أيّتها الأخوات والرفيقات، أيّها الإخوة والرفاق،
حضرات الطلّاب الفائزين بمسابقة غسان كنفاني،
حضرات الأمّهات والآباء الفخورات والفخورين،
شكرًا لحضوركم. وشكرًا لبعلبكّ، لكونها مكانًا فريدًا يَجمع بين الفنّ والمقاومة، وبين الحياة الحرّة والاستشهادِ في سبيل هذه الحياة الحرّة.
وشكرًا لاتحاد بلديّات بعلبك على رعايته هذا النشاط. آملُ أن تعني "الرعايةُ" هنا استعدادَ الاتحاد الموقَّر للإسهام معنا، كحملةِ مقاطعة وكلقاءٍ وطنيٍّ ضدّ التطبيع، في رسم خطّةٍ مفصّلة، أقترحُ أن تكون سِماتُها الأساسيّةُ ثلاثًا:
1) مواجهة التطبيع الثقافيّ الذي كثيرًا ما يمرّ من بوّابة المهرجانات الدوليّة، وخصوصًا من بوّابة الفنّانين الذين يُحْيون حفلاتٍ في الكيان الصهيونيّ، أو يَجْهرون بحبّهم لـ "إسرائيل،" ثمَ يُحْيون مهرجاناتٍ فنيّةً في لبنان وكأنّ شيئًا لم يكن! هؤلاء الفنّانون، شاءوا أمْ أبوْا، يتواطأون مع العدوّ، حين يَسمحون له باستغلال حفلاتهم تلك كي يقدّمَ نفسَه إلى العالم في صورةٍ حضاريّةٍ تنبِض بالفنّ والموسيقى والمرح والسلام والأمان، ولكنّها تطمِس ما يرتكبه من قتل وتهجير وتهويد وعنصريّة.
2) السمة الثانية من خطّتنا هي ترويجُ مقاطعة الشركات الداعمة للعدوّ الإسرائيليّ، وهي شركات منتشرة في لبنان، وفي بعلبكّ ضمنًا. إنّ مقاطعة هذه الشركات تُسهم في إضعاف العدوّ اقتصاديًّا، أسوةً بما تقوم به المقاومةُ المسلّحة عسكريًّا. وقد حدّدتْ حملةُ المقاطعة أبرزَ هذه الشركات، استنادًا إلى معاييرَ واضحة، أهمُّها: البناءُ على أراضٍ مسروقة من الشعب الفلسطينيّ، وشراءُ شركات إسرائيليّة، وتزويدُ جيش العدو بمُعَدّاتٍ تدمِّر مخيّماتِ شعبنا وبلداتِه، ورعايةُ منتخباتها الرياضية ومهرجاناته الفنية.[1] وفي المقابل، نتمنّى على اتحاد البلديّات أن يَدعم الصناعةَ الوطنيّة، والصناعاتِ غير الداعمة للعدوّ، وأن يكافئَ ولو رمزيًّا كلَّ مَتْجرٍ يبيع منتوجاتٍ غيرَ داعمة لهذا العدوّ.
3) السمة الثالثة من خطّتنا هي الأهمّ، وتتعلّق بالقطاع التربويّ في لبنان، وفي بعلبكّ ضمنًا. فأثناء أحدِ اجتماعات اللجنة التربويّة المنبثقة عن حملة المقاطعة واللقاء الوطنيّ، تداولنا في اقتراح إقامةِ نشاطٍ في بعلبكّ يكون موجَّهًا إلى طلّابها وطالباتها التكميليين والثانويين حصرًا. فأجمع الرفاقُ على تبنّي هذا الاقتراح لشعورهم أنّ قضيّةَ فلسطين تكاد تكون مغيَّبةً في المدارس اللبنانيّة. وكنّا قد لاحظنا تعليقَ "محور القضيّة الفلسطينيّة" في منهج التاريخ في الصف التاسع أساسيّ حتى العام 2017، وذلك قبل أن يُصْدر وزيرُ التربية توجيهًا بإعادة إدراجه. كما لاحظْنا تغييبَ هذا المحور عن الامتحانات الرسميّة، وضعفَ التطرّق إلى تاريخ الصراع العربيّ ـــ الإسرائيليّ، وغيابَ أيّ ذكْر لحركات المقاطعة والمقاومة العربيّة، وكأنّ التصدّي لإسرائيل "يُحْرج" بعضَ التربويين والسياسيين اللبنانيين! فقرّرنا إصدارَ عريضةٍ، نعلن عنها خلال أسابيع، يوقِّع عليها مئاتُ التربويين والمثقّفين والقانونيين والسياسيين اللبنانيين، تحثّ الجهاتِ المختصّةَ على اتّخاذ الإجراءات الضروريّة لمناهضة التطبيع في التربية والتعليم لكونه أحدَ أخطرِ أشكال التغلغل الصهيونيّ في بلادنا.
