذا خطَّ حافظ إبراهيم حرفَ الضاد على رمل الشاطئ تمحوهُ بِجرّةِ كفٍّ أجسادُ العابرين. وحينئذ يصرخُ أمل دنقل، هذا الجمركيُّ الموعودُ شعرًا، في وجوه المعجَبينَ والمهرولين:
إِنْ هي إلّا كذبةٌ كبرى، أو لعلّها من أساطيرِ الأوّلين. ارجعوا ولا تحشروا أنفسَكم في زمرةِ المخدوعين.
***
ويسألونكَ عن صنعاء، حين بكى طفلٌ فما اهتزّتْ أمومةٌ للنداء. صنعاءُ، يا مدائنَ من أبيضَ وبُنّيّ، سامقةً كما النخلُ في علياءِ السماء. يا دارَ حكمةٍ يغسلها مأْرِبُ بالماء. ما هذا الجنونُ الذي يخنق الهواء، إِذِ اقتعدَ البردوني ركنًا قصِيًّا في حاضرة سبَأ، يتأمّل سيرةَ التفاوض بين بلقِيسَ وسليمان، والهدهدُ يفسّر الرؤيا في غَسقِ البيان؟!
***
تربّعت الثريّا في كَبد الليل، وها قد بلغ الركبُ دارَ السلام. هي القُدس أمُّ مَنْ لا أمَّ له من عربٍ وعجم. والأمُّ لا تُجافي أبناءَها، تُعاتبهم حينًا، وتحنو عليهم أكثرَ الأحيان؛ وإذ أدارَ لها الإخوةُ وأبناءُ العشيرة ظهورَهم ـــ وقد كانت قِبلتَهم ـــ تَراهم انبهروا بقطعانٍ صُفْرٍ من بقر، ومِن فرط إعجابهم بِزيفِ بريقها عشقوا رعاةَ البقر.
كئيبةٌ تلك الأبوابُ والحاراتُ والأزقّةُ والمآذنُ والكنائس. غير أنّ القدس، كما هي مِن ألف عامٍ وعام، تصارع المِحَن، من طَعْن عِدَاها وظُلمِ قُرباها ونأيِ الأمل؛ فلا تهضمُ هزيمةً، ولا تبتلعها بجرعَةِ آهٍ، لأنّ التاريخ يَعِدُها دومًا بالبقاء.
***
وما بين طرابلس وبنغازي تدبُّ أرتالٌ من جُندٍ بلا ملامح، والدمُ في إثرها يعوي في بيداءَ مِن جماجم. كأنّما آلهةُ الإغريق بُعِثتْ من رميمها مزمجرةً باللعنات، تُلاحق موجَ المتوسّط، ليكتبَ مآسيَه الجديدةَ في بحر العرب.
***
ومع إطلالة الفجر الأولى أيقن الملأُ العظيمُ أنّ "الخضراءَ" تستفيق من نومٍ بها بات ثقيلًا، وأضحى الزيتونُ يمتصّ رحيقَ الشعر من نارٍ لم تقدحْ لهيبَها يدٌ من زمان، صاح بها طالبٌ من جامع القيروان، قد أقسم بعنفوان الشباب، أن يدحرَ قدرًا أعمى يسرق الأمنيات، ويمزّق ياسمينَ الأحلام.
***
هي مدائنُ من مدائنَ صارت تكتوي بهمِّها، وتُقلّب سرَّها بين فرحةٍ طافحةٍ من سامرّاءَ وصرخةِ الحسين في كربلاء من أجل قطرةِ ماء. كأنّما القومُ بين كفّتَيْ ميزان: بين الأمّ الحنونِ، ونصلِ سكّين. والحكيم فيهم لا يبكي حجرًا ولا يَرثي مدنًا، إنّما يُعانق بشرًا يَحقّ له أن يحيا كما يشاء.
المغرب