‎أهوى القراءةَ منذ الطفولة. وقد ابتدأ مشوارُ هذا الهوى مع مجلّات عدة: أحمد، لولو، سوبرمان، ماجد، وكتب الألغاز البوليسيّة. ثمّ انتقلَ إلى مواضيع أكثرَ صعوبةً وعمقًا، ككتب الفلسفة وعلمِ النفس ــ ــ وأجملُها عندي تلك التحليلاتُ والأحداثُ التي تُقدَّم في قالب الرواية.

‎أذكرُ أنّني كنتُ في صغري أُنفقُ قسمًا لا يُستهان به من مصروفي على شراء الكتب. ولم يكن أهلي من المشجِّعين: فلم يُدْخلوني إلى هذا العالم بأنفسهم، ولم يساعدوني على اختيارِ ما أقرأه، ولم يهدوني كتابًا، ولم تكن لدينا في المنزل مكتبةٌ تستحقّ الذكرَ، ولا بادر أبي يومًا إلى زيادة مصروفي ليحفّزني على شراء مزيدٍ من الكتب. لذا كان عليّ دائمًا الاختيارُ بين شراء الشوكولا والسكاكر... أو التلذّذِ بكتاب.

***

‎لا أذكر كيف اهتديتُ إلى الكتاب في سنٍّ مبكّرة. جُلُّ ما أعرفه أنّه، منذ طفولتي، كان يَسْهل تركي في رفقة كتاب. وكان أوّل ما يلفت نظري حين زيارتي بيتًا المكتبةُ الموجودةُ فيه. وكنتُ، بالإحساس قبل التصفّح، قادرةً على التمييز: بين مكتبةٍ مُعدّةٍ للديكور، وأخرى مُعدّةٍ للروح والسفر والخيال. والحقيقة أنني أمقت مكتباتِ الزينة، وأشكرُها في آنٍ واحد: فهي تعرّي أصحابَها، وتُعْلمُك أنّك في حضرةِ متباهٍ فارغٍ منذ الزيارة الأولى.

***

لم يكن مصروفي يكفي لشراء كلّ الكتب التي أريدها. لذا كنتُ أستعير الكتب أحيانًا. أعترفُ بأنّني رددتُ بعضَها، واستبقيتُ أخرى. فيا ليتكم تسامحونني! أمّا أنا فلن أسامحَكم على كتبٍ أخذتموها مني، ولم تردّوها بعد!

‎شخصٌ واحدٌ لن أسامحَه أبدَ الدهر، على الرغم من وفاته: إنّه مالكُ متجر الكتب الذي افتُتِح لمدّة ليست بالطويلة قرب بيتنا. كان يُؤجِّر الكتبَ مقابل كتب؛ فمقابلَ كلِّ كتاب أستأجرُه أعطيه ثلاثةَ كتبٍ ليستملكها!

كنتُ أشعر بالغبن حين أشهدُ على مقتنياتي الثمينة من الكتب وهي تتلاشى، بينما تتكدّس كتبُه بعضُها فوق بعض. حاولتُ أن أفاوضَه، لكنه كان يردّني قائلًا: "بدّك تتشاطري عليّ يا بنت طعّان؟ أبوكِ فيه يشتريلك مكتبة، وعم تحارجيني ع كتاب؟!"

‎لم كن يدري أنّ أبي يحدِّد لي مصروفي. ولم يكن يدري أنّ العلةَ هي في تجارته غير العادلة. آه تذكّرتُ الآن: كان اسمُه عادل، ويا لَلْمفارقة! هكذا قضى "عادل" على مقتنياتي من كتبٍ أخصبتْ ذاكرتي وخيالي، لكنها لم تُعِنِّي على نسيان فعلته.

‎القراءة تجعلك صديقًا حميمًا للكاتب، مع أنك لم تلقَه قطّ. وهذا الانشداد يبدأ حين تشعر أنّه يتكلّم بلسانك، وأنّه يُترجم أفكارَك وأحاسيسَك بدقّةٍ وتفصيل.

