- خديني إلعبْ على التلج.
- ياهدى، بإمكاننا أن نتنزّه في بيروت أو جبيل. أستطيع أن آخذكِ إلى أماكن جميلة أخرى؛ فالثلج قد ذاب.
تردّ هدى:
- سو بيلوت؟ أنا تِل يوم ببيلوت. بدّيس" (أيْ: شو بيروت! أنا كلّ يوم ببيروت. بدّيش).
هدى من عُمر أمّي. تلثغ بأكثر من حرف، كالأطفال. ولا أعلم إنْ كان ذلك عن قصدٍ أو قهر.
تغمزني أختي: "هذه رغبتُها. تعرفينها: هي مصرّةٌ على التنزّه اليوم في الجبل، وأنا وعدتُها بذلك."
نرضخ لرغبتها، ونتّجه صوب الجبل بهدف بلوغ أيّ منطقةٍ فيها ثلجٌ كافٍ. بلغْنا منتجعَ مياه صحّة، فاكتشفْنا مكانًا جميلًا نتيجةً لعنادِ هدى. ما إنْ وطئتْ قدمُها الثلجَ حتى راحت كالطفلة تلعب وتلتقط الصورَ وتضحك وتقول:
- تؤبليني (تقبريني) الله يسعدك يا لَبّ (ربّ).
ندخل المطعم. مكانٌ أنيقٌ تتوسّطه مدفأةٌ مستديرةٌ على الحطب. تصرخ: "ياي ياي سومينيه" (شومينيه). تختار طاولةً قربها وتجلس: "أح وليييييييي، سو هيدا سخنة بتحلق حلِق (بتحرق حرق)! "
نجلس ونتسامر. نضحك ونأكل. ونلتقط مزيدًا من الصور.
لدى هدى أرشيفٌ كاملٌ للعائلة من الصور؛ فهوايتُها تسجيلُ الذكريات -- منذ طفولتنا، مرورًا بكلّ مراحل عمرنا، حتى زواج بعضنا وإنجابه أطفالًا.
ولعلاقة هدى بالأطفال حكايةٌ خاصّة. فقد سُلِبَتْ منها ابنتُها يومَ ولادتها في المشفى لأنّ الأب كان أرستقراطيًّا ولم يرضَ أهلُه بأن تكون هدى أمًّا لها. ومنذ ذلك الحين تمارس هدى أمومتها مع كلّ الأطفال.
في الوقت نفسه، كان كلُّ راشدٍ فينا يراها قاصرةً يجب احتضانُها.
لا أدري إنْ كنّا نحن مَن ربّيْنا هدى واحتضنّاها، أمْ هي مَن ربّتنا واحتضنتْنا.
كان يُتمُها تصريحًا لوالديَّ بوجوب معاملتها بشكلٍ خاصّ. وقد ورثنا ذلك نحن منهما، فسامحناها عن بعض "تجاوزاتها." ولكنّها كانت تتمرّد فجأةً، فتحرد وتترك البيت. غير أنها لا تلبث أن تعود محمَّلةً بالهدايا لنا كلّنا، على الرغم من ضيق أحوالها.
كانت تنادي أمّي بـ"ستّ زمال" (ستّ جمال). وهذا اللقب يستخدمه، إلى اليوم، أغلبُ أفراد العائلة عندما يمازحون أمّي، مستحضرين طيفَ هدى وأسلوبَ كلامها. وفي إحدى حرداتها هدّدتْ أمّي: "هلق بفرجيكِ، يا أنا يا أنتِ بهالبيت!" فغادرتْ هدى البيت، ولكنّها لم تلبثْ أن عادت وخاطبتْ أمي: "بتعلفيني مزنونة! وبعدين اعتبليني متل بنتك!" (بتعرفيني مجنونة وبعدين اعتبريني متل بنتك)، مع انها أكبرُ من أمّي سنًّا!
قد تسامحها أمّي على غلطتها الأولى، ولكنْ كيف تغفر لها تكبيرَ سنِّها؟!
***
كانت هدى تستخدم قناعَ "ولدنتها" لتبرير أخطائها. وكانت مضطرّةً إلى الهروب إلى الولدنة لتنجو من قسوة البلوغ. سنواتُ عمرها شهدتْ أوجاعًا توازي أوجاعَ أمّة. اختارها أبي من مكتبٍ للاستخدام، وآثرَها على غيرها لأنّها يتيمة. ومرّ الزمنُ لتكتشفَ أنّ أهلها على قيد الحياة؛ كان ذلك حين صادفتْها أختُها في ردهة عيادة عمّي الطبيب وصُعِقت من الشبه الفاضح بينها وبين أختهما الثالثة التوأم لهدى. هربتْ هدى في بادئ الأمر خوفًا، وعندما صدّقتْها انهمر دمعُها. كنّ خمسَ أخواتٍ، فرقتْهنّ زوجةُ أبيهنّ بين ملاجئ كثيرةٍ كي تُبعدَهنّ عنه إلى الأبد.
***
كانت هدى تفرح عندما تزور أهلَها وتعود إلينا وتخبرنا: "لحت (رحت)عند أختي... جاي من عند أختي... خيي كمال بيلضى وما بيلضى (بيرضى وما بيرضى)..." والمفاجأة أنّها، في سبيل تذوّق شعور الأخوّة، كانت تتقبّل قسوةَ أخيها، وهي التي نادرًا ما خضعتْ لأحد. ولكن لم يكن ذلك ليدومَ طويلًا، إذ سرعان ما تعود إلينا قائلة: "سو بدّي فيه، ولييي سو قاسي!"
