(نصّ من رواية قيد الكتابة بعنوان: المفتقدة)
كان يملك يديْن مكتنزتيْن، كأنّ ثلاثَ أيدٍ مجتمعة اكتنزتْ في مساحة صغيرة وشكّلتْ يدًا واحدة. لم تكونا طويلتين أو ضخمتين مثلًا، بل مجرّد أصابع قصيرة ومكوّرة مثلَ خمس حبّات كوسا وُضعتْ بعضُها قرب بعض.
لم تفدْه يداه في دروس البيانو التي حاولتْ أمُّه طويلًا تسجيله فيها، ولم تنفعاه كذلك في حمل نايٍ أو في العزف على الكمان، لكنّهما اكتسبتا مهارةَ يديْ أبيه، الجزّار المتنقّل، الذي يزدهر عملُه في الأعياد والمناسبات الرسميّة:
يدور على أحياء الأغنياء، حاملًا أدواتِه الملفوفة في جريدة، يجزّ رأسَ الخروف على عتبات البيوت، ليقفزَ عنها الأطفالُ والأهلُ والأقاربُ والمسنّون الموشكون على الموت، ويواسي النساءَ والأطفال الذين قد يدخلون في نوبة بكاءٍ على الخروف الذي ربّوه طوال أسبوع ليجزّ هو رأسَه صباحَ العيد، مردّدًا قصة إبراهيم عليه السلام وآياتٍ من القرآن التي تبيّن فضلَ الله على إبراهيم وابنِه، وينهاهم عن البكاء لأنّ الخروف فداءٌ لأرواحهم كما كان فداءً لروح اسماعيل.
ورث الدبّاح عن أبيه صلابةَ قلبه في جزّ رؤوس الخرفان والماعز والدجاجات. في العاشرة من عمره زجّ رأسَ أول خروف في حياته، بعد أن تدرّب على عددٍ من الصيصان والدجاجات بعيدًا عن عينيْ أمّه. ومنذ تلك اللحظة أصبح لقبُه "الدبّاح." الجميع يناديه الدبّاح. حتى إنّ أحدًا لا يذكر له اسمًا آخر: "الدبّاح يلعب في الحارة،" "الدبّاح لم يكملْ إفطارَه،" "الدبّاح بلّل فراشَه"...
لم يناسب هذا الأمر أمّه، التي أرادت له مصيرًا آخر، رغم قلّة حيلتها، ورغم عدم تمكّنها من دخول المدرسة أو فكِّ الحرف، وانخراطِها في عمل العائلة، الذي حوّلتْه إلى مصلحةٍ تجاريّة: فربّت خمسَ دجاجات، وثلاثةَ خراف، وخمسًا وعشرين عنزةً عنيزيّة.
منذ رأت يديْه المكتنزتيْن، حاولتْ بكلّ قوةٍ إبعادَه عن حمل السكّين، ودفعَه نحو العزف. كانت قد سمعتْ أنّ العزف طريقة جيّدة لتهذيب النفس والجسد، وشاهدتْ مرّةً على شاشة التلفزيون الأردنيّ فيلمًا لعازف بيانو ألمانيّ بأصابع طويلة ورشيقة إلى درجة أنّها كانت مستعدّة لخيانة زوجها مع عشرة أصابع فقط. وفي تلك اللحظة تمنّت في سرّها أن يصبح ابنُها شيئًا آخر.
لكنّ الدبّاح لم يصبح سوى دبّاحٍ مشهور. وقبل أن يُكمل الخامسة والعشرين، افتتح ملحمةً في منطقة الرام، وأطلق عليها "ملحمة الثورة،" وزيّنها بصور صدّام حسين وصواريخ أرض ـ أرض ومجسّماتٍ لسيوفٍ تكاد تكون حقيقيّة. وعلى واجهة الباب الزجاجيّة كتب بطاقةً، كان يضعها كلّما ذهب إلى البيت وقتَ الغذاء:
"سأعود بعد قليل
الدبّاح"
***
استطاع الدبّاح إرضاءَ زبائنه، وأصبح مشهورًا جدًّا؛ فهو الوحيد الذي ما يزال قادرًا على ذبح بقرة أمام ملحمته، رغم أنّ ذلك مخالفٌ لقوانين البلديّة التي تقضي بأن يتمّ الذبحُ داخل المسلخ المرخّص فقط. وهو الوحيد الذي يمْكن أن تمرّ به في المساء لتجد عجلًا ممدّدًا أمام ملحمته من دون أن يقطر منه الدمُ، ومن دون أن تشتمّ رائحةً سيئةً أو ترى ذبابًا يحوم في المكان. لقد كان ذبحًا أنيقًا ومهذّبًا، فلم يتذمّر منه أحد.
كانت تأتيه كلَّ يومٍ تقريبًا، فتطلب أوقيّة لحمٍ مفروم، أو نصفَ كيلو لحمة رأس عصفور، أو صدرَ دجاج ستيك، أو شاورما، وقليلًا ما طلبتْ نصفَ كيلو كفتة من دون ثوم وفلفل، أو دجاجةً مقطّعةً إلى ثماني قطع. لقد حفظ الدبّاحُ كلّ الطبخات التي تطبخها. تخيّلها تخلع صندلها الطبّيّ عند الباب، فتدخل المطبخَ على عجل، لتصنع طعامًا قليلًا من دون تفكير: معكرونةً بالطنجرة، ستيك دجاج مع بروكولي وبطاطا مهروسة، خلطةً صينيّةً بالدجاج، ومقلوبةً أيّام الجُمَع. يخمّن كلَّ يومٍ النوعَ الذي ستطلبه، ويكافئ نفسَه بالخروج إلى المقهى كلّما أصاب. يتركها تنتظر أطولَ فترةٍ ممكنة قبل أن يؤمّن لها ما تريده. وهي لم تكن تتذمّر، تقف بهدوءٍ، أو تنظر حولها على جدران الملحمة مبتسمةً، وتراقب ما تبثّه قناةُ الأقصى، التي يديرها باستمرار، فتلوي شفتيْها أحيانًا، أو تهزّ رأسَها غيرَ موافقة، بينما هو يستمتع بكلّ تفصيل تقوم به، بوجهها أو بجسدها.
ثلاث سنوات متتالية وهي تفعل الشيءَ ذاته، وتأتي في الوقت ذاته. راقب بطنها وهو ينتفخ، وراقبه وهو يَضْمر. راقبها تصعد في سيّارةٍ سكنيّةٍ بالقرب من رجل، ثم بالقرب من رجلٍ وطفلة، ثم بالقرب من رجلٍ وطفلٍ وطفلة. داعب أطفالَها حين أتوْا معها وخربوا المكانَ، ومنحهم فرصةً ذهبيّةً في لمس مجسّم الصاروخ والسيوف المعلّقة على الجدار، وراقب وجهَها وهي تحاول منعَهم من ذلك. دخلتْ وخرجتْ يوميًّا من بابه، صيفًا وشتاءً وخريفًا وربيعًا. ومرةً واحدةً نادته باسمه من دون أن تقول "لو سمحت" كما تفعل مع أيّ غريبٍ تريد منه شيئًا، وللمرة الأولى في حياته رغب لو أنّ له اسمًا آخر.
طريقتُها في لفظ الاسم كانت تقولها كأنّها لا تريد:
"دبّاح
البرواز رح يوقع."
القدس