نأمل أن يَعمدَ اتحادُ بلديّات بعلبك إلى الإسهام معنا في وضع فلسطين في قلب المشهد التربويّ اللبنانيّ. فالأمر ليس رفاهيّةً أيّها الأعزاء، وإنّما هو في صُلب التربية الوطنيّة؛ ذلك أنّه يستحيل بناءُ جيل وطنيّ لبنانيّ صاعد إذا كان بعيدًا عن فلسطين، ويستحيل بناءُ هويّةٍ وطنيّةٍ لبنانيّة لا يكون تحريرُ فلسطين في قلبها.
***
أمّا بعد، فقد قرّرنا في ذلك الاجتماع أن يكونَ محورُ النشاط التربويّ في مدارس بعلبكّ الشهيد غسّان كنفاني. فكلّفني الرفاقُ باختيار عمليْن من أعماله الأدبيّة، على أن يكون الأولُ ملائمًا لمن هم بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة من عمرهم، والثاني لمن هم بين السادسة عشرة والسابعة عشرة. راجعتُ غالبيّةَ أعمال كنفاني، فاخترتُ للفئة العمريّة الأولى قصتيْن من مجموعته المعنونة عن الرجال والبنادق، واخترتُ للفئة الثانية روايتَه الشهيرة رجال في الشمس. وشرعتُ في وضع أسئلة المسابقتيْن.
لكنْ، لماذا هذان العملان بالذات؟ ولماذا كنفاني أصلًا؟
في الإجابة عن السؤال الأول نقول إنّ مجموعة عن الرجال والبنادق تضرِب عصفوريْن بحجرٍ واحد: فهي تضمّ قصصًا تلائم السنَّ المطلوبة، وتتحدّث في الوقت ذاته عن كفاح الشعب الفلسطينيّ ضدّ الانتداب البريطانيّ والتغلغل الصهيونيّ. اخترنا قصتيْن من هذه المجموعة، "الصغير يستعير مرتينةَ خاله ويشرِّق إلى صفد" و"الصغير يذهب إلى المخيّم،" لأنّ فيهما قيمًا ثلاثًا أحببنا أن نبُثَّها في طلّابِنا وطالباتنا:
الأولى هي أهميّةُ امتلاك السلاح في عمليّة التحرير. هذه القيمة تغدو بالغةَ الأهميّة اليوم، ليس فقط بسبب نجاح المقاومة المسلّحة في طرد الاحتلال من لبنان بلا قيدٍ أو شرط، بل أيضًا بسبب تراجع الأوهام المعقودة على "عمليّة السلام" منذ اتفاق أوسلو سنة 1993.
القيمة الثانية هي ربطُ ذلك السلاح بالإرادة والوعي، كما كتب الرفيق خالد بركات. فالمرتينة القديمة، التي كان يُظَنّ أنّها لا تَصْلُح إلّا لصيدِ السناجب والأرانب، غدت في يد "الصغير،" ابنِ السابعة عشرة، سلاحًا ناجعًا ضدّ الأعداء بفضل تلك الإرادة وذلك الوعي.[2]
أمّا القيمة الثالثة البارزة في هذه المجموعة، وتحديدًا في قصّة "الصغير يذهب إلى المخيّم،" فهي ربطُ الكفاح الوطنيّ بالكفاح من أجل العيش اليوميّ، بما يعنيه ذلك من ترابُط التحرّر الوطنيّ بالتحرر الاجتماعيّ في عقيدة كنفاني، التي كانت قد بدأتْ تتلمّس طريقَها نحو الاشتراكيّة.