***
كنّا ملجأها الدائم. جَمَعَنا بها كلُّ شيء إلّا الدم.
إلى أن دخلَتِ المستشفى ذاتَ يوم في حالةٍ حرجة، واحتاجت إلى الدم. فتبرّعتْ لها أمّي بشيء منه، فشكرتْها باكيةً مستهزئةً على طريقتها: "الله يخلّيلي ياكي، بس سو فيكي دمْ إنتِ؟ إنت بلا دم، " وذلك لكون أمي نحيفةً.
يومها، استغرب الطبيبُ تحسُّنَ وضع هدى الصحّيّ، ووصفه بمعجزةٍ من الله، ورفض تقاضي أتعابه قائلًا: "أنا أيضًا أريد أن أقدِّم لآخرتي. ستبني هدى بأتعابي قصرًا في الجنّة!"
يسخِّر اللهُ عبادَه بعضَهم لبعض، ولكلّ عطاءٍ أجرُه. لا أعرف إنّ كنّا نحن مَن أخذ بناصية هدى أم العكس. كلُّ ما أعلمه أننا عشنا مع هدى سلامًا داخليًّا يؤكّد أنّ أجملَ النعيم قلوبٌ مطمئنة.
***
يوم توفّيت هدى، بكيتُ بحرقة. مرّ أمامي شريطُ حياتي في لحظات. لم أعد أعي كيف لحياتي أن تفقدَ شخصًا تجذّرإلى هذا الحدّ في كلّ تفاصيلها. كيف كانت تنساب في أيّامي ببساطة، وكيف تنساب الآن من حياتي إلى الأبد. فكّرتُ في أختي التي تدلّعها هدى، وفي أخي الذي تحبّه، وفي أولاده الذين تدلّلهم، وفي أمّي التي تشاكسها دومًا.
وفكّرتُ في أبي؛ فاطمأننتُ إلى روحه!
جلستُ إلى جوار حفْرتها. قرأتُ ما تيسّر من القرآن الكريم، وبعثتُ كثيرًا من الحبّ في مكانٍ سيلفُّ جسدَها بعد ساعات. ثم اتّجهتُ إلى قبر أبي. جلستُ قربه وخاطبتُه فرحةً: "بابا، إجت لعندك هدى."
أعلمُ شدّةَ حبّه لها، وشدّة إضحاكها له. نظرتُ إلى السماء. شعرتُ بروحهما المطمئنتيْن معًا.
اليوم نزور بابا وهدى في المقبرة؛ فقد استطعنا أن نحصلَ على تصريحٍ بدفنها في قريتنا، مع أنّ العُرفَ يقضي بأن لا يُدفن فيها إلّا أبناؤها. قلتُ لإمام القرية: "هويّتُها لا تحمل كنيتَنا، لكنّ الجميع يعلم أنّها من عائلتنا ويسمّونها هدى طعّان."
دُفنتْ هدى بجوار أبي، ورفض حافرُ القبور أن يتقاضى أجرَه أيضًا. استطاعت هدى أن تبني قصرًا لمن تكفّل بحفر قبرها حبًّا.
***
هدى،
في مثل هذا اليوم تمامًا زرنا الثلجَ معًا محتفلين بعامٍ جديد. ختمنا يومًا جميلًا بفرحة، وبدموعٍ منك شاكرةً: "تؤبلوني، الله يوفقّكن ويخلّيلي ياكن يا لبّ."
عرضتْ هدى أن تساهم في تكاليف اليوم. رفضتُ، فبكت أكثر، وقالت: "تؤبلوني."
طلبتْ أن لا نوصلَها إلى منزلها داخل الحيّ خوفًا على سيّارتي من وعورة الطريق. أصررنا فبكت أكثر، وقالت: "تؤبلوني."
بعد فترة من رحيلِكِ، دخلتْ أختي الصغرى منزلَكِ يا هدى، لتجده مزيّنًا بصورنا منذ طفولتنا. وفي إحدى الزوايا هدايا كنتِ قد هيّأتِها لأحدِنا في زياراتٍ مقبلة.
أختُكِ أخبرتنا أنّ هناك شيئًا خاصًّا جلبتِه لي بين أغراضك. لم نعرفْ أيَّ شيءٍ قصدتْ.لا يهمّ؛ فقد وصلني منك الكثيرُ الكثير. وأهمُّ ما وصلني منكِ هو دفاعُك عنّي منذ صغري حين كنتِ تبرّرين هفواتي بالقول: "ما تلوموها لأنْ رفاه تلبايتي (تربيتي) ومزنونة (مجنونة) متلي."
كان تكتيكًا ذكيًّا منكِ ادّعاءُ الجنون. لا يهمّ إنْ كنتُ قد أخذتُ من جنونك أو من حنكتك. فالمهمّ أن قلبَكِ أبيض، وأنك محاربة، لا تؤذين، لا تخضعين، ولا يهمّكِ الربح.
تربحين دومًا سلامَكِ وترحلين.
وبهذا أتمنّى أن أكونَ مثلك.
صور