‎أحلام مستغانمي، الروائيّة الجزائريّة المشهورة، كانت أختي بالقراءة. هي الوحيدة التي وصلتْ إلى عقلي وقلبي معًا، وكأنّها في كلِّ ما كتبته كانت تحمل كاشفًا ضوئيًّا ينير ما في داخلي ويُخرجه، فأعرف نفسي، وأكتشفُ العالمَ من حولي.

‎عَلِمَ أحدُ أصدقاء العائلة ـــ وهو كاتب وشاعر كبير ـــ بمحبّتي لهذه الكاتبة، فاتّصل بها، ودعاها إلى غذاء مُشترك. رحّبتْ أحلام بفرحٍ كبير، واتّفقنا أن نلتقي.

ذهبتُ إلى الغذاء مع إحدى صديقات أمّي مشكورةً. الأحرى أنّ تلك كانت هي الطريقةَ الوحيدةَ كي يسمح لي أهلي بالذهاب؛ فكيف أكون وحدي مع رجل وروائيّة؟! وعلى رأيهم، "ريّحيلنا راسنا! شو بدنا بالقراءة والكتّابّ؟!"

والتقينا.

كنتُ مثقلةً، وقيودُ أهلي ما تزال ترافقني، وآثارُ البكاء الذي نجم عن جدالي معهما ما يزال واضحًا. تحايلتُ على وجهي ببعض البودرة، ورسمتُ الدمعَ بالكحل، ثمّ أسرعتُ إلى الالتحاق بموعدي، مدّعيةً أنّ كلّ شيء على ما يرام.

‎كانت أحلام تقف أمام إحدى متسوّلات شارع الحمرا، وهي تقصّ عليها حكايةَ أخيها المريض. وكانت المتسوّلة تحمل بيدٍ تقريرًا طبيًّا، وباليد الأخرى طفلًا، وتطلق من فمها حكاياتٍ وأدعيةً، وكلَّ ما يلزم من أدوات التسوّل التي لا تنطلي علينا... ولكنها انطلت على أحلام، التي ناولتْها $150، واعتذرتْ بصدقٍ منها، بل وعدتْها بارسال المزيد!

‎على مائدة الغذاء جلسنا متحاذيتيْن. تقاسمتُ مع أحلام كسراتِ الخبز. ناولتُها فخذَ دجاجٍ، وجاطَ السلطة. وناولتني هي، وصديقُنا، الكثيرَ من القصص.

‎ حين انفردنا أنا وأحلام أصبحتُ على سجيّتي تمامًا. تحدّثنا عن الرواية، وعن الرجل والمرأة والأمّ والحبّ، وعن جسور قسنطينة وبيروت وفرنسا. أسرّت لي بأنّ خالد بن طوبال سيموت في روايتها الجديدة، التي كانت تحتار بين اسمين لها. عابرُ سريرٍ عنوانٌ جريء، قلتُ لها؛ فحياتُنا مراحلُ أسِّرة: سرير طفل، سرير نوم، سرير عشق، سرير كرْه، سرير مرض، سرير موت. كلُّنا عابرو أسرّة.

‎كان عيدُ ميلادي بعد لقائنا بثلاثة أيّام. أعطتني رقمَها الخاصّ، ودعتني إلى زيارتها في فرنسا، حيث ستكتب إلى جانب الشاطئ، كي نحتفل بعيدي معًا.

‎على طريقة أهلي رددتُ: "إنْ شالله." وعلى طريقة أهلي ختمتْ أحلام لقاءنا هامسةً في أذني: "انتبهي على نفسك."

‎***

بعد ساعتين من لقائنا اشتعل العالم.

التلفزيونات تعلن خبرًا عاجلًا: "طائرتان تجتاحان برجَي التجارة العالميّ، وأميركا تتعرّض لضرباتٍ إرهابيّة!"

‎بقي رقمُ أحلام في حوزتي، ولكنّني لم أتصل بها، ولم ألبِّ دعوتها إلى الكوت دازور. والى اليوم، يرى الجميع في تاريخ ١١ أيلول حدثًا إرهابيًّا غيّر مجرى السياسة الدوليّة. أما أنا فلا أرى فيه... سوى الأحلام. ومن يومها أكتب، وأردد لهذه الأحلام قول أهلي: إن شاء الله.

صور