شكّلتْ إفريقيا على الدوام منطقةَ نفوذٍ وصراعٍ بين القوى العالميّة الكبرى لما تختزنُه من مواردَ طبيعيّة، ولما تتمتّعُ به من مواقعَ ومنافذَ ومضايقَ إستراتيجيّة. ومن المتداوَل أنّ التوسّع الاستعماريّ الأوروبيّ يعود إلى أسبابٍ عديدة، أهمّها: الأزمةُ الاقتصاديّةُ التي مرّت بها أوروبا وحاجتُها إلى أسواقٍ جديدة، وتطوّرُ صناعة الأسلحة، وتقدّمُ وسائل الملاحة البحريّة.
اليومَ، تتسارع وتيرةُ التسابق الدوليّ إلى اغتنام الحصّة الكبرى من الكعكة الإفريقيّة. وفي سياق التحوّلات العالميّة واستئسادِ القيم الرأسماليّة، نلمسُ تغيّرًا عميقًا في رؤية الولايات المتحدة، عرّابةِ المشروع الإمبرياليّ الجديد، إلى مضمون "الجغرافيا الحيويّة" التقليديّة التي كانت تنتهجها، لتنفتح ـــ بدورها ـــ على القارة الإفريقيّة بعد إهمالٍ دام عقودًا. فكيف رسمت الإدارةُ الأميركيّةُ إستراتيجيّتَها الجديدة للقارّة الإفريقيّة؟
لا شكّ في أنّ غياب التنافس القطبيّ العالميّ فرض على الساسة الأمريكان إعادةَ صوغ أولويّاتهم على قاعدة توسيع "الجغرافيا الحيويّة" لأميركا ـــ تلك الجغرافيا التي تكون حدودُها حيث تكون مصالحُ الأمّة الأميركيّة. وكانت الحربُ على العراق قد شكّلتْ ملامحَ البنية الدوليّة الجديدة التي حاول النظامُ العالميُّ الجديد، بقيادة الولايات المتحدة، إعادةَ صياغتها وفق رؤيته الجديدة. وقد بدأتْ هذه الرؤيةُ في التبلور منذ زيارة بوش الابن لخمس دولٍ إفريقيّة في يونيو 2003، أيْ بعد ثلاثة أشهر فقط من سقوط بغداد، في تجسيدٍ واقعيٍّ للرؤية الأمنيّة التي عبّرتْ عنها كوندليزا رايس، مستشارةُ الأمن القوميّ الأميركيّ آنذاك. وقد ركّزتْ رايس في تلك الرؤية، التي كانت قد وضعتْها ضمن برنامج بوش لحملته الانتخابيّة سنة 2000، على أمور أساسيّة: التعاملُ بحزم مع خطر الأنظمة المارقة، وتأمينُ احتياجات الولايات المتحدة من الطاقة، وتنويعُ الواردات من دول بحر قزوين وأميركا اللاتينيّة وإفريقيا. وستتعمّق هذه الرؤية مع ولاية أوباما، وقد عبّر عنها صراحةً في كلمته أمام البرلمان الغانيّ في زيارته الأولى لإفريقيا في يوليو 2009، إذ قال: "نتطلّع نحو المستقبل؛ فمن الواضح أنّ أفريقيا اليوم أهمّ من أيّ وقتٍ مضى بالنسبة إلى أمن ورخاء المجتمع الدوليّ، والولاياتِ المتحدة على وجه الخصوص."
يرسّخ حديثُ أوباما ملامحَ الإستراتيجيّة الأميركيّة القائمة على أساس أنّ حدود الولايات المتحدة هي حدودُ مصالحها الحيويّة، المتمثلة في الموارد والثروات الحيويّة بشتّى أشكالها. وهي الاستراتيجيّة عينُها التي مهّد لها تقريرُ ديك تشيْني، وفيه أشار إلى ضرورة إنشاء قواعدَ عسكريّةٍ في جميع مناطق النفط في العالم (من كازاخستان إلى أنغولا) لضمان أمن الطاقة الأميركيّ. لكنّ أوباما وسّع رؤية تشيْني، مضيفًا إلى الحسابات العسكريّة الضامنة للأمن القوميّ الأميركيّ ثلاثةَ أسس: النفوذ الديبلوماسيّ والثقافيّ، والاستقلاليّة في توفير الموارد الطبيعيّة، والقدرة التنافسيّة في التجارة الدوليّة.