أمّا رجال في الشمس فقد اخترناها للصفوف الثانويّة لأنّها إحدى أشهر الروايات الفلسطينيّة، بل العربيّة، قاطبةً. واخترناها، وهنا السببُ الأهمّ، لأنها تحدِّد مكامنَ الهزيمة العربيّة بعد نكبة فلسطين: إنّها الأنظمة و"النُّخَب" القُطريّة العربيّة، المليئةُ كسلًا وجبنًا وعجزًا؛ وأخطرُ ما في الأمر أنّها عكستْ "قيمَها" السقيمةَ تلك على الشعب نفسِه، إلى حدِّ أنّه آثر الموتَ صمتًا على الصراخ من شدّة الألم! وقد أمَلْنا أن يجدَ طلّابُنا في عبارة الرواية الختاميّة "لماذا لم يدقّوا جدرانَ الخزّان؟" تحريضًا لهم على التساؤل عن جدوى القعود والتخاذل والاستسلام العربيّ على الرغم من الموت الزاحف.
غير أنّ كلَّ هذه القيم والمعاني، التي أحببنا أن يتأمّلَها طلّابُنا ويستوعبوها، ما كانت لتكونَ بهذا الإشعاع لو لم يَعضُدها أسلوبُ غسان الأدبيُّ الفريد، الذي يَجمع، إلى السلاسة، تكثيفًا وإيحاءً وتعدّدَ أصوات. فغسان لم يَصُغْ تلك الأفكارَ الثوريّة النبيلة في خطبٍ سياسيّةٍ جامدة، بل في أدبٍ رفيعٍ ورشيق. وفي هذا كتب زكريّا محمّد: "كان [غسان] يكتُب أدبًا دِعاويًّا، لكنّه كان يكتُبُه روائيًّا. وهذه ليست باللعبةِ السهلةِ أبدًا؛ فما من أحدٍ مثله كتب أدبًا دعاويًّا من دون أن يَسقط في الدعاية."[3]
***
أمّا لماذا اخترنا كنفاني بالذات، فلأنّه ــــ في رأينا ــــ خلاصةٌ مُصفّاةٌ لِما نَطمحُ أن يكونَ عليه المثالُ الأعلى لطلّابنا الصاعدين في مدارج الحياة. فغسّان لم يكن روائيًّا استثنائيًّا فقط، أو مناضلًا فدائيًّا فحسب، بل كان أيضًا خليطًا مدهشًا من المواهب والمهارات والطاقات الأخرى. فقد كان، إلى جانب ذلك، صِحافيًّا بارعًا، ورئيسَ تحريرٍ نشطًا، ومؤسِّسًا خلّاقًا لعددٍ من المجلات والمَلاحق، وقصّاصًا مرهَفًا، وناقدًا أدبيًّا لاذعًا، وناقدًا اجتماعيًّا ساخرًا؛ فضلًا عن كونه رسّامًا، ومصمِّمَ ملصقاتٍ، وكاتبًا للأطفال! وكان أيضًا قائدًا حزبيًّا، وناطقًا رسميًّا باسم تنظيمٍ سياسيّ، هو الجبهةُ الشعبيّةُ لتحرير فلسطين، أكثرُ التنظيمات ثوريّةً في زمنها، من دون أن يؤثّرَ ذلك سلبًا في أدبِه وفنّه ــ ــ وذلك خلافًا لكثيرٍ من "الأدباء" الذين يُغْرقون أعمالَهم بتنظيراتهم الإيديولوجيّة الفاقعة. ولقد فعل غسان ذلك، كلَّه، وهو بعدُ في السادسةِ والثلاثينَ من عمره!
ثمّ إنّ هذا التنوّعَ في مجالات الثقافة والسياسة والفنّ والأدب والنقد يقف على نقيض "التخصّص" الذي تتباهى به وسائلُ إعلامنا الحديثة حين تستضيف "الباحث المختصّ" في شؤونِ كذا و"الخبيرَ الاختصاصيّ" في مسائلِ كذا. غسّان لم يكن "مختصًّا" ولا "خبيرًا" في شيء، وإنّما كان يقرأ، ثمّ يتعلّم ممّا يقرأُه، وعينُه على وطنِه وشعبِه وأمّته، لا على منصبِه وجيبِه ونجوميّته. وكان في مقدوره أن يتابعَ تحصيلَه الجامعيّ في مادّة النقد الأدبيّ في جامعة دمشق،[4] أو في غيرها، لكنه قرّر ألّا يكونَ هدفُه الشهادةَ في ذاتها، وإنّما خدمةَ السائرين على درب الحريّة والعدالة... حتى الرمقِ الأخير.
