حتّى الساعة، أثبت الطاقمُ السياسيُّ الممسكُ بالدولة أنّه لا يريد حلَّ أزمة النفايات بعيدًا من الفساد والمحاصصة، وبشكلٍ بيئيٍّ ومستدامٍ وشفّاف. وربّما هو لا يقدر أصلًا على ذلك، من دون أن يعني ذلك تبرئتَه أو إسعافَه بأسبابٍ تخفيفيّة.
فأزمة النفايات، التي ظهرتْ إلى العلن بفضل حملتيْ "إقفال مطمر الناعمة" و"طلعتْ ريحتكم" منذ إقفال مطمر الناعمة في 17/7/2015، لا تُختصر بتراكم الزبالة في الشوارع، أو بعدم اتفاق أركان السلطة السياسيّة داخل الحكومة على حلّ، أكان في الطمر أمْ في الترحيل. بل هذه الأزمة أعمقُ وأعقد، سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا:
ـــ إنّها إحدى ممارسات الطاقم السياسيّ الحاكم، وطريقةُ احتكاره الدولةَ والبلدَ وإدارته شؤونَ المواطنين؛
ـــ وهي أيضًا تعبيرٌ عن النظام الاقتصاديّ، الذي حوّل لبنانَ سوقًا ومنجمًا، في الهواء الطلق، مستباحيْن، فاسديْن، تحكمُهما المحاصصاتُ وقيمُ الجشع المتّكئة على الفوضى والاستقواء، وتقودُهما المافياتُ والأخطبوطاتُ المتداخلة مع الطاقم السياسي؛
ـــ وهي أيضًا وأيضًا أحدُ العوارض غير الجانبيّة للثقافة والتربية الوطنيّتين والاستهلاكيّتين غير الرشيدتين وغير المرشّدتين.
وعلى أهميّة الإنجاز السياسيّ الذي يُسجّل للحراك المدنيّ الشعبيّ الشبابيّ، المتمثّل في فضح "عجز" الطاقم السياسيّ المتسلّط عن إيجاد حلٍّ مستدامٍ وبيئيّ وغير مرهق للخزينة، فإنَّ الإنجاز الأهمّ هو فتحُ الحَراكِ "بابَ الأمل"، ولو بدا للبعض عكسُ ذلك. فالحراك لم يعبّر عن ضيق المواطنين بالأحوال التي أوصل الطاقمُ السياسيُّ الدولةَ والبلدَ إليه فحسب، ولم يُترجِمْ بعضًا من رغبة المواطنين في محاسبة الفاسدين وبناءِ دولة القانون والمؤسّسات فحسب، ولم يقل إنّ السياسة ليست للمذهبيين والفاسدين وحدهم فحسب، وإنّما أشار بوضوحٍ أيضًا إلى حاجة لبنان إلى قوًى سياسيّةٍ جديدة. بل إنّه وفّر، إلى حدٍّ ما، "بيئةً" يمكن أن تولّد قوًى سياسيّةً جديدةً، وأن تجدّد قوًى وخطاباتٍ "قديمةً"؛ والباقي من هنا فصاعدًا هو مسؤوليّة المواطنين والناشطين والمجموعات والحملات والمحازبين... مسؤوليّة المجتمع.
وهنا لا بدّ من الالتفات إلى أنَّ الحراك ليس بديلًا من القوى السياسيّة ذاتِ الخطابات التغييريّة الديموقراطيّة وأساليبِ العمل الواضحة، بل يُفترض أنّه عملُها ومساحتُها النضاليّة.
***
لكنْ، أين الحراك اليوم؟
هذا السؤال جائز. والإجابة عنه لا تُختصر بالقول إنّه "خمد،" أو بالبحثِ عمّا تقوم به المجموعاتُ والحملات. والسبب في التحفّظ عن الاختصار أو الاختزال ليس رفضَ الإقرار بالخمود (وهو حقيقة)، وليس تقليلًا من شأن الحملات والمجموعات. السبب هو القول إنّ الحراك، الذي تجاوز أزمةَ النفايات إلى المطالبة بوقف الفساد ومحاسبةِ الفاسدين وبناءِ دولة القانون والمؤسسات، أوسعُ من الحملات والمجموعات والتظاهرات والاعتصامات: إنّه الموجةُ التي أطلقها المجتمعُ اللبنانيُّ اعتراضًا على الفساد والمحاصصة وتجاوزِ القوانين وتعطيلِ الحياة السياسيّة والدستوريّة. لهذا، فإنّ السؤال اليوم يتجاوز الخمودَ، ويتجاوز ما تفعله الحملاتُ والمجموعات، إلى امتحان المجتمع اللبنانيّ، وما إذا كان سيُطلق حيويّاتِه التغييريّة أمْ سيخمدها كرمى لعيون المذهبيّة والزعماء وتطبيعًا مع اليأس والفساد.
***
باختصار، كما هي "بسيطة" أخطاءُ (شباب) الحراك وسط صورته المدنيّة الشعبيّة الجميلة، ولاسيما في 29 آب 2015، فإنّ سؤال "أين الحراك اليوم؟" صغير في ظلّ السؤال الأكبر: ماذا يفعل المجتمع اللبنانيّ وماذا سيفعل؟
وأما امتحانُ المجموعات، ومَن معها، فهو الواقعيّة السياسيّة، والتأصيلُ الاجتماعيّ، والديموقراطيّة.
بيروت