***
لا غرو في أنّ اهتمام الإدارة الأميركيّة بالقارّة الإفريقيّة نابعٌ من أهميّة هذه القارّة لمستقبل النظام العالميّ الجديد الذي تقوده الولاياتُ المتحدة. وهذا ما كشف عنه التقريرُ المشترك لبنك التنمية الإفريقيّ، ولجنةِ الأمم المتحدة للتعاون الاقتصاديّ والتنمية، وتقريرِ لجنة الأمم المتحدة الاقتصاديّ لإفريقيا للعام 2010. فقد أكّد التقريرُ المشترك أنّ اقتصاد القارّة يحقّق معدّلاتِ نموٍّ مطّردةً، أسهم فيها اكتشافُ كميّاتٍ كبيرةٍ من النفط الخام في منطقة خليج غينيا وبحيرة تشاد وحوض ناوديني في شمال مالي والمناطق الحدوديّة بين السودان وأنغولا ومنطقة البحيْرات. وقد قدّر مؤتمرُ الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) مجملَ الاحتياطيّ النفطيّ الإفريقيّ بـ 80 مليار برميل، أيْ 8 % من الاحتياطيّ العالميّ الخام (تنتج إفريقيا جنوبَ الصحراء ما تنتجه إيرانُ وفنزويلا والمكسيكُ مجتمعةً!). وإنّ سيطرة الولايات المتّحدة على نفط العراق ونفط إفريقيا، التي لا تنتمي بلدانُها المنتجةُ إلى منظّمة الأوبيك باستثناء نيجريا، سيجعل منها قوّةً مركزيّةً في التحكّم في سعر البترول، والسيطرة على الديناميّة الاقتصاديّة العالميّة، ومن ثمّ سيَخنق الاقتصاداتِ المنافسةَ والصاعدة.
وزيادةً على الثروة النفطيّة تتمتّع إفريقيا بمجموعةٍ من المعابر التجاريّة والموانئ والمضائق البحريّة المهمّة على المحيطيْن الهنديّ والأطلسيّ. وهذا ما يسمح للقوّات الأميركيّة بالانتشار العسكريّ، وبسهولةِ تعقّبِ مراكز "الإرهاب." كما تتمتّع إفريقيا بمخزون هائل من الألماس واليورانيوم وغير ذلك من المصادر المعدنيّة.
***
انطلق التحرّكُ الأميركيُّ في القارّة الإفريقيّة بتحديد الدول المفتاحيّة القادرة على حماية المصالح الأميركيّة هناك، وهي: جنوب إفريقيا ونيجريا وكينيا وإثيوبيا والمغرب والجزائر. |
تعتمد الرؤيةُ الإستراتيجيّة الأميركيّة، في كلّ تحرّكاتها وحروبها ومشاريعها، على وكلاءَ دوليّين أو إقليميّين. وقد انطلق التحرّكُ الأميركيُّ في القارّة الإفريقيّة بتحديد الدول المفتاحيّة القادرة على حماية المصالح الأميركيّة هناك، وهي: جنوب إفريقيا ونيجريا وكينيا وإثيوبيا والمغرب والجزائر. وما يهمّنا هنا هو الدولتان العربيّتان المدْرجتان حليفتيْن استراتيجيّتيْن للمشروع الأميركيّ في المنطقة الإفريقيّة، أي المغرب والجزائر، متسائلين عن انعكاسات هذا الوضع على العلاقات الثنائيّة بين البلديْن، وعلى المستقبل الحيويّ لشعبَيْهما، وعلى مستقبل التكتّل المغاربيّ.
لقد وَجدت الإدارةُ الأميركيّةُ في الفراغ الإقليميّ في المنطقة المغاربيّة فرصةً لإملاء شروطها على اللاعبين الرئيسين فيها. فالتنافسُ بين المغرب والجزائر على الزعامة الإقليميّة، وصراعُهما المزمنُ حول قضيّة الصحراء، جعلا إدارتَي الرباط والجزائر تهرولان نحو خطْب ودّ الجشع الأميركيّ، ولو على حساب مصالحهما الإستراتيجيّة ومستقبلِ شعبيْهما الحالميْن بمشروعٍ تنمويٍّ مشترك.