على جيلِنا الجديد أن يسألَ نفسَه: كيف نَصرِف وقتَنا كلَّ يوم؟ ألا نضيّعُ كثيرًا من ساعاتنا في التنقّل العبثيّ بين وسائل التواصل الاجتماعيّ؟ غسّان بدأ الكتابة وهو في عمركم، يا أصدقائي الطلّاب، في صفّ البريفيه، وربّما قبل ذلك، ونشر قصّةً له، بعنوان "شمسٌ جديدة،" في أهمّ مجلّةٍ أدبيّةٍ عربيّةٍ حينها، وأعني مجلّة الآداب. كان ذلك سنة 1957، أيْ وهو في الحادية والعشرينَ من عمره فقط.[5] ولا شكّ في أنّه لم يبدأ الكتابةَ إلّا بعدما تيقّن من أنّه نهل من القراءة ما يؤهَّلُه لتلك المُهمّة الجليلة؛ وهو يصرّح في أحد الأماكن بأنّه لم ينم يومًا من دون أن ينهيَ قراءةَ كتابٍ كامل!
ثمّ إنّ كنفاني لم يسعَ يومًا إلى المالِ والجاه على حساب المبادئ والأهدافِ الوطنيّةِ والقوميّةِ والاجتماعيّةِ النبيلة ــ ــ وهذه قيمةٌ أخرى يَجْدر بنا ترسيخُها في الجيل الجديد، الذي يكاد لا يَعرف عن غالبيّة السياسيين والإعلاميين الجُدد إلّا غرقَهم في "قيم" الفسادِ والاستزلام والطائفيّة وقبضِ الرشاوى. تروي آني كنفاني، رفيقةُ عُمر غسّان، أنّه حين قرّر الاستقالةَ من جريدة الأنوار وملحق الأنوار، عرض عليه سعيد فريْحة زيادةً في مرتَّبه كي لا يغادر عملَه؛ لكنّ غسان رفض، على الرُّغم من كون مرتَّبه الجديد في مجلّة الهدف هزيلًا. وتتابع آني: "[لقد] كان لغسّان على الدوام هدفٌ حتى قبل تأسيس الهدف؛ ومع الهدف كان مقتنعًا بأنه سوف يصل إلى الجماهير وإلى المخيَّمات الفلسطينيّة بشكل مباشر."[6]
***
لا نهدِف في هذا الحفل إلى الحديث عن غسّان فقط، بل إلى أن نُسهم كذلك في إنتاج "غسّانين" جُدد، هنا، في بعلبكّ، أو بيروت، أو طرابلس، أو غزّة، أو تونس، أو أيّ مكانٍ آخر يَشهد في هذه اللحظات إحياءً مشكورًا لهذا المثقّف والقائدِ الفلسطينيّ العربيِّ الأمميِّ الفذّ.
حملةُ المقاطعة واللقاءُ الوطنيّ ضدّ التطبيع اختارا إحياءَ الذكرى عن طريق فِلْذاتِ أكبادنا: أولادِنا وأحفادِنا في المدارس، آملين في تهيئة الأرض أمام جيلٍ جديدٍ يعانق "شمسًا جديدةً."
بعلبكّ
**نصّ الكلمة التي ألقاها رئيسُ تحرير الآداب، والعضوُ المؤسِّس في حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان، في مهرجان شعبيّ في بعلبكّ ("مدينة الشمس") في الذكرى الـ46 لاستشهاد كنفاني (8 تمّوز). المهرجان جاء تتويجًا لمسابقة طلّابيّة أدبيّة، جرت في 3 مدارس في بعلبكّ، عن عمليْن لكنفاني. المهرجان دعا إليه كلٌّ من حملة المقاطعة و"اللقاء الوطنيّ ضدّ التطبيع،" وذلك برعاية اتحاد البلديّات في بعلبكّ، وحضور الفائزين والفائزات مع أهليهم. أمّا "شمس جديدة،" الواردة في عنوان هذه المداخلة، فعنوانُ قصّةٍ نشرها كنفاني في الآداب سنة 1957.