في العام 1995، كان هناك كتابٌ ضخمٌ على رفّ المكتبة الكبيرة التي اعتدتُ زيارتها مع والدتي. كنتُ ما أزال طفلةً في المدرسة الابتدائيّة، وفضولي المعرفيّ أكبرَ من فضول قطّ صغير. سألتُها عنه، فقالت إنّه قاموس.
لم تكن تلك المرّةَ الأولى التي أرى فيها قاموسًا ضخمًا؛ فقد كانت لدينا في المنزل نسخةٌ ثمينةٌ من قاموس لاروس الفرنسيّ الذي يعود إلى والدي. ولأنّني كنتُ أجد متعةً كبيرةً في التنقّل بين صفحاته، فقد بدت لي فكرةُ الحصول على قاموسٍ مماثلٍ باللغة العربيّة أمنيةً عظيمةً. اتفقتُ مع والدتي على أن يكون هديّةَ نجاحي القادمة. وبعد شهرين تمامًا، أمسكتُه بين يديّ، فشعرتُ بأنّني أمسكُ العالم.
كان الجميع يستغرب تصرّفاتِ تلك الطفلة وشغفَها بقراءة "القاموس،" إذ لا أحد يفتح القاموس إلّا بحثًا عن معلومة معينة، فلماذا كنتُ أقرأه عشوائيًّا؟ كان هذا يثير سخريةَ مَن حولي، غير أنّني لم أكن آبه كثيرًا. وبلغ بي الجنونُ مبلغَه حين بحثتُ عن مكانٍ لي في قسم الأعلام ضمن حرف الحاء، وبدقّةٍ عجيبةٍ كتبتُه بين الأسماء بقلم الرصاص.
***
هنا بدأتْ قصّةٌ أخرى، هي قصّتي مع دار الآداب التي كان اسمُها مكتوبًا على الغلاف. ما دارُ الآداب؟ كنتُ أتصوّر أنّها منزلٌ كبيرٌ يصنعون فيه الكتب. لكنْ مَن يصنعها؟ وما شكلهم؟ هل يشْبهون العمّالَ الطيّبين الذين يصنعون هدايا بابا نويل، وكنتُ أشاهدُهم في أفلام الكرتون؟ هل تنتثر الأوراقُ والكتبُ الرائعة حولهم كما تنتثر تلك الهدايا الملوّنة؟
حثّتني هذه الأسئلة على اقتناء عدد كبير من كتب دار الآداب منذ ذلك الحين، وعلى البحث أيضًا عن كتبها داخل مكتبة المنزل التي كانت مكتظّةً بنسخٍ نادرةٍ أصبحتِ اليوم كنزًا أعتزُّ به. ومن دون أن أدري كنتُ أتّجه تلقائيًّا نحو إصداراتها عند دخول أيّ مكتبة. كنتُ أتعلّم منها ومِن كلّ مَن عبروا بهذه الدار، فلا أقرأهم بقدْر ما أقرأ الحياةَ.
وذات يوم قطعتُ، بخطوات ثابتة، أرضيّة معرض الكتاب، المغطّاةَ بالموكيت الأحمر، لأتّجه إلى دار الآداب، ولأتعرّف إلى "صنّاع الهدايا" هؤلاء. ومن الطريف أنّي تعرّفتُ إلى كلٍّ منهم في بلد مختلف وفي مناسبة مختلفة، كانت أجملَها بالتأكيد في بيروت حينما جلستُ أمام تلك المرأة العظيمة التي اسمُها عائدة مطرجي، زوجةُ الراحل سهيل إدريس. يومها كان التاريخُ أمامي يسامرُني بكامل أناقتها على بحر الروشة، وبكامل ثقافتها وطيبتها واهتمامها بي، رفقة ابنتيْها رنا ورائدة.
علّمتنا "الآداب،" دارًا ومجلّةً، أنّ "المبدأ" أهمُّ من المال، وأنّ الحياة لا تساوي شيئًا من دون إيمانٍ عميقٍ بقضيّة عادلة.
|
لاحقًا تعرّفتُ إلى الأستاذ سماح، الذي لا يعرف حتى وقت كتابة هذه السطور أنّه في صباح اتصاله بي، قبل حوالى السنة، لطلب الكتابة إلى موقع مجلة الآداب الجديد، كنتُ قد قضيتُ ليلتي أفكّر في ترك الكتابة: فقد كنتُ أشعر باللاجدوى التامّة، وبأنّه لا بدّ من ترك معركةٍ تزداد سوءًا مع هذا الانحدار الثقافيّ المخيف الذي نعيشه. غير أنّي حين استيقظتُ صباحًا على رسالته تفاجأتُ، وظننتُ أنّ أحدًا من العائلة توسّط لي لديه. لكنه أكّد لي أنّه أخذ القرارَ بعد أن قرأ بعضَ كتاباتي. فكان هذا بالنسبة إليّ إشارة واضحة إلى أنّ الله لا يريدني أن أتركَ المعركة، وأنّه أرسل إليّ هديّتيْن وحقّق لي حلميْن في آنٍ واحد: حلمَ عودة مجلة الآداب التي أحزننا غيابُها طويًلا، وحلمَ الكتابة في هذه المجلة التي كتب فيها أعظمُ أدباء العصر والتي طالما احتفظتُ بنسخٍ نادرةٍ منها تعود الى الخمسينيّات، بعد أن التقطتُها صدْفة من "بسطةٍ" في شارع المتنبّي ببغداد.
***
هذه هي قصتي مع الآداب، دارًا ومجلّة. تربّيتُ طفلة بين صفحات كتبها ومجلّتها، وتعرّفتُ إلى العالم من خلالها، وهيّأتني لأصبح اليوم محاربةً في صفوفها واسمًا يشارك فيها... مثلما هيّأتْ مئاتِ الأطفال غيري ليكونوا كتّابًا أو شخصيّاتٍ فاعلةً تحارب من أجل الإنسانيّة.
لقد علّمتنا الآداب، دارًا ومجلّةً، أنّ "المبدأ" أهمُّ من المال، وأنّ الحياة لا تساوي شيئًا من دون إيمانٍ عميقٍ بقضيّة عادلة، وأنّ علينا أن نصقلَ "رؤيتنا" الخاصّةَ إلى العالم ـ بالأدب والفنّ والثقافة قبل كلّ شيء ـ لكي نحاربَ بها الظلمَ والبشاعةَ اللذيْن يغرق العالمُ العربيُّ فيهما.
وأستطيع القولَ في النهاية إنّ الصورة الخياليّة التي أخذتُها عن "الآداب" قبل عشرين عامًا لم تختلف كثيرًا عن حقيقتها: إنّ القائمين عليها عمّالٌ طيّبون، يعيشون في منزلٍ كبيرٍ، ويصنعون الهدايا الملوّنة.
الجزائر