اكتشف الإنسانُ الصورةَ قبل أن يكتشف الكتابة. ولنتذكَّرِ الإنسانَ الأوّل، وقد رأى صورتَه لأوّل مرّةٍ على صفحة الماء: إنّها اللقطةُ التي تبرعمتْ منها نرجسيّتُه، وأشعلتْ لهيبَ الغيرة لدى أنثاه؛ لقطةٌ هاربةٌ تُعبّر عن الموت والحياة معًا؛ تُحنّط الكائنَ في الوجود الذي كان، بأفراحه وأتراحه، وتستعيده الذاكرةُ أو الصورةُ أو الآلةُ ــــ في ما بعد ــــ خلقًا مستعادًا مؤثَّثًا بتلك الأحاسيس الثاوية في أعماقه. لذلك رفضها بدايةً، واحتمى بالرمز الكاليغرافيّ، أو الكتابة، لأنّها عنوانُ تجدّده واستمراريّته: ينفخ فيها من روحه بقراءته لها، فيُعلن وجودَه الحيَّ.
لم تنقطع وشائجُ الصلة بين الكائن الأوّل وذرّيّته من سائر الخَلق. ولم تنفكّ عُرى الوصال بينه وبين الطفل منذ الأشهر الستّة الأولى من حياته، حين تبتدئ خطواتُه على درب اكتشاف الأنا، فتشكّل الصورةُ حضورَها القويّ لديه ــــ سواء عند تعرّفه إلى بيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة، أو تمثّله للواقع المعيش في شكل تصوّراتٍ متخيّلةٍ أو حُلميّة. ولا أدلّ على ذلك من دراسات جاك لاكان ــــ العالم النفسانيّ الفرنسيّ ــــ لمرحلة المرآة في حياة الطفل، وتمثّلاته المعرفيّة الأولى عن ذاته والمحيطين به، والتي تعقبها مراحلُ تاليةٌ تتراكم معها الصورُ في ذاكرة الإنسان عبر الواقع الحياتيّ والبيئيّ، وفترات نموّه المختلفة.(1)
ولئن كانت الصورةُ هي الوسيطَ الأوّلَ لإدراك العالم، فإنّ اللغة هي وسيلةُ التعبير عنه وعقلنتِه وتفسيرِه وتحويلِه إلى رموزٍ ودلالاتٍ ذاتِ مرجعيّاتٍ ومدلولاتٍ مختلفة. هذا التآلفُ الخفيّ والظاهر هو أحد عناصر الدهشة والتوتّر التي تغشى قارئَ بيت المتنبّي وهو يرسم صورةً شخصيّةً للخليفة تعاكس صورَ أعدائه، في ما يشبه اللقطةَ واللقطةَ المضادّة:
تَمرُّ بكَ الأَبطالُ كَلمَى هَزيمَةً وَوَجهُكَ وضّاحٌ وثَغرُكَ باسِمُ
وإذا كانت اللقطاتُ ثابتةُ وهادئةً نسبيًّا من خلال هذا البيت، فإنّ امرأ القيس يقدّم، من خلال معلّقته، صورًا هادرةً وأكثرَ حركيّة؛ بما يمكن نعتُه بالصورة والصورة المقابلة أو المفسّرة أو "الميتا صورة":
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ معًا كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السيْلُ مِن عَلِ
وستحظى الصورةُ بعنايةٍ فائقة من لَدُنِ شعراء الحداثة، إذ غدَت أحدَ العناصر الأساسيّة لتحقيق الإبلاغيّة وتوليد المعنى. هكذا نجد السيّاب يمثِّل نموذجًا متفرّدًا في تشكيل الصورة الشعريّة، إذ يقول في قصيدة "أنشودة المطر":
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السَّحَرْ
أو شرفتانِ راح ينأى عنهما القمَرْ
هذه الصورة الشعريّة تحمل معجمًا وازنًا من لغة السينما: فهي أوّلًا من فئة اللقطات الكبيرة جدًّا لأنّها تركّز على جزءٍ من الوجه، أي العينين. وهي، ثانيًا، ذاتُ تأطيرٍ (Cadrage) متميّز، ويتّضح ذلك من إيحائها للأهداب عبر بانوراميك هارِبٍ (Panoramique filé) تتحوّل معه الأهدابُ بمونتاج ناعم ومتوالد وتدريجيّ إلى سعف النخل. وهي، ثالثًا، غوصٌ وإبحار في الذاكرة. وهي، رابعًا، حنينٌ وشوقٌ لأملٍ بعيد. وهي، خامسًا، صورتان متداخلتان ومندمجتان، بل هي ثلاثُ صور متحرّكة بأجمل ما تكون الحركة. وبالنتيجة نحصل من خلال هذين السطرين على اللقطات السينمائيّة التالية:
- لقطة كبيرة جدًّا: العينين والأهداب.
- لقطة بانوراميّة هاربة: نخيل قرية جيكور في العراق.
- لقطة متوسّطة: الشرفتان والقمر المتنائي.
***
من هذه النماذج الشعريّة الثلاثة، تحضر العناصرُ المؤسِّسةُ للفعل الدراميّ، المكان والزمان والفعل، لتشكّل مشهدًا سينمائيًّا مكتملًا. كما تتوارى الذاتُ الرائيةُ إلى الوراء، لاقطةً الحدثَ، ومُبَئّرة (Focusing) عليه. وهو حدث لا يخلو من الإحساس بالفخر والحماسة تارةً، والإعجاب والوصف تارةً أخرى، والذكرى والحنين واللوعة والفقد تارةً ثالثة.
لقد استأثرت الصورةُ الشعريّةُ باهتمام كبير من قِبل المنجَز النقديّ العربيّ، قديمًا وحديثًا، باعتبارها مدارَ اشتغال الصناعة الشعريّة، ولكون الشعر ضربًا من التصوير، يمتدّ جذرُه المعجميّ لفعل تصوّرَ أو تخيَّلَ،(2) ويلتقي مع المفردة الفرنسيّة(3) image أو imagination. هكذا تلتقي المادّةُ المعجميّةُ للسانيْن العربيّ والفرنسيّ على أعتاب الممكنات المشرعة أمام القارئ لتشغيل آليّات تحليل الصورة الشعريّة، من منطلقاتٍ متعدّدةٍ بلاغيّة وسيميولوجيّة وتقنيّة تستفيد من علم الصورة والحركة، وتفتح النصَّ الشعريّ على آفاقٍ قرائيّةٍ أكثر خصوبةً وثراءً.
تونس
1ـ Jacques Lacan, Écrits (Paris : Éditions du Seuil, 1966), p 93
2ـ راجع لسان العرب، باب الصاد، مادّة ص و ر. أو باب الخاء، باب خ ي ل.
3 ـ Dictionnaire encyclopédique (Paris : Hachette, 1980, vol 2), p 645