يسير الكونُ بسكّانه على شفا زمنٍ رقميّ معولم. فعَمّا قريب سيَفقد الأحياءُ منّا نشوةَ التلذّذ بأريج الورق المطبوع. بمعنًى آخر، سيَدخل المطبوعُ الورقيُّ سجلّاتِ التاريخ في ما سيُعرف لاحقًا بـ"العصر الورقيّ."
تلك النبوءة منظورةٌ واقعيًّا، وإنْ طال الزمن، بحكم مؤشّراتها المتعدّدة. وأكثرُ هذه المؤشّرات جلاءً: انسحابُ العديد من المطبوعات الورقيّة من الفضاء الثقافيّ، وتحوّلُ بعضها إلى إنتاجاتٍ رقميّة. وهذا ما يَطرح أسئلةً إشكاليّةً على راهن الثقافة العربيّة ومستقبلها، وهي ثقافةٌ تعاني اختلالاتٍ شتّى على مستوى الإنتاج والتوزيع والمقروئيّة.
فالعالَمُ الذي نحياه الآن، ويُعَرّف في معجم الإعلام والاتّصال بأنّه قريةٌ صغيرة، هو في حقيقته عوالمُ مُجَزّأةٌ بين الفقر والغنى، والجهل والأمّيّة والوفرة العلميّة، والإنتاجيّة والندرة حدّ الجفافِ والتصحّر. وهنالك مفارقةٌ صارخةٌ بين عالمٍ يُصنِّع التكنولوجيا ويسوّقها ويشيِّد رخاءه من عائداتها، وعالمٍ يتهافتُ على استهلاكها تحت جبروت الإشهار وخلقِ الحاجة. هذا العالم الثاني مُواطنُه مكرَهٌ بسلطة المنتوج التكنولوجيّ، الذي لا يعرف منه إلّا الأزرارَ الظاهرة، إذ متى ولج باطنَه وَجد نفسَه في مجاهل العماء. وهذا العماء سيولِّد إحساسًا بالغبن، يَنْتج منه انتقامٌ مبطّن: تارةً عن طريق التخريب؛ وأخرى عن طريق فكّ الشفرات المستغلقة، والقرصنة، وكافّةِ سُبُلِ التحايل للظفر بالخدمة التكنولوجيّة مجّانًا. وفي سبيل ذلك طاقاتٌ بشريّةٌ وفكريّةٌ تُهدر للاشيء.
لا ريْب في أنّ المشهد الثقافيّ العربيّ يتأثّث بمناراتٍ فكريّةٍ وإبداعيّةٍ وعلميّةٍ مضيئة، تمتصّ نورَها ظلالٌ قاتمةٌ من سدول الأمّيّة القاتمة؛ أمّيّةٍ لم تعد بالبسيطة، ولا يتحدّد مفهومُها في الجهل بالقراءة والكتابة فحسب، بل باتت أيضًا أمّيّةً مركّبةً ومضاعفةً تطاول حَمَلةَ الشهادات. ذلك أنّ الرهان على مجتمع المعرفة سرعان ما تتّسع المسافةُ دونه، بالنظر إلى الفشل الذريع للمنظومات التربويّة والسياسات التعليميّة العربيّة، منذ الثمانينيّات من القرن الماضي، لعدم مواكبتها مستجدّاتِ العصر. وقد جعلها هذا ذاتَ "امتياز" في إنتاج الإخفاق وجيوشِ العاطلين وأنصافِ المتعلّمين، ناهيك بالميزانيّات الضئيلة المرصودة للإنتاج الثقافيّ والمعرفيّ والبحث العلميّ.
هذه الوضعيّة القاتمة هي التي أنتجتْ ثقافةَ الـ "بين بين": فصارت المقروئيّةُ من نصيب منتوجٍ ثقافيٍّ معولَم ينخره وسواسُ الاستهلاك السريع والمربِح، وتوزّعتْ بين مقروئيّةٍ انتهازيّةٍ ومقروئيّةٍ مبتسرة؛ إذ ليس للباحث الجامعيّ من بحثه إلّا اسمُه، وأدواتُ الربط بين الفقرات. بل في الكثير من الأحيان يصبح "البحثُ" دكّانَ عطارةٍ يوجد فيها كلُّ شيء إلّا شخصيّة الباحث ولمساته بين الخاصّة. حتمًا سييصدر واحد من هؤلاء "الباحثين" كتبًا وأبحاثًا تشْبهه لدى ناشرٍ يشْبهه. لقد قُلبت الموازين: فصار الرديءُ قاعدةً، والجيّدُ استثناءً، وضاع القارئ في الـ"بين بين."
ورُبّ مَن يجادل قائلًا: "إن سنّة الحياة هي التغيّر والتبدّل والتحديث، وما وسائطُ الاتّصال وتكنولوجيا الإعلام إلّا لنقل المعلومة، ولا ضير في اقتنائها أو استعمالها..." والحقّ أنّ العيب لا يطاول الوسائطَ بقدر ما يسائل مستعمِليها عن درجة استعمالها ومعرفتِهم بها. فلئن كانت المقروئيّةُ في العالم العربيّ لا تصل إلى الحدّ الأدنى عالميًّا، وإذا كانت المطبوعاتُ في تراجعٍ مَهول، فإنّ العيب ليس في الوسيلة، بل في تغييب الخدمة الثقافيّة من مختلف السياسات التنمويّة والاجتماعيّة واعتبارِها ترفًا وهدرًا ماليًّا. والعيب يكمن في مخرجات العقول التي أَنتجتْ تلك السياساتِ الجاهلةَ بدور العامل الثقافيّ في التنمية المستدامة، والجاهلةَ بآثاره في مختلف مناحي الحياة العامّة.
هذا العيب الطارئ والمزمن في المشهد الثقافيّ العربيّ سينعكس على المثقّف الرصين، ويُضاعف غربتَه غربتيْن: غربتَه في مجتمعٍ لم يتخلّص من أمّيّةِ القراءة والكتابة؛ وغربتَه في "أمّيّةٍ ثقافيّةٍ علميّة" تُنتج الفراغَ وتروّجه... بأحدث الوسائل والتكنولوجيّات.
ولئن ظلّ الحالُ على حاله من دون نهضةٍ ثقافيّة عربيّة متجدّدة، فسنسير حتمًا في عالمٍ ليس لنا، أو نحن فيه مجرّدُ أرقامٍ في جداول الإحصائيّات... تمامًا كما لو كنّا وجوهًا للزينة في شريطٍ يتوسّط المسافةَ بين الكوميديا والتراجيديا. ومن ثمّ حُقَّ لذاك المثقّف الملسوع بهموم أمّتّه أن يستذرف دموع غوتنبرغ ونحيبَ زرقاء اليمامة!
المغرب