ومن هنا تسابقَ المغربُ والجزائرُ تسابقًا مجنونًا نحو التسلّح، بغيةَ إظهار أحقّيّة كلٍّ منهما بالزعامة الإقليميّة وبخدمة المشروع الأميركيّ في القارّة. فالمغرب يخشى دورَ الجزائر المتنامي وسيطًا إقليميًّا لقضيّة أمن الساحل والصحراء، وهو ما برز في أزمة دولة مالي. أمّا الجزائر فحاولتْ سنة 2010 توطيدَ نفسها لاعبًا إقليميًّا محوريًّا من خلال عقد اجتماعٍ متعدّدِ الأطراف في مدينة تمنراست الجنوبيّة ـــ وفيه أسّستْ خليّةً رسميّةً للتعاون الأمنيّ بين الجزائر من جهة، والنيجر وموريتانيا ومالي من جهةٍ أخرى، وأقصي المغربُ من هذا الاجتماع. وفي المقابل، رفضت الجزائرُ المشاركة في اجتماع لخبراء مجموعة الثماني (مالي، 2010) بسبب دعوة المغرب إليه.
هذا التنافسُ المحمومُ ظهر أيضًا في الأزمة الليبيّة. فبعد أن أعطت الولاياتُ المتحدة الضوءَ الأخضرَ لاجتماع الفرقاء السياسيين الليبيين في مدينة الصخيْرات المغربيّة تحت رعاية الأمم المتحدة، حصلت اجتماعاتٌ مماثلةٌ، وبرعايةٍ دوليّةٍ كذلك، لفرقاءَ سياسيين ومناطقيين في العاصمة الجزائريّة. وبدا وكأنّ الأمر "تطييبُ خاطر" أكثر منه بحثًا جدّيًّا عن حلّ للأزمة الليبيّة.
أمام هذا الصراع برز إلى السطح تقنينٌ لدور البلدين في المستقبل:
ـــ فقد صار من المسلّم به إسنادُ الجانب العسكريّ في محاربة "الإرهاب" إلى الجزائر؛
ـــ وأوكل للمغرب دورُ "القوة الناعمة،" ممثّلةً في رعاية الجانب الدينيّ والروحيّ لدول الساحل والصحراء، وفي نشرِ التوجّه المذهبيّ المالكيّ الذي يسود المنطقة. كما تمّ استثمارُ الجانب التاريخيّ لفكرة "إمارة المؤمنين،" التي تمثّلها المؤسّسةُ الملكيّةُ تاريخيًّا في العديد من المناطق الإفريقيّة. واستُثمر أيضًا العاملُ الطُّرُقيّ، ممثَّلًا في الطريقة الصوفيّة التيجانيّة التي تدين بها غالبيّةٌ كبيرةٌ من المواطنين في بعض الدول الإفريقيّة. كما أُسند للمغرب دورُ الوكيل الاستثماريّ لأميركا في القارة الإفريقيّة، من خلال تشجيعه على الظهور بمظهر الحامل للمشروع التنمويّ في القارة الإفريقيّة؛ وهذا ما عكسته الزياراتُ المتكرّرةُ التي قام بها العاهلُ المغربيّ إلى العديد من الدول الإفريقيّة، وتغليب الطابع الاقتصاديّ والاستثماريّ عليها.
***
الغائب عن ذلك كلّه هو التنسيقُ بين قادة البلديْن خدمةً للمشروع التكامليّ المغاربيّ، ولمستقبل أجيال دول المغرب العربيّ. فإذا كانت الإدارة الأميركيّة تبني إستراتيجيّتها الجديدة في إفريقيا على مبدأ تأمين "الجغرافيا الحيويّة" لأميركا، وزيادةِ حجم استثماراتها، وترسيخِ نفسها قوةً عظمى وحيدةً قادرةً على بسط نفوذها على العالم، فإنّ المغرب والجزائر ما يزالان يشتغلان وفق منطق "الحرب الباردة" الذي تمّ تجاوزُه منذ زمن، عبر حربٍ استنزافيّةٍ قاسية، وارتهانٍ مسعورٍ للخطط الأميركيّة، التي أثبت التاريخُ أنّ الرهان عليها هو كالرهان على السراب في رحلة المسافات الطويلة.
الدار البيضاء